دعا رئيس وزراء بريطانيا (جوردون براون) إلى دستور عالمي جديد لتنظيم النظام المالي، وعبر عن أمله في الاتفاق على مجموعة من المسائل التنظيمية خلال الاجتماعات المرتقبة لمجموعة الثماني في كندا ومجموعة العشرين في كوريا الجنوبية، جاءت الدعوة بتاريخ 19/2/2010 في مؤتمر دولي عن السياسات النقدية في لندن.
فما هي حقيقة هذه الدعوة، وما هي أسبابها ودوافعها، وهل مثل هذه الدعوات يمكن أن تؤثر في النظام المالي الحالي، وترفع الظلم الاقتصادي عن الدول، وتعالج الأزمات العميقة والفساد العريض المستشري اليوم على وجه الأرض، وما هو طريق الخلاص المؤثر والمثمر، والعلاج الناجع الشافي من هذه الأزمات التي تعصف بالبشرية على وجه الأرض، وتنذر بحدوث كارثة عالمية لا تحمد عواقبها..؟؟!
وقبل أن نذكر حقيقة هذه الدعوة وأسبابها نقول: بأن هذه الدعوة ليست الأولى التي تصدر عن رئيس الوزراء البريطاني أو غيره من زعماء العالم، محذرة ومنذرة وداعية للإصلاح الاقتصادي .. فقد دعا براون في كلمة ألقاها في مقر وكالة (طومسون رويتر) في لندن في 13/10/2008 إلى إعادة صياغة (بريتين وودز) بما يتفق مع اتجاه العولمة السائد في القرن العشرين ..ونفس الكلام صدر عن الرئيس الألماني (هورست كويهر) قبل انعقاد المؤتمر بأيام قليلة، حيث دعا إلى مؤتمر مشابه لمؤتمر (بريتين وودز)، ودعا الرئيس الروسي (ميدفيديف)، ومستشاره الاقتصادي من خلال مقابلة تلفزيونية بثت على القناة التلفزيونية الأولى في روسيا، فقال (ميدفيديف): ( إن من أولويات بلاده خلال قمة العشرين بحث إعادة الاستقرار الشامل في القطاع المالي، ووضع إجراءات هادفة إلى إنشاء هيكلية مالية عالمية) ... أما مستشاره فقال: إن موسكو تدعو إلى مناقشة فكرة إنشاء عملة خاصة بصندوق النقد الدولي، كعملة احتياطية عالمية، وأضاف إن المؤسسات العالمية الدولية بما فيها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي غير مثالية، ويجب تنظيم نشاطها لتكون أكثر عدالة في علاقاتها وتعاملاتها مع الدول..!!
أما الرئيس الفرنسي (ساركوزي) فقال في كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25/9/2009 : ( أدعو الدول الكبرى لعقد اجتماع قبل نهاية العام لصياغة نظام مالي جديد، وأدعو الاتحاد الأوروبي إلى التفكير بسياسة نقدية جديدة لتنظيم البنوك).
وقد صدرت دعوات أكثر جرأة ووضوح مثل تلك التي صدرت عن حاكم المصرف المركزي الصيني (زهاوكسياشيان) حيث دعا فيها في 25/3/ 2009 إلى استبدال الدولار كعملة احتياطية عالمية بنظام نقدي دولي جديد.
فمثل هذه الدعوات الداعية للإصلاح، والمحذرة من سوء العاقبة قد صدرت بعد الأزمة المالية التي بدأت في الولايات المتحدة سنة 2007-2008، وذلك بسبب أزمة الرهن العقاري حين فجرت بالون الفساد الممتلئ والمتراكم في أمريكا وأوروبا وغيرها، وأظهرت هشاشة الاقتصاد العالمي وفساد الأساس القائم عليها..!!
وسبب صدورها عن هؤلاء الساسة والخبراء هو بالدرجة الأولى ما تمارسه الولايات المتحدة من عبودية اقتصادية على دول العالم أجمع، من خلال هيمنة الدولار الأمريكي على كافة العملات العالمية باعتباره الغطاء النقدي العالمي، ومن خلال المؤسسات النقدية كصندوق النقد والبنك الدوليين، وكذلك من خلال ما تفرضه من قوانين على التجارة الدولية عبر الحدود.
فالحاصل أن أمريكا تحمّل العالم تبعات ما يحصل عندها داخل حدودها من كوارث اقتصادية، ومن عجزٍ مالي ومديونية لدرجة أنها إذا عطست – كما قال بعض الخبراء الاقتصاديين – فإن العالم أجمع يصاب بالزكام..!!
والحقيقة هو أن هذا هو الحاصل اليوم، فأزمة الرهن العقاري وما تبعها من تداعيات اقتصادية في أمريكا، مثل انهيار الكثير من الشركات والبنوك وانخفاض قيمة الدولار .. كل ذلك جلب على العالم الويلات الاقتصادية، وما زال العالم يقع تحت لهيب هذه الأزمة وشرورها ..
والأمر لا يقف عند حد تحمّل التبعات، بل إن هناك خوف حقيقي من انهيار الاقتصاد الأمريكي والتسبب بانهيار الاقتصاد العالمي معه في حدث أشبه ما يكون بالبركان أو الزلزال العالمي ..!!
ولذلك تحاول البعض من هذه الدول حلّ نفسها من عبودية أمريكا عبر التصريحات أحياناً وعبر التحذيرات، وعبر المؤتمرات العالمية، والقمم الاقتصادية، مثل قمة العشرين التي عقدت في واشنطن سنة 2008، وفي لندن سنة 2009.. وهناك مجموعات من الدول تحاول تأسيس منظومات اقتصادية متعاونة خارج السرب العالمي، وذلك كما فعلت بعض الدول الأوروبية فيما سمي بالاتحاد الأوروبي، أو كما فعلت ( الصين وروسيا والهند والبرازيل) فيما سمي بالدول الصاعدة (BRIC)، والهدف من هذه المنظومات هو الانعتاق شيئاً فشيئاً من العبودية، عن طريق خطوات عملية، مثل إيجاد عملة مشتركة، وإيجاد سوق موحد مشترك، وغير ذلك ..
وقد عبر عن ذلك الرئيس الروسي بعد اجتماع قمة (بريك) الأخيرة في 21/7/2009 حيث قال: لا بدّ من الإصلاح والمرحلية في الوصول إلى الهدف ..
فهل أثمرت مثل هذه الجهود الاقتصادية حتى الآن، وهل يمكن أن تثمر مستقبلاً في تحرّر العالم من الفساد الاقتصادي أولاً، ومن تبعية أمريكا وعبوديتها ثانياً ؟!..
إن الملاحظ في أرض الواقع هو أن دائرة الفساد الاقتصادي والأزمات تتسع يوماً بعد يوم، سواء أكان ذلك في الاتحاد الأوروبي، أو الصين أو روسيا، أو أمريكا، ولا يستثنى من دائرة هذا الفساد والأزمات دولة من الدول الفاعلة اقتصادياَ .
ففي كل يوم نسمع عن شركات أو بنوك أو مؤسسات مالية قد انهارت، ونسمع عن ازدياد نسبة البطالة والعاطلين عن العمل، وعن عواصف في سوق العملات والبورصات وغيرها ..
فالفساد ما زال مستشرياً على جميع الصعد، وفي كافة الدول، ومازال العالم ينحدر نحو الهاوية السحيقة، ولم يستطع أحد حتى الآن وقف هذا الانحدار المتسارع ..!!
أما ما تفعله الدول الكبرى ومنظوماتها الاقتصادية، مثل الدول الثماني أو العشرين، أو تجمع (BRIC) ، أو الاتحاد الأوروبي، في اجتماعاتها ولقاءاتها، فإن كل ذلك لا يعدو عن بعض المحاولات في معالجة بعض الظواهر للمرض، وليس معالجة المرض علاجاً شافياً بقطع أسبابه الحقيقية .. وقد ظهر هذا بشكل واضح في قمة العشرين الأخيرة في لندن سنة 2009، والتي تمثل 85% من النشاط الاقتصادي العالمي، حيث كان من قراراتها وبنودها في الورقة الختامية:
1- ضخ 1.1 تريليون دولار من أجل حفز الاقتصاد العالمي وزيادة موارد صندوق النقد الدولي لتصل إلى750 مليار دولار.
2- وضع قواعد لضبط عمل المؤسسات المالية ومنها صناديق الاحتياط ..
3- تقديم 250 مليار دولار لتطوير التجارة الدولية .
4- وضع برنامج لضخ 5 تريليون دولار لدعم الاقتصاد المنهمك .
5- تسهيل شروط الإقراض للدول الفقيرة والنامية عن طريق صندوق النقد الدولي .
ولم تتجرّأ دولة على طرح مشروع إيجاد نقد بديل للدولار الأمريكي، سبب البلاء الأول في عبودية هذه الدول لأمريكا، ولم تسمح أمريكا لمثل هذه المشاريع أن تطرح في تداولات البحث، فكانت القمة ونتائجها دعائم جديدة وروابط أخرى تضاف إلى سابقاتها في تبعية الدول وعبوديتها لاقتصاد أمريكا.
وإذا كان الأمر كذلك فإلى متى يبقى العالم يكتوي بهذه النار، ويعيش في خوف ورعب، وإلى متى تبقى هذه الدول مربوطة بذيل أمريكا وعبوديتها .. ألا يوجد طريق للخلاص من هذا الشر؟ ألا يوجد علاج ناجع، مثمر ومؤثّر ينقذ العالم من المصير المحتوم ؟!
الحقيقة أنه في ظل المعطيات الحالية في النظام الرأسمالي القائم، والسياسات الجبرية التي تفرضها أمريكا وغيرها، لا يمكن للعالم أن يشعر بالأمن أو العدل، ولا بالسعادة أو الرفاه الاقتصادي ..
فالناظر في تاريخ الفساد قبل أزمة سنة 1929 يرى أن التحذيرات كانت تنذر بالكارثة، ولم يستطع العالم معالجتها رغم أن السياسيين والاقتصاديين على السواء كانوا يتوقعونها، وعندما حدثت لم يتعلم العالم الدرس في وضع أصبعه على المرض، وإنما وضعه على عوارض المرض – كما هو حاصل اليوم – وعالج بعضاً من هذه الظواهر، واستطاعت أمريكا بهذا العلاج أن تستعبد العالم اقتصادياً، عن طريق اتفاقية بريتن وودز سنة 1944، ومازال العالم يكتوي بنار هذه الاتفاقية التي أعطت لأمريكا السطوة، عن طريق اتخاذ الدولار غطاءً نقدياً عالمياً..
وفي الواقع فإن المعالج يجب أن يكون هو معافىً من المرض أولاً، وليس غارقاً في آفاته، ويجب أن يرتكز على أسس سليمة في الاقتصاد، وأن تكون عنده القوة الاقتصادية والشجاعة ليعلن مرة واحدة قراره بالانعتاق من العبودية الاقتصادية إلى الحرية الحقيقية .. وهذا للأسف غير موجود في العالم اليوم، لأن جميع الدول تدين بالنظام الرأسمالي سبب البلاء، وكذلك جميع الدول الكبرى ترتكز في تجارتها العالمية على أمريكا، حيث أن أكثر صادرات الاتحاد الأوروبي والصين واليابان هي لأمريكا، وتبلغ في بعض الدول ثلث تجارتها الخارجية، وتتخذ هذه الدول في نفس الوقت الدولار عملة أساسية في الاحتياط النقدي أو المدّخرات، وأداة لمعظم معاملاتها وتجارتها الخارجية ..!! فكيف ستنعتق مثل هذه الدول- وهي على هذا الحال- من تبعية أمريكا وعبوديتها ؟!، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن قوة أمريكا وحجم اقتصادها العالمي، من حيث الإنتاج والتجارة الخارجية يجعلها كرأس القطار بالنسبة للعالم، إذا وقف هذا الرأس أو تعطل تعطلت كل العربات في القطار، أي وقف الاقتصاد العالمي .. لذلك فإن العالم يحاول باستمرار مساعدة أمريكا في حلّ أزماتها، لأن انعكاس هذه الأزمات ترتدّ سلباً عليه ..!!
ونصل إلى النقطة النهائية في هذا الموضوع وهي: أن الكارثة الاقتصادية لا بدّ حاصلة إن عاجلاً أو آجلاً في المدى المنظور القريب، ولن يستطيع أحدٌ إنقاذ العالم من هذه الكارثة بعد وقوعها، وسيمهّد هذا الحدث، أو يتزامن – وإن كنا نرجو الله أن يسبقه– مع قيام دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، لتكون بمثابة الشمس المشرقة على عتمة الظلام، وبمثابة المنارة العالية على شاطئ بحرٍ هائج مائج متلاطم الأمواج ..!!
فدولة الخلافة التي تطبق نظام الإسلام العادل الهادي،- في الاقتصاد وغيره- هي التي ستنقذ العالم من هذا الشر والفساد، لأنها تحمل أسساً سليمة في البناء الاقتصادي، وعندها الشجاعة والقوة معاً لتتحدى أمريكا وغيرها في فرض هذا النظام .
فدولة الخلافة لن ترتبط بعبودية الدولار، وإنما تفرض من أول يوم الذهب عملة في ربوعها، وتتحدى أمريكا وغيرها بمحاسن النظام الإسلامي في النقد، الذي سيرفع الغطاء ويسحب البساط من تحت أقدام أمريكا ودولارها، ودولة الخلافة كذلك لن تلتزم بقوانين التجارة الدولية التي تفرضها أمريكا بعنجهيتها وبلطجتها، وإنما ستتبع الأحكام الصحيحة في التجارة والتعاملات الخارجية، ودولة الخلافة لن تقوم على أساس الربا في مؤسساتها الاقتصادية، وعلى أساس مصّ الدماء في شركاتها، ليعيش 2% من الأغنياء على دماء 98% من الناس، وإنما ستمكّن كل الناس من حيازة الثروة والانتفاع بها، وسترفع مستوى الناس الاقتصادي ليكون متقارباً وذلك بعد حدّ الغنى والرفاه الاقتصادي ..!!
إن هذا كلّه سيؤهل دولة الخلافة لتكون الأولى في العالم اقتصادياً و سياسياً، وسيؤهلها لتنقذ العالم من هذه الويلات والشرور ليصدق بذلك قوله تعالى : " وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5 وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ" (6 القصص)، وقوله عليه السلام : " ( يكون في آخر الزمان خليفة يحثو المال حثوا، ولا يعده عداّ ) رواه الإمام أحمد في مسنده