شراكة الحركات الإسلامية "المعتدلة" مع الأنظمة إلى أين؟
التفاصيل
علاء أبو صالح/عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
يبدو المشهد السياسي في العالم الإسلامي في ظل حكم الأنظمة الجاثمة على صدر الأمة والموالية لأعدائها مشهداً قاتماً، ويزيد من قتامته تحالف بعض التيارات الإسلامية مع هذه الأنظمة بصورة أو بأخرى.
فقد سعت بعض التيارات إلى مشاركة هذه الأنظمة عملها السياسي التآمري، بلعب دور المعارضة وفق الرؤية الغربية تارة، أو بولوج هذه الأنظمة لتصبح مكوناً رئيسياً منها. لكنها –وللأسف- كانت من حيث أدركت ذلك أم جهلت دعامة لهذه الأنظمة التي لن يكون للأمة منفذ لسبيل عزتها وعودتها خير أمة أخرجت للناس سوى بإزالتها.
فتجارب الحركات الإسلامية في بلدان عدّة في الانخراط في العملية السياسية أسفرت عن نتائج كارثيّة، بل إن المتابع لتلك التجارب يدرك أن هناك أصابع خفية ساقت تلك التيارات للانخراط في اللعبة التي تتحكم القوى الغربية بخيوطها، ويدرك كذلك أن تلك التيارات كانت بمثابة حقل تجارب لمراكز الأبحاث الغربية التي عكفت على دراسة ظاهرة المد الإسلامي المتنامي وكيفية التصدي له، وخلصت أن لا سبيل أمام الساسة الغربيين سوى استخدام ورقة ما بات يعرف بالإسلام "المعتدل" حتى يتم عرقلة مشروع الإسلام النهضوي الذي يقضي بالإنعتاق من التبعية السياسية والفكرية للغرب بل ويدعو إلى حمل الإسلام رسالة هدىً للعالمين.
ونحن إذ نتناول هذا الموضوع نقف عليه من زوايا ثلاث، الأولى ما هو موقف الغرب من شراكة الأنظمة مع التيارات الإسلامية "المعتدلة"، والثانية ما مدى النجاح الذي حققته هذه التيارات، ومن ثم نعرج على آثار هذه التجارب على مشروع الأمة النهضوي وما مدى إسهام هذه التجارب في خدمة أو عرقلة هذا المشروع.
أما موقف الغرب من شراكة الأنظمة مع التيارات الإسلامية "المعتدلة" فقد شهد تقلبات متعددة، أولها اعتماد سياسة ركوب الموجة في التعامل مع التيارات الإسلامية في سبعينات القرن الفائت وهي مما أوصى به الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون واستمرت تلك السياسة لعقود،
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تبنت أمريكا سياسة الحرب على الإسلام تحت شعار الحرب على الإرهاب دون أن تفرق بين التيارات الإسلامية التي تصنفها "بالمعتدلة" أو "الأصولية"، فوضعت جميع التيارات الإسلامية في سلة واحدة،
لكن فشل سياستها وعدم قدرتها على تحقيق إنجازات تذكر على صعيد الأزمات التي فجرتها تحت مسمى الحرب على الإرهاب دفعها لإعادة التفكير في تلك السياسة مما دعاها إلى العدول عن حربها الشعواء الارتجالية الشمولية، فعمدت إلى التفريق مرة أخرى بين تيار حرصت عليه من قبل وغذته بأسباب الحياة في سبيل وقوفه في وجه تيارات "الأصولية" التي تعادي الحكومات الغربية ولا تسير ضمن مشاريعها،
وللدلالة على ذلك فلقد أصدرت مؤسسة رند -وهي إحدى مؤسسات Think Tanks ذات التأثير الكبير على توجه الطبقة السياسية الحاكمة في أمريكا- تقريراً عام 2008 يدعو إلى بناء شبكات إسلامية معتدلة لتقف في وجه من صنفتهم بالأصوليين والذين وصفهم الباحثون بأنهم قويو الحجة والبرهان، ودعا التقرير إلى " أن يكون بناء شبكات إسلامية معتدلة هدفا معلنا وصريحا في برنامج الحكومة الأميركية" واعتبر "أن بناء شبكات الاعتدال الإسلامي يمكن أن يجري على ثلاثة وجوه رئيسية:
• أولا: دعم مؤسسات هي أصلا موجودة.
• ثانيا: ضبط شبكات معينة ذات أولوية والعمل على بعثها ورعايتها.
• ثالثا: المشاركة في إشاعة ثقافة التعدد والتسامح، التي تعد شرطا لازما لتطور مثل هذه المؤسسات.
• وللتأكيد على هذا التوجه وأهميته رأى التقرير "أن الخطوة الأولى التي يجب قطعها تتمثل في اتخاذ قرار حاسم من طرف الإدارة الأميركية وحلفائها ببناء شبكة الاعتدال في العالم الإسلامي، وربط تحقيق هذا الهدف الكبير بصورة واضحة وصريحة بالإستراتيجية، ومجمل البرامج الأميركية"، كما نص التقرير كذلك على "أن التنفيذ الجاد والناجع لمثل هذه الإستراتجية يتطلب وجود بنية هيكلية داخل الحكومة تسهر على توجيه ودعم ثم مراقبة ورصد الجهود المبذولة على هذا الصعيد، وهذا الأمر يتطلب بدوره صناعة الخبرات والقدرات اللازمة. ولتحقيق هذه الأهداف العامة فإننا نقترح ما يلي:
o وضع ميزان تقييمي تتم بموجبه غربلة المعتدلين الحقيقيين من الانتهازيين والمتطرفين الذين يتخفون خلف غلاف الاعتدال، فضلا عن تمييز العلمانيين الليبراليين عن العلمانيين التسلطيين.
o بناء قاعدة معلومات دولية تضم الشركاء المحتملين (تحتوي الأفراد والمجموعات والمنظمات، والمؤسسات والأحزاب).
o وضع آليات واضحة تسمح بمراقبة وتوجيه، ثم تطوير البرامج والمشاريع وتقييم القرارات المتخذة في هذا المضمار.
ومن هنا تتأتى أهمية إيجاد عدسة رصد تسمح بدعم وتحسين أداء الشركاء الذين هم محل ثقة لدينا." انتهى الاقتباس
وتأكيداً على أهمية هذه السياسة وإعطائها الأولوية اللازمة نص التقرير على "إن مشروعنا البنائي والمؤسسي يجب أن يعطي الأولوية المطلقة لتلك المجموعات ذات التوجهات الأيديولوجية المقبولة لدينا، أي تلك التي تلتزم فعلا بما تعلنه من أطروحات الاعتدال. فهذه المجموعات هي التي يمكن التعويل عليها دون غيرها، باعتبارها شريكا جادا. من هنا يتوجب تمحيص التوجهات الأيديولوجية بشكل جيد، وعند الاطمئنان إلى سلامة التوجه يمكن أن تتاح للمجموعات العاملة دائرة أوسع من الاستقلالية والتسيير الذاتي، وهذا الأمر يستوجب بدوره مراجعة الإستراتيجية العامة المتبعة إلى حد الآن مع العالم الإسلامي."
ومن الشواهد على هذه السياسة تصريحات بعض السياسيين الغربيين. فقد كشفت وزيرةَ خارجيةِ أمريكا السابقة "كونداليزا رايس" عن "اقتناع الولايات المتحدة بأهميةِ التحاورِ مع الإسلاميين في المنطقة العربية، وأنها لا تخشى من وصول تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة"، واعتبر ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأمريكية "إن الولاياتِ المتحدة لا تخشى وصولَ تياراتٍ إسلاميةٍ إلى السلطة لتحلَ محلَ الأنظمةِ القمعيةِ العربية التي تتسبب بتكميمها الأفواهَ في اندلاعِ أعمالِ الإرهاب، شريطةَ أن تصلَ عن طريقٍ ديمقراطي وأن تتبنى الديمقراطيةَ كوسيلةٍ للحكم".
من ذلك كله يتبين أن موقف الغرب ممثلاً بموقف أمريكا وكذا دول الإتحاد الأوروبي كان واضح اللهجة في قبول هذه الشراكة بل داعماً لها في كثير من الأحيان، وهو إن تبنى خطاباً مغايراً لذلك مع تيارات "الإسلام المعتدل" في بعض الأحيان فقد كان يرمي من ذلك إلى جر تلك التيارات لمزيد من الاندماج السياسي مع هذه الأنظمة، فهو يعتمد على نهج من يهن يسهل الهوان عليه، وهو يدرك أن قبول تلك التيارات بالديمقراطية وبقواعده التي يخطها لهذه اللعبة من شأنه أن يهوي بها في واد سحيق.
لذا نرى أن أمريكا حتى يومنا هذا تنتهج نفس الأسلوب والمنهاج في التعامل مع تلك التيارات، فأمريكا دعمت ولازالت تدعم حزب العدالة والتنمية في تركيا باعتباره رأس حربة لها يقف في وجه نفوذ الاستعمار القديم ممثلاً بالمؤسسة العسكرية في تركيا، وهي كذلك لم تمانع بل دعمت دخول الحزب الإسلامي في العراق الحكومة العراقية العميلة لأمريكا، وهي كذلك تحاول يائسة إسقاط تلك التجربة على حركة طالبان وفق ما نتج عن مؤتمر لندن الأخير والذي دعا إلى استمالة "ما سماه الجهات المعتدلة في طالبان" ودعوتها للمشاركة في العملية السياسية هناك.
فأمريكا دعمت تيارات الإسلام "المعتدل" علانية أو تحت جنح الظلام، وتعدى دعمها هذا مجرد الوقوف في وجه التيارات التي تصنفها "بالأصولية" إلى الاستغلال السياسي الدنيء الذي سخر تلك التيارات في بعض الأحيان والبلدان لخدمة مشاريع الغرب السياسية.
أما عن مدى ما حققته هذه التجارب من نجاح فهي لم تحقق نجاحاً يذكر على صعيد وصفها بالتيارات الإسلامية، ولنأخذ للدلالة على ذلك أمثلة تركيا والسودان والأردن ومصر.
ففي تركيا لم تعدو تجربة حزب العدالة والتنمية عن كونها مثالاً صارخاً لمدى تسخير أمريكا لتيار ظاهره إسلامي وهو في حقيقته تيار علماني، فلطالما صرح قادته بمحافظتهم على مبادئ الدولة العلمانية الكمالية، فتجربة حزب العدالة والتنمية ليست مثالاً لنجاح التيارات الإسلامية في استلام الحكم بل هو مثال على نجاح أمريكا في تسخير هذا التيار لتحقيق أجنداتها في الاستيلاء على النفوذ في تركيا والاستئثار به دون الاستعمار القديم. ثم ما معنى نجاح هذا التيار أو ذاك إذا ترك الإسلام بنظمه الاقتصادية والاجتماعية ونظام العقوبات بل ودستوره الشامل خلف ظهره، وتمسك بأفكار علمانية بالية، فكيف يصر البعض على تسمية تجربة تركيا بتجربة إسلامية وهي لا تعدو تجربة علمانية صرفة؟! وما دار من صراعات بين حزب العدالة والجيش لم يكن سوى صراع بين النفوذ الجديد والنفوذ القديم؟!
وأما تجربة السودان فلنا في مآل هذه التجربة من انقسام التيار الإسلامي هناك على نفسه وانخراطه في مشاريع تقسيم السودان ومخططات أمريكا، مما يدعو للقول أن صبغة ومسحة الإسلام التي اكتساها تيار البشير لم تكن سوى استغلال لمشاعر المسلمين الجياشة لتحقيق وتنفيذ تلك المخططات الجهنمية التي أورثت السودان البوار.
وأما تجربة الأردن، فلقد بات واضحاً أن انخراط "الإسلاميين" في الحكم وشراكتهم مع النظام الحاكم هناك لم يخرج عن كونه دعامة يتقوى بها النظام كلما ضعف بنيانه واهترأت شعبيته، وعن هذه التجربة يقول الكاتب عبد الجبار سعيد "وساهم الإخوان مساهمة إيجابية في استقرار المجتمع الأردني والنظام الأردني، وأوضح ما كانت هذه المساهمة عندما وقفوا إلى جانب النظام عندما جرت محاولة الانقلاب عليه، وهتفوا باسم جلالة الملك حسين رحمه الله في شوارع الزرقاء وعمان، وساهموا في إحباط تلك المحاولة."
وأما تجربة الإخوان في مصر فبرغم ما تقدمه الحركة من عروض سخية بتأييد ودعم النظام في حالة السماح لهم بالانخراط الرسمي في العملية السياسية إلا أن النظام السائر في فلك المشاريع الغربية هذه المرة هو من يرفض هذا التعايش مع هذا التيار الإسلامي، مما يعكس مدى الانحدار في النظرة للمشروع الإسلامي بصورة عامة ومن خلوها من أهم المرتكزات الإسلامية وهي تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً شاملاً.
أما آثار هذه التجارب على مشروع الأمة النهضوي فلقد كانت آثار سلبية، وتختبأ في ثنايا هذه التجارب وميض إيجابية غير مقصودة.
فلا يخفى على المتابع لتجارب الحركات الإسلامية في شراكتها مع الأنظمة وما ترتب على ذلك من آثار أن هذه التجارب أضرت بمشروع الأمة النهضوي، فمن جهة كشفت تلك التجارب أن التيارات الإسلامية-صاحبة هذه التجارب الفاشلة- هي تيارات واقعية مثلها مثل التيارات الأخرى ودعا ذلك الأمة إلى تعميم هذا الحكم على جميع الحركات والتيارات الإسلامية، ومن جهة أخرى أفرغت تلك التيارات شعار تطبيق الإسلام كشعار "الإسلام هو الحل" من مضمونه مما جعل الأمة تظن أن رفع أي شعار لتطبيق الإسلام هو وسيلة وأداة لمجرد الوصول إلى الحكم دون تطبيق الإسلام بحق، ومن جهة ثالثة فلقد كانت تلك التيارات في بعض التجارب أداة للقوى الغربية الاستعمارية مستغلة ما تلبس من ثوب الدين.
وأما الإيجابية الوحيدة فتمثلت في أن فشل تلك التيارات عزز قناعة الأمة بأن لا خلاص لها سوى بتطبيق الإسلام تطبيقاً خالصاً من الشوائب، وأنه لا يمكن تغيير الواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة من خلال شراكة هذه الأنظمة ومسايرتها وأن لا سبيل للتغيير الحقيقي سوى باقتلاع هذه الأنظمة من جذورها والتخلص منها بصورة نهائية.
إن التيارات الإسلامية التي انخرطت في العملية السياسية وعمدت إلى التعايش مع أنظمة تطبق شرعة الطاغوت قد بعدت عن نهج الرسول الكريم الذي خط لنا معالم الولاء والبراء والمفاصلة، وبين لنا أن العاملين للإسلام لا يمكن أن يخضعوا للمساومة على فكر واحد أو تطبيق حكم واحد، كما بين لنا الرسول الأكرم أن مواقف العاملين للتغيير لا بد أن تكون مواقف مبدئية لا براغماتية متقلبة فهو من قال لبني عامر بن صعصعة أثناء سعيه السياسي لحشد طاقات الأمة لتطبيق الإسلام عبر دولة رافضاً اشتراطاتهم التي تمس ما يحمل من أحكام ومنهاج (الأمر لله يضعه حيث يشاء) وفي هذا الموقف مثال صارخ لرفض الحياد عن تطبيق حكم واحد فكيف بمشاركة أنظمة تحكم بأنظمة كفر لا تمت إلى الإسلام بصلة، فهل يعقل أن يمتزج الإسلام بالكفر فينتجان ديناً جديداً أو منهاج حياة مبتكر؟!!
إن قضية الأمة لا تحل بوصول الأشخاص لسدة الحكم بل بوصول الإسلام كمبدأ ومنهاج حياة لسدة الحكم ليعاد صياغة الحياة والدولة والمجتمع وفق أحكام الإسلام ليحيا المسلمون حياتهم بطمأنينة وحياة كريمة عزيزة فتعود لهم الخلافة دولة النور حاملة مشعل الهداية لتنير للبشرية ظلمتها الحالكة.