"عند المقارنة بين خطر الذكاء الاصطناعي وبين الأسلحة النووية نجد أن هذه التقنيات الجديدة وعلى عكس التقنيات النووية لن تكون خبيئة مختبرات الحكومات ولكنها ستكون في متناول الجميع" الجزيرة -ميدان- 15-5-2023، هكذا عبر جيفري هينتون الذي يلقب -أبو الذكاء الاصطناعي- خلال حديثه لصحيفة "نيويورك تايمز" عن مدى تخوفه من إطلاق العنان للتطوير السريع للذكاء الاصطناعي، وهو ما أكد عليه جمع من العلماء من خلال دعمهم بياناً نُشر على صفحة الويب الخاصة بمركز "أمان الذكاء الاصطناعي"، قائلين: "ينبغي أن يكون الحد من خطر الانقراض بسبب الذكاء الاصطناعي أولوية عالمية، إلى جانب المخاطر المجتمعية الأخرى كالأوبئة والحروب النووية"بي بي سي 2-6-2023.
لقد جاء هذا التطور العلمي الرهيب وما تضمنه من قفزات كبيرة خاصة في العقود الأخيرة كثمرة طبيعية لكم هائل من العلوم المتراكمة عبر قرون من حياة البشرية، وقد كان لكل أمة وشعب نصيب في تطوير هذه العلوم، وما زالت جهود العلماء من مختلف الشعوب والأمم تتضافر لمزيد من البحث والتطوير في شتى مجالات الحياة عند البشر فهذا ما يفرضه عليهم العلم وطبيعته العالمية، ولكن هذه الطبيعة التلقائية والنقية للعلم الذي من المفترض أنه وجد لتحسين حياة البشر وتسهيل عيشهم وحمايتهم وتيسير سبل تواصلهم وترحالهم وبحثهم... هامة جداً في أن لا ينقلب السحر على الساحر فالعلم أشبه ببحر واسع وطبيعته الهادفة لخدمة البشر هي بمثابة السفينة التي تُقل البشرية فإن حصل ثقب واتسع غرقت البشرية وهلكت في ظلمات بحر علومها!
وهذه المعادلة في ضرورة ضبط العلوم لخدمة البشر، هي التي دفعت الكثير من العلماء للتحذير من حصول ثقب في السفينة يوشك أن يغرقها وقد أصبحت هذه التحذيرات لافتة جداً بالتزامن مع خروج بعض التطبيقات الحديثة ومن أبرزها "تشات جي بي تي" الذي طورته شركة "أوبن إيه آي" بدعم مالي من مايكروسفت وقد وصل مستخدموه منذ إطلاقه في نوفمبر/تشرين الأول 2022 إلى 100 مليون مستخدم، وهو روبوت للدردشة يستخدم الذكاء الاصطناعي للإجابة على الأسئلة أو إنشاء نص أو حتى كود بناءً على طلب المستخدمين، ويعد وفق خبراء أسرع تطبيق إنترنت نمواً في التاريخ وقد تبعه "أوتو جي بي تي" وهو الإصدار الأحدث من هذا التطبيق وقد تم تطويره بواسطة مطور الألعاب "توران بروس ريتشارد"، ويمتلك هذا الإصدار القدرة على تحقيق المهام بشكل مستقل وربما ينجح وفق خبراء في إنجاز أعمال معقدة تشبه العمليات المعرفية للعقل البشري، وهو ما جعلهم يعتبرونه بمنزلة نذير شؤم مبكر للذكاء الاصطناعي العام (AGI) وكذلك غيرها من التطبيقات المتعلقة بالصور والصوت والفيديو ومعالجتها وإنتاجها... وتحولت هذه القفزات في الذكاء الاصطناعي إلى إنذار مبكر دفعت شخص مثل جيفري هينتون قضى حياته يُطوِّر خوارزميات الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق أن يستقيل من منصبه في غوغل بعد سنوات طويلة من العمل والتطوير وأن يفرغ نفسه وينضم لمجموعة من العلماء للتحذير والتوعية من مخاطر الذكاء الاصطناعي دون تردد، والتعبير عن هذا التوجه بالقول "ساهمتُ بتطوير تكنولوجيا باتت خطرة على العالم... ولهذا حيّدت نفسي عن العمل في عملاقها".
وبعيداَ عن هذه التطبيقات وتفصيلاتها العلمية الممتعة والتي يمكن بالبحث والقراءة التفصيلية معرفة المزيد عنها إلا أنه يظهر بوضوح ودون أدنى شك أن هناك إجماعاً دوليّاً وخصوصاً بين الوسط العلمي مفاده وجود خطر حقيقي للذّكاء الاصطناعي يهدد الوجود البشري ومستقبله، وهذا الاستشعار بالخطر دفعهم إلى أن يوجهوا دعوة للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للتحرك العاجل، فقال غوتيريش "أنّ العلماء والخبراء دعوا للتحرّك في هذا الجانب وأعلنوا أنّ الذّكاء الاصطناعي تهديد وجودي للبشرية لا يقل عن الحرب النووية"! وهنا تبرز أهمية الناحية السياسية والمبدئية في التدخل لتحديد سياسات الدول وتوجيهها في ضبط العلم ضمن إطار لا يسبب ضرراً للبشرية، وهذا مربط الفرس في هذه القضية وبالوقوف عليه يتبين مدى حجم الخطر وقرب حصوله!
إن من الطبيعي أن يذهب العالِم خلف البحث والتطوير إلى منتهاه بدافع الاكتشاف والشغف والمعرفة والفضول أحيانا، وهنا يأتي دور المبدأ المهيمن والسياسي الحاكم في ضبط الأمور، فمثلاً ألبرت أينشتاين وضع الكثير من النظريات الفيزيائية الهامة والتي تفرع عنها الكثير من الأبحاث ومنها الانشطار النووي وكيفية حدوثه وإحداثه... وهنا يأتي دور السياسي في أخذ النافع من تلك النظريات وتطبيق ما يخدم البشرية وإبعاد الضار منها وإبقائه ضمن طوره النظري ووضع قيود في بعض الأحيان وحدود للعلماء يمنع تجاوزها إلى حقول ضارة بالبشر، ولكن لم يحصل ذلك بل تم تصنيع القنبلة النووية واستخدامها في قتل البشر وسحقهم سحقاً، وأصبحت كمية السلاح النووي الموجودة حالياً في العالم كافية لتدمير الأرض عدة مرات! والسؤال لماذا حصل ذلك؟ والإجابة تكمن في المبدأ الذي ينطلق منه السياسي في نظرته للقضايا والملفات، ولما كانت "الغاية تبرر الوسيلة" في المبدأ الرأسمالي كانت الضربة النووية في اليابان وسيلة مشروعة للوصول للغاية، وهي الانتصار في الحرب فكان ذلك.
وحتى لا يتكرر ذلك الخطأ يتدارك بعض العلماء أبحاثهم كما فعل جيفري هينتون ربما بدافع إنساني غريزي حريص على البشرية وبقائها، ولكن هذا ليس كافيا كما لم يكن بيان راسل-أينشتاين المحذر من مخاطر الأسلحة النووية عام 1955 كافيا لمنع تصنيع المزيد من تلك الأسلحة بل وتحويلها إلى ترسانات مرعبة، وهنا لا بد من تدخل سياسي بدافع مبدئي لضبط الأمور وتصويبها، فيتم إحضار العلماء وبحث الإيجابيات والسلبيات لكل ما هو حديث، وبناءً على البحث الموضوعي الحريص على البشرية وخدمتها يكون القرار بما يسمح به وما لا يسمح والحدود والقيود في الاستخدام وحتى في البحث وهذا كفيل بضبط العلم ومنعه من الخروج عن السيطرة، ولكن هذا أيضاً لم يحدث فرغم الصيحات المتكررة منذ عقود لمنع الكثير من التطبيقات التي أرهقت عقول الأطفال والشباب وسرقت وقتهم وشتت تركيزهم وانعكست سلباً على صحتهم وأبدانهم وعقولهم إلا أن تلك الدول وسياسييها اكتفوا بالنظر من بعيد والتدخل الخجول في بعض الأحيان، ولن يحدث فيما هو أعظم من ذلك وما هو قادم سواء أكان متعلق بحياة البشر أو خصوصيتهم أو دورهم في الحياة... والسبب في ذلك ليس حجم الخطر أو مدى الضرر وإنما المُنطَلق الذي تنطلق منه الدول في فلترة النافع من الضار أو حتى في تحديد مفهوم النفع والضرر، فهذا مرتبط عندهم بتعريف المنفعة وفق المبدأ الرأسمالي الجشع وهي كل ما يرُغَب فيه، فالشيء النافع يكون اقتصاديا كل ما رَغب فيه البعض بغض النظر عن الأمور الأخرى فالحشيش نافع والأفلام الإباحية نافعة وعدم علاج الأمراض المزمنة نافع وكذلك التطبيقات المختلفة للذكاء الاصطناعي نافعة، فالهدف هو إشباع رغبات وبيع منتجات لتحقيق أرباح دون اعتبار للأمور الأخرى!
إن خطر الذكاء الاصطناعي ليس قائما بذاته بل هو مرتبط بهيمنة النظام الرأسمالي والشركات الرأسمالية الكبرى التي تدير الدول وتدعم أوساطها السياسية لوضع سياسات الدولة بما يخدم تلك الشركات وتحقيق أرباحها المقدسة وبما لا يعيق منتجاتها التكنولوجية والمادية بمختلف أنواعها واشكالها، وهو ما يعني إطلاق العنان لتلك الشركات التي لا تقيم وزنا سوى للربح والتنافس في السيطرة على العالم وأسواقه للانطلاق بكل طاقتها وقدرتها، وهذا الخطر بعينه ومن سوء حظ البشرية أن تأتي هذه القفزة في الذكاء الاصطناعي في ظل هيمنة النظام الرأسمالي المتوحش الذي قد يتخذ بعض الإجراءات بخصوص الذكاء الاصطناعي ضمن حد يساعده في إدارة شؤون البشر وليس رعايتهم أو ربما لا يفعل ذلك! ويعبر جيفري هينتون عراب الذكاء الاصطناعي عن ذلك بحسرة مخلوطة بدموع تبرير لبلاده التي وقف أمام مجلس شيوخها للصياح والتحذير دون استجابة جادة لتحذيراته، يعبر بقوله "... حتى لو توقفت الولايات المتحدة عن تطوير هذه التقنيات فلن تتوقف الصين، ما يعني أن الخطر سوف يستمر في التصاعد، وأن هناك مَن يجب أن يتولى التصدي له ".
إن المبدأ الوحيد القادر على توظيف كل شيء في خدمة الإنسان هو الإسلام فقط القائم على رعاية الشؤون وليس الربح والذي يجعل مقياسه في العلم وتطويره خدمة الإنسان ورعايته وتسهيل سبل عيشه وحمايته ومنع ما يلحق الضرر به وبناءً على تلك النظرة الربانية للإنسان وطريقة عيشه تستقر الحياة وتسودها الطمأنينة وتحفظ الخصوصية ويبقى للإنسان دوره الهام... وبناءً على ذلك التوجه يُوَجه العلماء ويقدم لهم الدعم المادي والمعنوي لخدمة بني جلدتهم، وبناءً على ذلك يتم وضع القيود والحدود على الشركات والمصانع وطبيعة المنتجات والبرامج وطرحها في الأسواق وآلية الوصول لها والاستفادة منها... والذي يحرم البشرية من هذا المبدأ العظيم الذي ساد العالم ثلاثة عشر قرناً هو غياب الدولة التي تطبقه وتحمله للعالم الذي ضاق ذرعاً بالرأسمالية وأنظمتها والليبرالية ومفاهيمها الشاذة، وهذا كائن عما قريب بإذن الله دولة خلافة راشدة على منهاج النبوة رحمة للعالمين.
د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين