لقد احتلت فلسطين مكانة خاصة في قلوب المسلمين، وكانت درة في تاريخهم منذ البعثة وقبل الدولة والنهضة، فكانت الأرض المباركة التي عرج منها النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى وبقيت قبلة المسلمين الأولى بعد الهجرة لمدة ستة عشر شهراً ومن ثم فتحت على يد خليفة راشد قال عنه عليه الصلاة والسلام "لَوْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ"، وبعهدة نصت على "ألا يساكنهم فيها يهود"، وتلك المنزلة في قلوب المسلمين للأرض المباركة ولمسرى النبي صلى الله عليه وسلم جعلت فلسطين مقبرة للغزاة ففيها تحطم الصليبيون والتتار وهي ذات المكانة التي جعلت الجرح عميقا عندما تمكنت الدول الكبرى وخاصة بريطانيا من احتلال الأرض المباركة وتسليمها ليهود -فكان كيانهم السرطاني- وكانت تلك الصدمة بمثابة هزة عنيفة زلزلت كيان الأمة بعد الصدمة الكبرى بإلغاء الخلافة وتقسيم بلاد المسلمين، ومنذ تلك اللحظة ومشاعر الأمة الغاضبة لم تهدأ تجاه درة تاجهم ومسرى نبيهم.
ونتج عن تلك المكانة الخاصة لقضية سياسية متعلقة بأرض مباركة ومسجد مبارك وتراب مجبول بانتصارات عظيمة أن احتلت هذه القضية أولوية في قضايا المسلمين السياسية الكثيرة التي نشأت بعد سقوط دولة الخلافة وباتت بمثابة جروح نازفة أبقت الأمة في حالة غليان مستمر وترقب دائم تتفاعل مع أحداثها وما يحصل في ساحتها، خاصة في ظل جرائم لا تتوقف بحق الأرض المباركة وأهلها والمسجد الأقصى، ومن ذلك التفاعل أن المسلمين جعلوا لقضية فلسطين ولأهلها ولمن يرفع راية القتال دفاعاً عنها مكانة خاصة واحتراما كبيرا ومنزلة رفيعة، ولكن ذلك الأمر الطيب تحول إلى مدخل خطير على القضية والأمة وهو بيت القصيد في هذه المقالة.
وأول من سلك هذا الطريق الخطير كانت منظمة التحرير تحت عنوان الممثل الشرعي والوحيد، شرعي لأن أفرادها من فلسطين ووحيد لأن فيها فصائل العمل المقاوم التي نفذت العمليات ضد كيان يهود من قتل وخطف وتفجير وزعزعة لأمنه، وأصبحت المنظمة تتحدث بذلك الشعار الخبيث بقوة وكبرياء وتعالٍ مستغلة التعاطف والتسامح النقي من الأمة مع من يرفع راية القتال والمقاومة، ومستغلة حالة الخجل التي تعتري الأمة في ظل عجزها عن التحرك لظلم وخيانة حكامها وتجميدهم للجبهات وتكبيلهم للجيوش، تعاطف جعلها تسكت على ذلك الشعار الوطني العفن وتتغاضى عن تبجح منظمة التحرير وفصائلها وتصريحاتهم ومواقفهم التي تتجاوز الأمة ومشاعرها في كثير من الأحيان، حتى وصل الحال بالمنظمة أن ترتكب الخيانات فتتنازل عن الأرض وتوقع الاتفاقيات وهي تلوح بيدها وتجاهر بخيانتها وتضرب بأحكام الإسلام عرض الحائط وتدوس رغبة الأمة في عدم التنازل عن أرضها مستغلة ذلك المدخل الذي أشرنا إليه في بداية المقالة والذي هو في أصله طيب، والعنوان دائماً مصلحة القضية وما تتطلبه القضية، وكأن القضية باتت مصدرا للتشريع يسمو فوق الدين والأحكام الشرعية والحقائق التاريخية ومطالب الأمة، وكانت تصدر تصريحات بذلك المعنى من قيادات متنطعه في المنظمة لمهاجمة من يكشف خياناتهم وانصياعهم للمخططات الغربية ويبين مخالفاتهم الشرعية، وأحياناً بشكل صريح للرد على من يخالفهم من الأمة في فلسطين وخارجها وما زالت المنظمة تتبع ذلك المسلك الخطير إلى اليوم في تجاوز الأمة والأحكام الشرعية رغم أن رصيدهم عند الأمة تبخر لأنهم تركوا القتال وتحولوا لسلطة تحمي أمن كيان يهود، ومع ذلك لا يخجلون من الاستعانة "برصيدهم" القديم للتطاول على الأمة والتمسك بفصل القضية عنها ومنعها من الحديث والتكلم بل ومهاجمتها إن أنكرت التحركات السياسية المنبطحة للمنظمة والسلطة.
ومع بروز تنظيمات جديدة على الساحة الفلسطينية تجاهد وتحارب كيان يهود تكررت الحالة من الإحساس والتعاطف إلى الاحترام والإكبار من قبل الأمة لتلك الفصائل، فهتفوا للمقاومة وتبرعوا لها وتمنوا القتال معها... ولكن ذلك الرصيد النقي من الأمة يعود مرة أخرى ليرتد عليها والسبب الغرور المختلط بقلة الوعي السياسي، وقبل ذلك كله عدم إخضاع القضية بتفصيلاتها وتفرعاتها لأحكام الإسلام بل اعتبار القضية مصدر تشريع من قبل التنظيمات التي لا ترفع شعار الإسلام وتقفز علانية عن الدين والأحكام الشرعية المتعلقة بالقضية، وفي المقابل محاولة تطويع الأحكام الشرعية لتوافق "مصلحة القضية" من قبل التنظيمات التي ترفع شعار الإسلام، فذلك من الطرف الأول يقول مصلحة القضية -وفق منظوره- دون أن يولي أي اعتبار للإسلام وكأنه دين كهنوتي لا علاقة له بالقضية والسياسة، وذلك يقول مصلحة القضية -بحسب ادعائه- ولكنه يبحث عن ذريعة شرعية وتأصيل ملتوٍ ليبرر أعماله المحرمة من موالاة ظالم مجرم والارتماء في أحضان أنظمة خائنة عميلة والجلوس مع مفاوض وعدو والصراع على سلطة تحمي المحتل، والعنوان دائماً وأبداً مصلحة القضية وكأنها باتت فوق الدين والأمة ودمائها وقيمها وحرماتها، وكأن الإسلام يخضع للقضية لا العكس!!
وهذا على فرض أن تلك المنهجية المخالفة للشرع تحقق مصالح القضية السياسية! وهذا غير صحيح بالنظر الموضوعي والوقوف السياسي المجرد على تلك المواقف، فكل تصرفات منظمة التحرير ومواقفها السياسية بحجة مصلحة القضية بعيداً عن الشرع أضرت بالقضية من ناحية سياسية بدءاً بتقزيمها والاعتراف بالمحتل والقبول بسلطة تحت نفوذه وصولاً إلى حماية أمنه وإراحته من أعباء الاحتلال، والحاضر يغني عن كثير من التفصيل... وكذلك ما تفعله الفصائل والتنظيمات خارج منظمة التحرير وخاصة في الآونة الأخيرة من الارتماء في حضن إيران والمصالحة مع طاغية الشام والجلوس مع الروس فكله مضر بالقضية سياسياً، فمن جانب هو يصيب الأمة بنكسة في ثقتها التي منحتها لتلك الفصائل ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يتعداه إلى أن تتلعثم الأمة في مواجهة من يبررون جريمة حكامها المطبعين بحجة مصلحة الدولة الوطنية، وتثور نار الوطنية والمصلحة المرتبطة بها ويعزز فصل القضايا عن عمقها الإسلامي وكل شعب يبحث عن مصلحته... وتتحول تلك المواقف السياسية لفصائل تريد تحرير الأرض إلى مواقف داعمة لأنظمة خائنة عميلة تخدم الغرب وتحمي وتحفظ حدود كيان يهود، وغير ذلك الكثير من التبعات السلبية لتلك المواقف دون أي مصلحة سياسية للقضية إن تجاوزنا الناحية الشرعية التي لا يجوز تجاوزها بالأصل... وهذا كله هين أمام غضب الله على مخالفة أحكامه وَلَي أعناق النصوص لتبرير كل تصرف تفوح منه رائحة المصلحة الفصائلية والشخصية والطمع في مناصب دنيوية ومكانة سياسية تستحق بنظر طلابها!!
إن قضية فلسطين على مكانتها وأهميتها تبقى واحدة من قضايا المسلمين المتعددة والكثيرة ولها أحكامها الشرعية الواضحة والمعلومة من الدين بالضرورة، وهي أنها أرض محتلة ويجب تحريرها من قبل الأمة وجيوشها وبالتالي كان العمل السياسي والشرعي والذي يحقق مصلحة القضية هو العمل على إسقاط الأنظمة الخائنة التي تحول بين الأمة وقضيتها، وهو العمل الذي يستجلب نصر الله وما عدا ذلك من مناورات هزلية وتملق للمجرمين والخونة ونفاق للدول الكبرى وبيع للمواقف لن يجلب على القضية إلا الأذى ولن يجلب لصاحبها إلا انفضاض الأمة عنه كما انفضت عن غيره، عوضاً عن استجلاب غضب الله ونقمته قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)}.
د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين