الانفصام بين الحكومات والشعوب...التشخيص والعلاج
د. إبراهيم التميمي *
نظرة سريعة إلى العالم الذي يعج بالأزمات والاضطرابات والاحتجاجات ضد الحكومات وسياساتها وغضب الشعوب تجاهها، تظهر بشكل واضح وجود شرخ عميق وحالة انفصام بين الكثير من الشعوب ومن يحكمها، وهذا الحال بات ملاحظاً حتى في الدول الكبرى مثل أمريكا وفرنسا، وهو أكثر وضوحاً في الدول التابعة، كما هو حال الأنظمة في بلاد المسلمين، وكذلك فيمن هم أقل من دولة بكثير كما هو حال السلطة في فلسطين.
ويتساءل الكثيرون عن سبب ذلك الانفصام، وعن سبب عدم انقياد الشعوب في كثير من القضايا لتوجيه الحكومات، حتى في تلك القضايا التي يظهر فيها الحرص على الناس، مما يسبب حالة إرباك ويفاقم الأزمات! وهل فعلا المشكلة في الشعوب التي يهاجمها البعض ويصفها باللامبالاة والتخلف واللامسؤولية وغيرها من الأوصاف أو أن المشكلة فيمن يحكم الشعوب وفي النظام الذيتُحكمبه؟! وهل يوجد نظام حكم يمكنه تحقيق الانسجام الكامل بين الناس والنظام المطبق عليهم في الدولة؟
قبل الخوض في الإجابة على تلك التساؤلات لا بد من بيان بعض الأمور التي تجعل الشعوب تنقاد طوعاً للحكومات وقراراتها وتلتزم بما يطلبه النظام الحاكم منها؛
أولاً: الناحية المبدئية
وهذه تتأثر بالعقيدة التي يحملها الشعب، والنظام المنبثق عنها، والذي تطبقه الحكومة، حيث يعتنق الشعب عقيدة والحكومة تنظم حياة الناس وتضع القوانين وفق تلك العقيدة التي يعتنقها الشعب، إذ من المفترض أن تكون الدولة هي الكيان التنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تحملها الناس، وعندها ينظر الشعب لتلك الأنظمة والقوانين المطبقة عليه نظرة احترام كونها منبثقة من النظام الذي اختاره لتنظيم حياته، فيلتزم بتلك الإجراءات والقوانين بشكل طوعي.
ثانياً: الناحية القانونية وفرض العقوبات
لا يمكن لأية دولة أن تقوم وتستمر دون فرض قوانين تنظم شؤون الحياة وتلزم الشعب بالسير وفقها وتعاقب من يخالفها، وهذا وضع طبيعي، ولكنه يتأثر بالناحية المبدئية فإن كان هنالك انسجام بين الشعب وعقيدته ونظامه ودولته كانت هذه الناحية القانونية تعالج فئة محدودة من الناس يتواجدون في كل عصر وزمان ومكان يرتكبون المخالفات ويتجاوزون القوانين وهم بحاجة إلى عقوبات رادعة تزجرهم عن إفساد المجتمع والعبث به، ولكن إن كان هنالك حالة انفصام بين الشعب والنظام المطبق عليه فإن رقابة الدولة الشديدة هي التي تلزم معظم الناس بسياستها وقوانينها فإن غابت رقابة الدولة انتشرت الفوضى وعمت المخالفات.
هل فعلاً المشكلة في الشعوب أو أن المشكلة فيمن يحكم الشعوب؟ وهل يوجد نظام يحقق الانسجام التام بين الناس والدولة بنظامها وقوانينها؟ سنحاول الإجابة على تلك التساؤلات بتشريح ثلاثة نماذج وفق النقطتين السابقتين.
· الدول الرأسمالية الغربية:
في الدول الرأسمالية الشعب يعتنق عقيدة فصل الدين عن الحياة، والحكومة تشرع القوانين وتضع الأنظمة بما ينسجم مع تلك العقيدة، والشعب كان سابقاً ينظر لتلك القوانين والإجراءات نظرة إجلال واحترام ويلتزم قسم كبير من الشعب بها طوعاً ويقدس الدستور والقانون لأنه يرى أنها جاءت لخدمته ورعاية شؤونه، ولكن ذلك قد تغير فما أن بدأت الشعوب الغربية تكتشف وتدرك أن الهدف من سياسة النظام الرأسمالي ليس خدمة الشعب وإنما خدمة فئة معينة مثل أصحاب رؤوس المال أو السياسيين وأنه جاء لخدمة فئة معينة وتسخير بقية الشعب لخدمتها وأن النظام الرأسمالي بطبيعته البشرية الناقصة والعاجزة لا يمكنه تحقيق العدل والإنصاف بين الناس وأنه قد فشل في توفير الحياة الكريمة للجميع حتى تغيرت الحالة المبدئية والنظرة للنظام عند الشعوب الغربية وضعف الالتزام الطوعي عندها وازدادت حالة الانفصام بين الحكومات والشعوب، وكلما زاد وعي الناس على بشاعة وجشع النظام الرأسمالي كلما زاد الانفصام وتوسع، وهذا يلاحظ في احتجاجات أوروبا وخاصة فرنسا وكذلك ما حصل في الولايات المتحدة، وهنا تلجأ تلك الدول والحكومات للتغطية على ذلك بالتركيز على الناحية القانونية والأمنية لضبط النظام وتشديد الرقابة، فإن ضعفت رقابة الدولة أو كانت غير قادرة على ضبط الأمور انتشرت الفوضى والتدمير والسرقة والحرق.
ولذلك بات يعتمد انضباط الشعوب في كثير من الدول الغربية على الناحية القانونية بعد أن ضعفت الناحية المبدئية، ويساعد تلك الدول في انضباط الناس تحول بعض القوانين إلى ثقافة ومفاهيم عند الناس بعد فترة من الزمن، وخاصة القوانين التي يستسيغها الانسان بعقله ويقتنع أنها صحيحة، مثل قوانين النظافة والسير والحرص على البيئة وغيرها، ولكن تبقى تلك الدول مهددة لأن صمام أمان الاستقرار هو الناحية المبدئية، والناحية القانونية تساعد في ذلك وليس العكس وإلا كانت الدولة في خطر، ويتضح ذلك بالنظر إلى ما حصل في أمريكا؛ حيث انقلب الحال في بضعة أيام من نظام والتزام إلى احتجاجات وحرق وسلب وتدمير قابلها الرئيس دونالد ترامب بتهديد الشعب بإنزال الجيش وكأنه في حرب!
· البلاد الإسلامية:
في بلاد المسلمين لا وجود للالتزام الطوعي المبدئي لأن النظام المطبق ليس من جنس عقيدة الناس، فالناس يعتنقون عقيدة الإسلام، والدولة تطبق النظام الرأسمالي وهذه حالة شاذة سياسياً وتاريخياً، ولذلك نجد الأنظمة في بلاد المسلمين أنظمة بوليسية قمعية تعتمد على القوة والترهيب في فرض القوانين، ونجد الناس يلتزمون بتلك القوانين بدافع الخوف من النظام ومن العقوبة، وإذا ما أضيف لذلك حالة الفساد التي يعيشها النظام من نهب وسلب وعمالة سياسية وتضييع للثروات والمقدرات وامتهان للكذب والتضليل والتدليس على الناس وتكديس للمال في يد الفئة الحاكمة ومن يتبعون لها، وفي المقابل ضعف الاقتصاد وهشاشة البنى التحتية وإهمال رعاية الناس وإثقال كاهلهم بالضرائب والجمارك وانتشار الفقر والجوع والمرض، فإن الناس تكون في حالة بغض للنظام وعدم ثقة وتتحين ضعف الدولة وغياب رقابتها لتتجاوز قوانينها، فإن حصل ذلك داست الشعوب على القوانين ولم تلتزم بما طلب منها ولو كان ظاهره الحرص عليها بل تمارس عكسه نكاية بالنظام الجائر الذي يحكمها أو تكذيباً لنظام خبرت كذبه وخداعه، وهذا ما يفسر استخدام الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين القوة المفرطة في فرض الإجراءات والقوانين واللجوء في بعض الأحيان لإثارة غريزة البقاء بنشر الخوف والفزع بين الناس وتضخيم الأحداث لدفع الناس للالتزام بما يطلب منهم وإشعارهم بالخطر رغم أن الخطر يكون حقيقياً وبيّناً في بعض الأحيان.
· الخلافة الإسلامية:
في دولة الخلافة يكون الوضع الداخلي مستقراً بشكل فريد، وذلك لأن الدولة تقوم بتطبيق النظام الإسلامي المنبثق من عقيدة الأمة، العقيدة الإسلامية التي هي من عند الله وهي أساس الدستور والقوانين وأجهزة الدولة وكيانها، وهذا يجعل نظرة الناس للقوانين والتشريعات نظرة شرعية تعبدية فيلتزمون بها لأنها مستنبطة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولأن الأمة تدرك وتعلم علم اليقين أن الله عليم خبير بما يَصلح لها ويُصلح حالها، وعادل فيما شرعه لها، فتكون مطمئنة مستسلمة لحكمه وتشريعاته، وتكون نظرة الناس للخليفة ومن هم في الحكم أنهم أمناء على الأمة وأن عملهم تعبد الله في إحسان رعاية شؤون الناس وخدمتهم، وأنهم مسؤولون عن الناس في كل صغيرة وكبيرة، وأنهم لا يحسدون على مواقعهم لأنها حمل ثقيل عليهم وأمانة عظيمة في رقابهم وليست رفاهية وجمعاً للمال والثروة وامتلاكاً للقوة والسطوة، وفي ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها"، ولذلك يكون الانقياد لهم طوعي عن رضى وقناعة أنهم أمناء حريصون على الأمة ومصالحها، وكذلك طمعاً في رضوان الله الذي أمر بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} وهذا يجعل الدولة والحكام والناس في حالة انسجام، فالدولة تأمر والناس تطيع والناس تحاسب والدولة تستمع وتبذل جهدها في تلافي الأخطاء ورفع الظلم، ولكن ذلك وإن كان الأصل ولكنه لا يكفي لأن من طبيعة النفس البشرية أن ترتكب الأخطاء وهنالك أناس لا تردعهم الأحكام الشرعية ويخالفون قوانين الدولة ويتجاهلون إجراءاتها، وهنا يأتي دور الناحية القانونية والرقابة والعقوبات لمن يخالف ولكنها ليست الأصل فيكفي خطاب من الخليفة ليلتزم معظم الناس ويكفي رقابة محدودة ليلتزم البقية، وهكذا كان الحال في عهد الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم، وفي ظل وجود حالة الانسجام تلك بين الناس والنظام والدولة، فإنه يكفي عندها شرح مبسط ودقيق من الدولة للخطر الذي يتهدد الناس ليتجنبه الناس بشكل جاد وحذر ودون الحاجة لأن تلجأ الدولة للتهويل والتضخيم لإقناع الناس وذلك باللعب على وتر غريزة البقاء والمجازفة بما قد يجلبه ذلك من كوارث نفسية وصحية واقتصادية واجتماعية مدمرة على الناس قال تعالى:{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
وفي الختام نسأل الله أن نكون في هذه المقالة قد وفقنا في تشخيص سبب حالة الانفصام بين الشعوب والأنظمة سواء في الدول الغربية أو في بلاد المسلمين ومنها ما هو حاصل في فلسطين، وفي ذلك بيان فكري سياسي لأولئك الذين يهاجمون الناس والشعوب ويصفونهم بالتخلف والهمجية ومثيري الشغب والفوضى وينعتونهم باللامبالاة واللامسؤولية، وهم في حقيقة الأمر لو تمعنوا في ذلك الانفصام لوجدوه مؤشراً على فساد وفشل النظام الحاكم وإدراك الناس لذلك الفساد والفشل، وكذلك نأمل أن يكون في هذا الطرح بوصلة للسياسيين والمفكرين الذين يبحثون عن تفسير لحالة الانفصام بين الحكومات والشعوب فتارة تراهم يهاجمون الحكومات وتارة يهاجمون الشعوب وتارة يتخبطون بين الأمرين، وهنا لا نقصد أصحاب اللغة الهابطة التي تفتقد للفكر والسياسة والأدب والحقيقة في تشخيص الواقع والذين يحاولون الدفاع عن الأنظمة بكل الطرق والوسائل ويحاولون بكل الوسائل جلد ظهور الناس وعقولهم ويتفانون في البحث عن شماعة لتبرير فشل الحكومات في نيل ثقة الناس وأخذ قيادتهم وطاعتهم حتى في القضايا التي يظهر فيها الحرص على الناس، فأولئك النفر لا يبحثون عن الصواب ولا يتبعون الحق وهم في حقيقتهم من "عظام رقبة" النظام ومن الوسط السياسي الفاسد التابع له، وهم جزء من المشكلة.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين