الأقصى في عين العاصفة! فمن يذود عنه خطراً حقيقياً وشيكاً؟!
مَثَلَ قرار محكمة الصلح "الإسرائيلية" بتاريخ 5-10-2021 السماح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى ناقوس خطر كبير، أظهر مدى تمادي كيان يهود وجرأته في تحويل المسجد الأقصى لكنيس يهودي، ولا نقول هنا رغبة أو إرادة كيان يهود لأن رغبته في تحويل المسجد الأقصى لكنيس وبناء الهيكل المزعوم موجودة منذ دخوله المسجد الأقصى في السابع من حزيران عام 1967 وإحراق المصاحف ورفع العلم على قبة الصخرة ومنع الصلاة ومصادرة المفاتيح، بل كانت الرغبة موجودة قبل ذلك منذ إنشاء هذا الكيان السرطاني في الأرض المباركة عام 1948.
ولكن تلك الرغبة كانت تعترضها عقبات تحول دون الجرأة في تنفيذها، وأهم تلك العقبات قدسية ومكانة المسجد الأقصى في قلوب المسلمين وخطر المساس به على الأنظمة الحاكمة وعلى كيان يهود. والعقبة الثانية المشاريع السياسية الغربية والضغط على كيان يهود ليسير ضمن مضاميرها وتفصيلاتها، ولذلك اختار كيان يهود سياسة التهويد التدريجي لمدينة القدس وسياسة محاولة الولوج للمسجد الأقصى وتغيير الوضع القائم بشيء من الحذر، ولكن مع نجاح كيان يهود في مخطط تهويد مدينة القدس إلى حد كبير وتغيير تركيبتها الديمغرافية بشكل لافت والوصول عام 2020 إلى أهداف وضعها عام 1972 فيما عرف بـ "خطة التنمية الخاصة"، باتت أنظاره تتجه إلى المسجد الأقصى خاصة مع توفر ظروف سياسية وعقدية تساعد على ذلك سوف نذكرها خلال المقالة.
إن التركيز على قرار محكمة الصلح الأخير ليس من باب التهويل أو المبالغة أو إحداث زوبعة إعلامية تسلط الضوء على المسجد الأقصى، بل هو في حقيقته تسليط الضوء على قرار خطير جداً إن قرئ بشكل سياسي عميق، وذلك أن الاعتداءات السابقة على المسجد الأقصى وحتى حرقه ومحاولة تفجير المسجد القبلي وقبة الصخرة ثلاث مرات ومحاولة وضع حجر الأساس للهيكل المزعوم عام 1990 كان كيان يهود يحمّلها لأشخاص وأنها أعمال فردية أو مجموعة متطرفة بل كان يعلن أنه هو من أفشل محاولات التفجير الثلاثة واعتقل المتورطين فيها، وحتى صلاة المستوطنين كان يجعل عليها قيودا وضمن صلاحيات الشرطة التي تضبط وتقيد رغبات المتطرفين، أما القرار الأخير فهو توجه سياسي رسمي لكيان يهود لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، وهو بمثابة تحرك خطير -لا يغير من حقيقته عرقلة المحكمة المركزية "الإسرائيلية" له، فهذا من باب التخدير والمكر والخداع- ومما يزيد من هذه الخطورة أن هذا التوجه جاء بعد تغيرات هامة شجعته على ذلك نذكر أهمها:-
-وصول ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة واستقطابه وتوسيعه للقاعدة الجماهرية للحزب الجمهوري ولشخصه من الإنجيليين البروتوستانت أو من يطلق عليهم "المسيحيين المتصهينين" وهم أكبر كتلة نصرانية في أمريكا، يليهم الكاثوليك ومن ثم البروتستانت التقليديون (غير الإنجيليين). ويشكل الإنجيليون في أمريكا تيارا سياسيا نشطا بات له أتباع في الكثير من المؤسسات السياسية ومنها البيت الأبيض والكونغرس، ويحاولون التأثير على بعض السياسات الخارجية للدولة للتوافق مع معتقداتهم، وقد حصل ترامب على 81% من أصوات الإنجيليين البيض في الانتخابات الأولى وعين بعض مستشاريه منهم مثل ميشيل باكمان، وهم -الإنجيليون- يعتقدون أن مساعدة اليهود في السيطرة على المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم سوف يسرّع من نزول المسيح مرة أخرى من السماء -الولادة الثانية- ووقوع معركة هرمجدون وهزيمة العرب والمسلمين، ومن ثم مطالبتهم للمسيح أن يأمر اليهود بالنصرانية مقابل المساعدة التي قدموها لهم وعندها تصبح الديانة النصرانية هي الديانة الوحيدة وينشئ مملكة الألف سنة السعيدة، وغيرها من التفصيلات والسناريوهات المأخوذة من الكتب المحرفة من أشهرها كتاب "المسيح آت" عام 1887 للقس وويليام يوجين بلاكستون، وكتاب "انجيل سكوفيد المرجعي عام 1917" للقس سايروس سكوفيد، وأيضاً من بعض رهبانهم الذين يؤمنون بأن تأسيس دولة "إسرائيل" هو تحقيق للنبوءة المقدّسة، وبغض النظر عن اختلاف تلك الهرطقات التي لخصها علي أبو سمعان في كتابه "الماسونية واليهود في بناء الهيكل الموعود"، إلا أنها تتفق على وجوب مساعدة اليهود في بناء الهيكل المزعوم في المسجد الأقصى، وقد ظهر كيف أن ترامب ظهر بمظهر اليهودي أكثر من اليهود أنفسهم وعزز ثقة الإنجيليين به حين أعلن أن القدس هي العاصمة الموحدة والأبدية لكيان يهود ونقل السفارة إليها، ومن ثم تحدث عن المسجد الأقصى في صفقة القرن باسم جبل المعبد وأنه يجب أن يكون متاحا للديانات الثلاث "الناس من مختلف الأديان يجب أن يتمكنوا من الصلاة في جبل المعبد، وبالطريقة التي تتوافق تماماً مع دينهم"، وكذلك صورة مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط جيسون غريبنلات والسفير فريدمان وهم يحملان مطرقة ويفتتحان الجزء الأخير من النفق الذي يمتد بطول 650 متراً من عين سلوان في حي البستان حتى حائط البراق الملاصق للمسجد الأقصى، ومن قبله كان الدعم السياسي القوي لكيان يهود وبتأثير إنجيلي عقدي من قبل المحافظين الجدد في عهد بوش الابن.
-تصاعد نفوذ وشعبية أحزاب اليمين في كيان يهود وسيطرتهم على الكيان حتى باتت الحكومة الحالية -دون معسكر اليمين- تعتمد على أحزاب يمينية في استمرارها، رغم أن الليكود ومعسكره خارج الحكومة! وكل أحزاب اليمين تؤمن بضرورة إقامة الهيكل الثالث في المسجد الأقصى وأن ذلك سوف يسرع نزول المسيح الذي يؤمنون أنه لم ينزل بعد وأنه سوف يهزم المسلمين ويطلب من النصارى الدخول في الديانة اليهودية لتكون الديانة الوحيدة وأن دخوله سوف يكون من باب الرحمة الذي نجح أهل القدس في فتحه بعد ١٦ عاما من الإغلاق "2003-2019"، إضافة إلى هرطقات حقهم الإلهي في العبادة والتقديس في المسجد الأقصى، وهذا التصاعد لشعبية اليمين وتأثيره في ظل حكومة المتطرفين أمثال بينت ومن قبله نتنياهو تسرع الإجراءات على الأرض لتغيير الوضع في المسجد الأقصى وتقسيمه زمانياً ومكانياً كما فعلوا في المسجد الإبراهيمي في الخليل، وهو ما أشار إليه الرئيس "الإسرائيلي" الأسبق موشيه كتساف عام 2005 ليكون ذلك التقسيم مرحلة أولية ومقدمة لبناء الهيكل.
-اتفاقيات التطبيع المخزية مع الأنظمة العربية على غرار البحرين والإمارات والسودان والمغرب وما تبع تلك الاتفاقيات من تطبيع على كافة المستويات الصحية والتعليمية والثقافية والعسكرية والاقتصادية والسياحية بشكل فاق كل التصورات ودون أن تدفع تلك الأنظمة فاتورة الخيانة لشعوبها، وهو ما شجع غيرها على اللحاق بها، وهذه الحالة الصارخة من الخيانة وردة الفعل المتواضعة جعلت كيان يهود يعيد حساباته ويتجاوز القليل من عقدة الخوف تجاه قضية فلسطين والمسجد الأقصى، خاصة أن تلك الأنظمة وعلى رأسها الإمارات تقر بتقسيم كيان يهود للمسجد الأقصى وحصره للمسجد الأقصى الذي ينحصر فيه حق العبادة للمسلمين وحدهم في المصلى القبلي وجعل بقية المسجد 93% مكانا مقدسا عند الديانات الثلاث ومن حق أتباعهم الصلاة والتعبد فيه.
-الخنوع الذليل للسلطة وعدم اكتراثها لما يحصل في القدس سوى عنتريات وجعجعات لذر الرماد في العيون وتحريكها لملف القدس عند الحاجة فقط مثل تأجيل الانتخابات، وهذا أمر غير مستغرب فمنظمة التحرير في حقيقتها ومن باب الإنصاف كانت واضحة منذ البداية بأن ملف القدس خارج حساباتها فأخرجته عن طاولة المفاوضات في اتفاقية أوسلو تحت مسمى قضايا الحل النهائي ومن ثم جاء تفاهمات بيلين عباس عام 1995 لتفسر كيف سيتم حل هذه الملفات النهائية، وفي المقابل جمد كيان يهود بعد اتفاقية أوسلو مباشرة نشاطات المنظمة في القدس وسمي بقانون "تقييد النشاطات لسنة 1994" وأصبح كيان يهود يسارع الخطى في تهويد القدس ويستعد للانقضاض على المسجد الأقصى.
-عمل النظام المصري على فصل ملف غزة عن القدس وإنجاز تهدئة ملزمة للفصائل في غزة لا ترتبط بالقدس لا من قريب ولا من بعيد، بل تتمحور حول القطاع وأحواله وإعادة إعماره ورفع الحصار عنه وفي ظل نجاح نظام المجرم السيسي في ضبط غزة وفي المقابل انتعاش السلطة حديثاً في الضفة وزيادة قبضتها الأمنية، في ظل كل ذلك باتت تتوفر أجواء ملائمة يستطيع كيان يهود استغلالها ليستفرد بالقدس والمسجد الأقصى وبالتالي يجعل باكورة عدوانه تتركز في القدس والمسجد الأقصى إضافة لمناطق سي في الضفة.
إن تحركات كيان يهود الأخيرة بحق المسجد الأقصى هي تحركات خطيرة لتقسيمه تمهيداً لبناء الهيكل المزعوم، وهذه التحركات وإن كان ينتابها شيء من التردد خوفاً من أن تؤدي إلى تفجير الوضع في بلاد المسلمين ويعيقها صمود أهل القدس ودفاعهم عن المسجد الأقصى كما حصل في هبة البوابات الإلكترونية 2017 ومصلى باب الرحمة 2019 إلا أنها تحركات جادة خاصة أنها تأتي من قوم وصفهم الله بكتابه العزيز أنهم قوم لا يعقلون، قال تعالى{ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14)} فيقومون بتصرفات حمقاء حاقدة تسرع نهايتهم كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الغدر والخيانة ونقض العهود فكانوا يستعجلون هدم ممالكهم وحصونهم ويخربون بيوتهم بأيديهم قال تعالى{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)}، ولكن هل تنتظر أمة الإسلام وهي خير أمة أخرجت للناس كيان يهود ليقسم المسجد الأقصى ويقيم الهيكل المزعوم لتتحرك أم أن الواجب عليها أن تستجيب لقوله تعالى {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فتتحرك من فورها وتنصر أهل فلسطين وتسير بقيادة مخلصة لتحرير المسجد الأقصى وكامل فلسطين من دنس يهود كما بشر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ».
د. إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين