أ.يوسف أبو زر*
كانت الأنظمة العربية المستبدة، والمنهزمة الفاشلة، ترمي كل صوت يخالف صوتها ويكشف سياساتها بأنه "أجندات خارجية"، وأن غاياته هي إضعافها في المعركة لصالح العدو، ليتبين لاحقا أنهم كانوا بذواتهم هم الأجندات الخارجية، وهم الذين ضيعوا البلاد والعباد، بعدما انكشفت علاقتهم بالعدو، مرورا بمرحلة التآمر الخفي إلى عصر التطبيع الجلي.
لا زالت تهمة "الأجندات الخارجية" تعمل أحيانا لذات الغرض، وأضيف لها هذه الأيام ما يسمى ب"التسييس"، ويقصد به وضع القضايا في سياقات سياسية، أو تناولها من أجل أغراض سياسية، وأبرز الأمثلة على ممارسة تهمة "التسييس" هو السلطة الفلسطينية، فهي أكثر الجهات التي تستعمل "المصطلح التهمة" كلما برزت قضية من القضايا، أو تحرك حراك أو احتج الشارع، أو صرخ الفساد ليعلن عن نفسه بفضيحة وقبيحة.
المفارقة أن تهمة "التسييس" ومحاذير "التسييس" هذه غالبا ما تكون في القضايا السياسية، أو التي هي بطبيعتها سياسية بالمعنى السليم والطبيعي للسياسة، أي في القضايا التي تتعلق برعاية شؤون الناس ولها آثار مباشرة على عيشهم وحياتهم، وتكون صادرة من جهات سياسية، ومن مثل تلك القضايا ما قامت به حكومة السلطة وتقوم به من سياسات مالية كمحاولة سن قانون للضمان الاجتماعي، وما قامت وتقوم به من محاولات لتفعيل اتفاقية "سيداو" بعد أن وقعت عليها، وكذلك إنشاء القوانين المنبثقة عنها (لأغراض سياسية واستجابة لجهات خارجية)، وغير ذلك من سياستها في الاقتصاد والضرائب والجباية والاجتماع والأمن والأخلاق، مما شكل بعمومه سياسة أوردت ولا زالت تورد أهل فلسطين المهالك، وتسير بهم سيرا سريعا نحو الهاوية، والتي أدت طبيعيا بما تلحقه من ضرر بالناس إلى إنكار الناس واستنفار الشرائح المتضررة، ومن ثم التحرك بأساليب مختلفة ومنها الحراكات أو حتى النزول إلى الشارع .
مؤخرا برزت قضية التعديلات على بعض القوانين التي تقود التحركات فيها نقابة المحامين، وكالعادة بدأت نغمة التحذير من التسييس والقول بأن القضية هي قضية نقابية، والصحيح أن وصف القضية بأنها قضية نقابية إنما هو من باب التدليس، ذلك أنه وإن كانت نقابة المحامين هي التي تصدرت التصدي في تلك القضية لطبيعتها القانونية، إلا أن موضوع القضية متعلق بالناس عموما ويمس حياتهم لما له من آثار وخيمة من ناحية، ومن الناحية الأخرى الأكثر خطورة وهي ما أصبح روتينا تقوم به الجهات النافذة في السلطة من صياغة لحياة الناس بقوانين مفصلة على مقاسها ولأجل رؤيتها ومصالحها من خلال ما يسمى " قرارات بقوانين" .
وأما التحذير من "التسييس" فإن الغرض منه هو إحباط وإضعاف وحرف أي تحرك أو حراك ضد سياسات السلطة، لتكون هي "المسيس" الوحيد والمتصرف في حياة الناس، ولو بالسطو على القضاء واحتكار المنابر، وذلك من خلال محاصرة أي حراك أو شريحة تنهض لقضية محقة، وحرمانها – مع أنه حق لها - من دعم الناس والشارع والرأي العام، ومن دعم القوى السياسية التي تشكل رافعة قوية للقضايا، وللأسف فإن كثيرا من الحراكات تقع في فخ الترهيب من هذه التهمة، والتي هي في واقعها استكمال للتغول وبمنطق أننا سنسحقكم ونرهقكم ونخذلكم ولن نسمح لأحد بأن ينصركم.
إن هذه الممارسة تعطي للسياسة معنى مقلوبا، إذ أن السياسة هي رعاية شؤون الناس، والقضية تكون سياسية بامتياز إذا كانت تمس الصالح العام أو حتى شريحة منه، بغض النظر عن طبيعتها القانونية أو الصحية أو الاجتماعية ما دامت آثارها متعلقة بباقي فئات المجتمع، وحتى لو كانت القضية فردية ولكن نمط التعامل فيها قائم على الظلم والتعدي فإنها تصبح قضية الشأن العام برمته.
وبهذا المفهوم، فإن القضايا المذكورة أعلاه، هي جوهر عمل الأحزاب السياسية، فهي التي تراقب الأنظمة وتحاسبها، وتتبنى مصالح الناس بناء على نظرة في الحياة وعقيدة، وهذا هو واجبها، ومقياس أدائها في ذات الوقت، وعلى ذلك يجب أن تحاسب تلك الأحزاب من قبل الناس إن قصرت، وسيكون عدمها أفضل من وجودها إن لم تتصدر لقضايا الناس، وخاصة أن هناك من يصرخ منها صباحا ومساء من أجل "الانتخابات" ويريد حصد الأصوات فيما يخذل الناس وقضاياهم في الشارع والواقع.
قد يتذرع البعض بأن المقصود بـ"التسييس" هو الانتهازية، والتجيير للمصالح الضيقة، ومع إمكانية الانتهازية، إلا أنها لا تجعل القضية المحقة غير محقة، كما أن الانتهازية لا سبيل لها إن كانت القضية واضحة وأساس المطالبة فيها واضح ويقوم على أساس سليم، خصوصا إذا كانت على أساس عقيدة الناس ودينهم، على أن احتمال الانتهازية لا يعفي القوى السياسية من واجبها، خصوصا إذا كانت الجهة المقابلة تقوم سياساتها أصلا على الانتهازية والمصالح الخاصة والفساد والتفريط.
وأخيرا، فإننا كمسلمين، وخاصة تلك الجماعات التي تعمل في الأمة، يجب أن ندرك أن العمل السياسي على أساس الإسلام مداره هو قوله تعالى ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[ آل عمران: 104] وقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )[المائدة:2] عسى الله أن يكرمنا بنصره ليصبح الحكم كله على أساس الإسلام (وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ) [المائدة: 49] ، وما ذلك على الله بعزيز .
*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين