الاتصال بالأجنبي فوق كونه جريمة فإنه له ثمنه

 

عن الراية

تسعى الدول دائماً لأن تبسط سيادتها، ونفوذها على مناطق ومساحات أبعد من حدودها، سواء إقليمياً أو دولياً لتأمين مصالحها، عبر القوة حيناً، وبالسياسة أحياناً أخرى، ولتحقيق ذلك فهي تسعى لبناء الصداقات، وعقد التحالفات، وتقليل الأعداء، والاجتهاد على التفريق بين صفوفهم تجنباً لمواجهتهم مجتمعين في جبهة واحدة، ولإتمام ذلك تحتاج لبعض الأدوات والأتباع الذين يصلون في بعض الأحيان إلى درجة العملاء.

والأصل في العلاقات الدولية أن تكون بين الدول، فالدولة هي الجهة الوحيدة التي تملك تمثيل الجماعة التي تتبع لها من الناس، ويمنع الأفراد والأحزاب من أي اتصال سياسي مع أي دولة أخرى، وإن حصل مثل هذا الاتصال يُنظر إليه بعين الريبة والتُهمة، لما يشكله من خطر على كيان الدولة، وتهديد لاستقرارها، وأمنها ووحدتها.

ومعلومٌ أن الدول حين تمارس السياسة الخارجية، وتدير علاقاتها مع غيرها من الدول لا تمارسها من باب العلاقات العامة، والمجاملة والنشاط الخيري، وإنما تقوم تلك العلاقات على أساس المصالح، وبقدر تحقق مصالح الدولة توطد علاقتها مع أطراف تلك العلاقة.

لقد مثلت تلك الاتصالات للأفراد والأحزاب مع الدول الأجنبية خارج إطار الدولة باباً واسعاً للفتنة، وتمزق الكثير من المجتمعات، وانهيار العديد من الدول واستعمارها، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى في عموم جغرافيا العالم وتاريخه، ولم تكن الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية بعيدة عن مثل هذه الفتن، ولا أدل على ذلك من تلك الحادثة الأليمة، والفاجعة العظيمة، وهي إسقاط الخلافة في 1924م، والذي كان نتيجة طبيعية لسلسلة من الاتصالات والارتباطات المشبوهة لأفراد وأحزاب من أبناء الأمة الإسلامية بالغرب تم الترويج من خلالهم لأفكار ومفاهيم تهدم الإسلام في نفوس أبنائه، وقد تم التركيز على نظام الحكم وكيان الدولة ووحدتها، توجت بهدم الدولة وتقسيم البلاد عبر اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة، والتي لا زلنا نعيش آثارها إلى يومنا هذا، فقد ابتليت البلاد بحكام عملاء أقل ما يقال فيهم إنهم نواطير للغرب في بلادنا، يصدق فيهم قول الصادق المصدوق وَيَنْطِقُ فِي النَّاسِ الرُّوَيْبِضَةُ»، وللمحافظة على مصالحه وتنفيذ خططه حرص المستعمر على إيجاد وسط سياسي وإعلامي وثقافي شكل مرآة عاكسة لكل ما هو غربي حتى على مستوى الطعام والشراب واللباس وحتى قصات الشعر، في منهجية متكاملة لمنع وقوف الأمة على أقدامها مرة أخرى واستعادة كينونتها وهويتها ومن ثم بناء دولتها التي تعبر عن معتقدها لتقوم بدورها الحضاري تجاه البشرية على أساس الإسلام.

وحتى لا أتفرع أكثر ويتشعب الحديث، مع أننا ننظر إلى قضايا الأمة على أنها قضية واحدة مهما اختلفت الحيثيات والتفاصيل، فمشكلة الأمة، والعلاج لكل ما يجري من مصائب في الأمة تتلخص في غياب الإسلام عن الحكم، وضياع الأرض المباركة فلسطين أبرز هذه القضايا، والذي كان نتيجة حتمية لغياب دولة الإسلام، والتي مثلت نموذجاً صارخاً ولا زالت، على المصائب والكوارث التي يمكن أن يجرها الاتصال بالأجنبي على الأمة وقضاياها، لقد تولى أمر قضية فلسطين شرذمة من الأدوات والأتباع الذين لا يرون الحل لقضيتها إلا من خلال ما تخطه يد القوى الدولية الآثمة من مشاريع ومبادرات وصفقات، تُسوّق على الناس بالأكاذيب والألاعيب على أنها الحل الأمثل والنصر الأكبر، وتقدَّم في سبيلها جبال من التضحيات وأنهار من الدماء، ويصير العملاء أبطالاً وزعماء.

لقد سعت القوى الدولية المستعمرة منذ أن زرعت كيان يهود في فلسطين، إلى إيجاد شخصيات وهيئات وأحزاب يمكنها التعاون معها في شرعنة كيان يهود وجعله مكوناً طبيعياً من مكونات المنطقة، حتى وجدت ضالتها في منظمة التحرير، التي اعترفت بكيان يهود وحقه في الوجود على ثلثي أرض فلسطين، ووقعت مع كيان يهود عبر الوسطاء الدوليين اتفاقيات مهينة ومذلة لحماية كيان يهود والمحافظة على أمنه، وجعلت مرجعية حل القضية بالاستناد إلى مقررات تلك الدول الاستعمارية تحت مسمى "الشرعية الدولية"، وقرارات الأمم المتحدة، في تنكرٍ واضح لهوية القضية ومرجعيتها الإسلامية، وعلاقة الأمة الإسلامية بفلسطين ودورها في التحرير.

ولأن تلك القوى الدولية الاستعمارية لا تقيم بطبيعتها وزناً لأولئك العملاء، ولا تحسب لهم أي حساب، فدورهم محصور في التنفيذ، رأينا كيف أن الرؤية الدولية تتغير تجاه حل القضية من حل الدولة الواحدة الذي رعته بريطانيا، إلى حل الدولتين الذي رعته أمريكا طيلة أكثر من 60 عاماً، ومع التغييرات الحادة في صيغة الحل على يد الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة ترامب، والذي يمارس السياسة بعقلية التاجر الفاجر، وبأسلوب الابتزاز، فقد شاهدنا كيف يرى هو وإدارته الطريق إلى حل القضية، وإنهاء الصراع مع يهود بفرض صفقته على الأمة رغماً عنها، ولقد رأينا أيضاً كيف أن الحكام العملاء هم أدوات التنفيذ لتلك الرؤية، وأما ما يصدر عن بعضهم من مواقف يُتوهَّم بأنها للرفض والتصدي، فما هي إلا جعجعات وطخ في الهواء، وفي مقدمتها مواقف السلطة الفلسطينية وقراراتها الأخيرة بوقف العمل بالاتفاقيات الموقعة مع يهود.

وفي سياق متصل بالانحرافات والخطورة التي يمثلها الاتصال بالأجنبي، جاءت زيارة وفد حركة حماس الاثنين 17/7/2019 إلى روسيا المجرمة عدوة الإسلام والمسلمين في كل مكان، ومن قبل كانت زيارة وفد حركة الجهاد الإسلامي، وكذلك إعلان موسكو الذي صدر عن اجتماع الفصائل في موسكو لبحث ملف المصالحة في شباط/فبراير الماضي... صحيح أن الاجتماع والإعلان الصادر عنه كان فارغاً من أي مضمون، ولكن تبقى جريمة الاتصال بأعداء الأمة، وإلقاء قضاياها على طاولات بحثهم من الشناعة بمكان، أما زيارة وفد حماس فقد تخطت ما هو أبعد من مجرد الاتصال، فقد تنكرت الحركة لمعاناة المسلمين في الشيشان، وغيرها من بلاد المسلمين الذين يعانون من الإجرام الروسي، وعلى رأسهم أهل الشام الذين تدك القوات الروسية بيوتهم ومساجدهم دكاً، وتفتك بهم فتكاً، بل إن البعض يعتبر تلك الزيارة مدخلاً لتحسين العلاقة مع نظام بشار المجرم! وإن ما يدمي القلب أن تعتبر الحركة وعلى لسان نائب رئيسها موسى أبو مرزوق أن روسيا يمكن أن تحد من هيمنة أمريكا على العالم، كما فعلت في منطقة الشرق الأوسط، ومعلوم أن المقصود بذلك ما تمارسه روسيا من إرهاب وإجرام في سوريا، الذي يراه السيد أبو مرزوق تجربة جيدة لإيقاف التغول الأمريكي، وإيجاد حالة من التوزان الدولي تفيد في حل قضية فلسطين!

الأصل في الفصائل، وخاصة تلك غير المنضوية تحت مظلة منظمة التحرير، وترفع شعار الإسلام أن تعمل حثيثاً على وقف حالة الانهيار والانجراف نحو تيار القوى الدولية، والتماهي مع مشاريعها التصفوية للقضية، وحماية قضية فلسطين من عبث العابثين، ومكر الماكرين فإذا بهم يتسابقون ويتنافسون في خطب ود تلك القوى المجرمة التي لم تخلُ لحظة من تاريخ الأمة من شهادة على عداوتهم للإسلام والمسلمين، فأي سقوط هذا، وأي انحراف؟!

ختاماً فإن الحقيقة التي يجب أن تترسخ في عقولنا، وتربى عليها أجيالنا هي أن الاتصال بالأجنبي انتحار سياسي، وأن المراهنة على أي شكل من أشكال العلاقة مع الدول الاستعمارية من خلال اللعب بورقة الصراع فيما بينهم، الخاسر الوحيد فيها هو الأمة، فجميع الكفار أعداء للأمة الإسلامية، وهم على قلب رجل واحد في عداوتهم للأمة، ومن دُعي إلى شيء من ذلك فليكن موقف الصحابي كعب بن مالك حين جاءته الدعوة من ملك الغساسنة مستغلاً مقاطعة النبي eله، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن أحرق الرسالة، فليكن هذا الموقف نموذجاً وقدوة لكل مسلم فضلاً أن يكون سياسياً أو حزباً.

 

بقلم: الأستاذ خالد سعيد

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين