قطع أمريكا مساعداتها المالية عن السلطة الفلسطينية
تهديدٌ لا يصل إلى حد السماح بانهيارها
بقلم: الأستاذ خالد سعيد*
عن الراية
لطالما استخدمت المساعدات المالية المقدمة من قبل الدول القوية إلى تلك الأقل منها قوة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وثقافية وضمان التبعية لها، فالمال هو أحد الأدوات الفعالة لبسط النفوذ الاستعماري، وفرض الهيمنة على الشعوب الضعيفة، ونهب الثروات بما يفوق ما تنفقه الدول الكبرى بحجة الدعم والتمويل والمعونات أضعافاً مضاعفة، فالدول وخاصة الرأسمالية منها تهتم دائماً بتحقيق مصالحها، ولا تتصرف كمؤسسات خيرية، والأمثلة والدلائل على ذلك أكثر من أن تحصى.
في هذا الإطار يأتي التهديد الأمريكي للسلطة الفلسطينية بقطع المساعدات المالية عنها، لتؤكد أن تلك المساعدات عبارة عن رِشاً سياسية وأوراق ضغط تُستخدم عند الحاجة لفرض الرؤية الأمريكية للحل فيما يتعلق بقضية فلسطين، ففي تغريدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب على "تويتر" قال: "ندفع للفلسطينيين مئات ملايين الدولارات سنوياً، ولا نحصل منهم على أي تقدير أو احترام. هم لا يريدون حتى التفاوض على معاهدة سلام مع (إسرائيل)". وأضاف في تغريدة ثانية: "طالما أن الفلسطينيين ما عادوا يريدون التفاوض على السلام، لماذا ينبغي علينا أن نسدّد لهم أياً من هذه الدفعات الضخمة في المستقبل؟"
ورداً على تلك التهديدات بقطع المساعدات المالية أظهرت السلطة الفلسطينية تحدياً ورفضاً لها معتبرةً أن ذلك ابتزازاً لا يمكن القبول به كما جاء على لسان الناطق باسم السلطة نبيل أبو ردينة بأن القدس بمقدّساتها "ليست للبيع لا بالذهب ولا بالفضة"، وفي السياق نفسه صرحت عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حنان عشراوي "إننا لن نخضع للابتزاز"، مؤكدة أن الحقوق الفلسطينية "ليست للبيع".
من يسمع هذه التصريحات العنترية من رموز السلطة يظن لوهلة بأن الحقوق مصانة وأنها لم تخضع للمساومة والتفريط منذ أمد بعيد، بينما منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة هي نفسها من اعترفت بكيان يهود وحقه في حوالي80% من أرض فلسطين. أليسوا هم أنفسهم الذين يصرحون صباح مساء بتمسكهم بحل الدولتين، والقبول بدولة فلسطينية في حدود 67 عاصمتها (القدس الشرقية)، يجاورها كيان يهود في كل فلسطين المحتلة عام 48 عاصمته (القدس الغربية)، وهو ما يعني التنازل عن الجزء الأكبر من مدينة القدس بوصفها عاصمة لكيان يهود؟ كما أن رجالات السلطة لا زالوا يؤكدون في كل مناسبة تمسكهم بالسلام مع يهود، وما يزعجهم في أمريكا هو أنها لا تمارس وساطتها بنزاهة حتى في ظل قرار ترامب الأخير بشأن مدينة القدس واعتبارها عاصمة لكيان يهود. وهو ما يفسر حديث السلطة للبحث عن وسيط بديل، أي أنهم متمسكون بعملية الاستسلام والتصفية لقضية فلسطين لكن الإشكالية تكمن في الوسيط!
على أي أساس تخوض السلطة هذه المعارك الوهمية وتتمترس خلف عنتريات فارغة سوى بهدف التضليل، وصناعة صورة بطولية مزيفة لقادة التنسيق الأمني المقدس الذي لم ينقطع حتى في ظل الظروف والأحداث الجارية؟ هل يُتصور ممن باع جل فلسطين أن لا يمضي في عملية البيع حتى النهاية؟ هل يُتصور فيمن رضي بتقسيم القدس إلى شرقية وغربية وقَبِلَ أن تكون محل نقاش وتفاوض، وجعل الحصة الأكبر من المدينة بيد يهود، أن لا يقبل بما هو أقل من شرقي القدس كما تفيد بعض التسريبات باعتبار بلدة أبو ديس هي عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة؟
إن تواطؤ السلطة في بيع فلسطين ظاهر ولا يحتاج لكثير إمعان نظر وتدقيق ملاحظة، ومن صور هذا التواطؤ حمايتها للبطريرك ثيوفيلوس المتورط بفضائح بيع أراضٍ في القدس وغيرها خاضعة لسلطة الكنيسة الأرثوذوكسية ليهود، رغم الاحتجاج الواسع ورفض أبناء الطائفة له ولممارساته الخيانية ومطالبتهم بفصله وطرده، إلا أن السلطة تصر على حمايته واستمرار الاعتراف به دون أدنى إدانة لأعماله، كما أنها، أي السلطة، أقدمت على التعدي على وقف رسول الله في مدينة الخليل، والمعروف بوقف الصحابي تميم الداري رضي الله عنه، حين قدمته هدية للبعثة الروسية (المسكوب) ليسلم بعد ذلك ليهود فيما هو مشهور عنها في أكثر من حادثة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن قادة السلطة يدركون تماماً بأن وجودها مرتبط بمصالح القوى الكبرى وعلى رأسهم أمريكا، فلن يسمح الغرب بانهيار السلطة مطلقاً وهي التي تقدم الخدمات الأمنية والحراسة لكيان يهود، إذ إن غالبية المعونات المالية المقدمة للسلطة تنفق على أجهزتها الأمنية، والتي تشرف على بناء هذه الأجهزة وصياغة عقيدتها القتالية هي أمريكا، وتعتبر علاقتها بأجهزة أمن يهود علاقة عضوية لا يمكن الفصل بينها. لذلك يجب فهم التهديد الأمريكي بقطع المساعدات المالية للسلطة في إطار التضييق والضغط للقبول بالتوجهات الأمريكية فيما يتعلق برؤيتها لتصفية قضية فلسطين.
وفي ظل حقيقة أن السلطة مشروع استعماري تتلاعب به القوى الدولية فإن قادة السلطة يعزفون على نغمة اختلاف مصالح تلك القوى ويعلون صوتهم ضد التهديدات الأمريكية ليس لقوة في أنفسهم ولا ثبات على مبادئ وتمسك بحقوق، وهم الذين استمرؤوا الذل والخنوع في وجه أمريكا ويهود، ولكنهم يستفيدون من مواقف الدول التي عارضت توجهات أمريكا بشأن القدس ضمن تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لكيان يهود ونقل السفارة الأمريكية للمدينة بأغلبية ساحقة، وخاصة الدول الأوروبية وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا والذي شكل إحراجا كبيراً لأمريكا على أنها خارجة عن الشرعية الدولية وما أقرته من قرارات متعلقة بالقدس وفلسطين. لذلك ينبغي ألا تنطلي علينا محاولات السلطة التضليلية وادعاؤها شرفاً لا تستحقه، وهي التي لا تدخر جهداً للتنازل عن فلسطين، ولا تترك طريقاً للخيانة إلا سلكته.
نعم إن فلسطين ليست للبيع فهي آية في كتاب الله، وعقيدة في قلوب المؤمنين، وتحريرها فرض، ولا يثبت أمام إغراءات الذهب والفضة إلا الرجال الأتقياء الأنقياء أمثال السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله الذي حافظ عليها من الضياع، عُرضت عليه الأموال الطائلة لحسابه الشخصي ولخزينة الدولة بما يفوق الحاجة، لكنه رفضها تماماً وردَّ على يهود وقتها رداً قوياً مُدوياً: "إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست ملك يميني بل ملك للأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بأموالهم وملايينهم، وإذا مزقت يوماً دولة الخلافة فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن"، فالمسلمون اليوم مطالبون بإعادة سلطان الإسلام وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي ستُنهي وجود كيان يهود في فلسطين، وتُوقف أمريكا والغرب عموماً عند حده وتقطع نفوذه من بلادنا وتمنعه من التلاعب في قضايانا.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين