موسكو... وانحراف البوصلة السياسية

د. مصعب أبو عرقوب *

وصل إلى العاصمة الروسية موسكو وفد من قيادة حركة حماس يترأسه عضو المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق، وقال حسام بدران عضو المكتب السياسي للحركة إن الزيارة تأتي في إطار توثيق العلاقات الثنائية بين الحركة وبين الحكومة الروسية.

قد يبدو خبرا روتينيا في خضم الأحداث والتصريحات البروتوكولية التي تشبه نصوصا مقولبة جامدة تعودت عليها آذان المتلقين، لكنها زيارة سياسية جسدت حالة من الوهن والتخبط وضياع البوصلة في التعاطي بسطحية مع قضية من قضايا الأمة المصيرية.

مصيرية.. وصف حقيقي لقضية الأرض المباركة بالنسبة للأمة الإسلامية، فالأرض المباركة أولى القبلتين ومسرى رسول الله عليه الصلاة والسلام، والتعاطي معها على غير هذا الأساس يقلل من كونها قضية مصيرية لأمة مستعدة للتضحية من أجلها بالغالي والنفيس، ويقزمها إلى قضية فصائلية ضيقة تتحكم بها دول حسب أهوائها ومصالحها!

فمصالح الدول تحكم سلوكها السياسي، فالدول تخرج من بعدها الجغرافي  للسياسية الدولية  إما خروجا مبدئيا لنشر أفكارها ومعتقداتها ورسالتها للعالم، كما كانت دولة الإسلام التي خرجت للعالم برسالة نور وهداية ورحمة للعالمين، فانتشر الإسلام في العالم وأخرجت شعوبا من الاستبداد السياسي والعبودية للبشر والقوانين التي وضعها الطغاة لحماية مصالحهم إلى عدل الإسلام ورحمة الأحكام الشرعية التي ساوت بين البشر، وتندفع بعض الدول خارج حدودها الجغرافية لتحقيق مصالحها المادية فتدوس الشعوب والأخلاق تحت جنازير دباباتها و تدك الحواضر بصواريخ طائراتها كما فعل الغرب المستعمر في خروجه الهمجي للعالم سعيا وراء الثروات والمعادن  ونهم مصانعه وشركاته العابرة للقارات.

قارات تعج بالظلم الناشئ عن الرأسمالية البشعة التي أصبحت فيها الدماء أرخص من النفط، والإنسان لا قيمة له أمام مصالح الدول الاستعمارية التي تتصارع على ثروات الشعوب ومقدرات الناس تحت ستار نشر الديموقراطية.

الديمقراطية ونشرها...أصبحت رخصة للقتل والتدمير يتفق عليها المستعمرون الجدد، فالدول الاستعمارية لا تخطو خطوة في السياسة الخارجية إلا لتحقيق مجموعة من الأهداف حددتها سلفا من خروجها للعالم، فروسيا الشيوعية كانت تسعى لنشر الشيوعية في العالم وتصدير الثورة العمالية له، وما إن كسرت الدولة الشيوعية في مهدها حتى عادت روسيا لتعيش بين حدودها وتتلقى الضربات في محيطها الإستراتيجي من أمريكا التي خرجت للعالم مستعمرة تحت غطاء نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومع تحسن الاقتصاد  الروسي نسبيا عادت روسيا للملمة جراحاتها ومحاولة الوقوف مجددا على قدميها، ولكن هذه المرة بدون رسالة للعالم بل بانغماس في نفس المستنقع الاستعماري الرأسمالي الذي حطمها وأعادها دولة إقليمية  تكابد للوقوف في ظل تنافس استعماري متسارع على العالم.

عالم تسيطر فيه المادة والتنافس على الثروات وتداس فيه كل القيم والمبادئ مقابل ضمان النفوذ والسيطرة، فعادت  روسيا لتدخل  باب السياسة الدولية من ذلك الباب وساومت على استقرارها ونفوذها في محيطها الجغرافي مقابل تقديم خدمات البلطجة والعدوان العسكري في سوريا لنظام الأسد المجرم، فالقرم  ومحاولة ضمان نفوذها في عمقها الاستراتيجي وحديقتها الخلفية من دول الاتحاد السوفيتي السابق مقابل مساعدة أمريكا في ملفاتها في سوريا وغيرها، وبذلك تم جر الدب الروسي مرة أخرى إلى حروب ليست حروبه ولن يخرج منها بنصر أو مكاسب على المستوى البعيد.

 فالنفوذ الأمريكي المتغلغل في الأنظمة الحاكمة في بلادنا أكبر من أن تنفذ له روسيا المتعجرفة بقوتها العسكرية والضعيفة في تأثيرها على أي نظام أو حتى فصيل، وهي التي لم تستطع فرض أي حلول خاصة بها في سوريا أو حتى فرض رؤية تتوحد عليها فصائل فلسطينية جمعتهم في موسكو من قبل، ولم تستطع الخروج بهم ببيان ختامي يوقعون عليها أو ورقة يتفقون على مضمونها!

فالمضمون السياسي لأي أتفاق يبنى على نفوذ من يفرضه وليس على أمنيات و تصريحات جوفاء لا رصيد لها في الواقع، فأمريكا التي تحاول أن تفرض رؤيتها لحل قضية الأرض المباركة عبر صفقة القرن لا يمكن لروسيا التي لا تملك شيئا من أوراق النفوذ في بلادنا أن تقف أمام رؤيتها ولا تملك مشروعا خاصا بها تطرحه ، وتلوذ في دعوتها للحل بالمرجعيات الدولية التي وضعتها أمريكا وحلفاؤها  عبر حل  قديم يقوم على تثبيت كيان يهود ودعمه المتمثل بحل الدولتين الذي يعطي جل الأرض المباركة لكيان يهود والمتبقي لكيان هزيل منزوع السلاح وظيفته حماية كيان يهود ..حل على عظم خيانته لم يعد له حظ في الوجود بناء على التوسع الاستيطاني الكبير لكيان يهود وإغلاقه لكل نافذة لذلك الحل الأمريكي المنشأ، ، فما الذي تبحث عنه الفصائل الفلسطينية في موسكو؟!

موسكو التي أوغلت في دماء الأمة الإسلامية في أفغانستان والشيشان وسوريا لن تجد عندها الفصائل الفلسطينية التي تزورها وتجتمع عندها نصرة لقضية من قضايا الأمة الإسلامية ولن تجد في جعبتها حلا يوافق الرؤية الشرعية لحل قضية الأرض المباركة.

فالأرض المباركة حلها الشرعي يكون بتحريرها واقتلاع كيان يهود منها وللأبد، حل جسدته الأمة تاريخيا بمعركة حطين عندما حررتها من الصلبيين بقيادة المظفر صلاح الدين، فهل ستقوم موسكو بمساعدة الفصائل لتحرير فلسطين؟! وهل خرجت موسكو خارج حدودها الجغرافية لتزاول السياسة وتدعو الفصائل الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين وهي التي أعلنت في أكثر من مناسبة أن أمن كيان يهود من أمنها وأنها وعلى لسان سفيرها في كيان يهود ستكون الى جانب كيان يهود في حال الاعتداء عليه، فالزيارة لموسكو دون فهم واقع الدولة الروسية وعدائها للأمة الإسلامية وآخذ ذلك بعين الاعتبار يعد ضربا من اللهو السياسي في البعد التحليلي ومجافة للأمة وانسلاخا من ثقافتها ومعاندة للطريق الشرعي في البعد الثقافي والشرعي.

فالشرع الإسلامي وضع حدودا للتعامل مع أعداء الأمة المحاربين فعليا لها ووضح معايير أخرى للتعامل مع المحاربين للأمة حكما وليس فعلا، وروسيا وكيان يهود وأمريكا وجل الدول الغربية متورطة في حرب فعلية ضد الأمة الإسلامية ولا يجوز الاجتماع بها أو التفاوض معها، عوضا على الجهة التي يجب أن تتحدث باسم قضية الأرض المباركة يجب أن تمثل الأمة بكاملها ...وهو تمثيل يتجسد في تحرير الأرض المباركة وحشد القوة لاقتلاع كيان يهود فقط وليس للتفاوض أو البحث عن حلول لا تمت لثقافة ودين الأمة بصلة.

فالصلة أو العلاقة الشرعية هي التي ربطت صلاح الدين الكردي بالأرض المباركة فحررها، وهي غير موجودة بيننا وبين موسكو حتى تزورها الفصائل الفلسطينية ...بل العلاقة متناقضة على التمام والكمال، فالعلاقة بين الأمة الإسلامية صاحبة قضية الأرض المباركة وبين روسيا علاقة عداء كرستها الجرائم التي اقترفتها وما زالت تقترفها روسيا في حق الأمة الإسلامية.

فالأمة الإسلامية هي الوجهة الصحيحة للتوجه إليها للعمل على تحرير الأرض المباركة، ولا يعقل أن يشكك في قدرة الأمة وأنها صاحبة الاختصاص في قضية قبلتها الأولى وتصبح روسيا قبلة لفصائل تبحث عن حل لقضية الأرض المباركة عندها، فهل الأمة وجيوشها وقواها الحية ليست ذات علاقة بقضية فلسطين وليست وجهة طلب العون والنصرة لفلسطين حتى تشيح الفصائل بوجهها عنها وعن مطالبتها بالقيام بواجبها الشرعي لتحرير مسرى نبيها الكريم؟! وهل موسكو هي الوجهة والقبلة التي يتوجه لها طلبا للعون والمساعدة لتحرير القبلة الأولى ..هل هذا هو المنطق عند فصائل أضاعت البوصلة؟!

فالبوصلة السياسية الصحيحة يجب أن تتوجه للأمة الإسلامية وقواها الحية وجيوشها للعمل على تحرير فلسطين، والبوصلة السياسية تدور مع ثقافة الأمة وأحكامها الشرعية التي تضبطها بضابط العقيدة فتحدد الولاء وترسم طريق العزة والتحرير الذي لا يمكن أن يمر عبر موائد المستعمرين ولا يمر بعواصمهم إلا مع الفاتحين الحاملين لرسالة الإسلام نورا وهدى ورحمة للعالمين.

*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

18-7-2019