Kongres22

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

السؤال: ضَمن الحزب الجمهوري السيطرة على مجلس النواب الأمريكي بأغلبية بسيطة في مجلس النواب المكون من 435، (إذ فاز بـ218 مقعدا، على الأقل، بحسب تقديرات شبكة "سي بي إس نيوز"، شريك بي بي سي في الولايات المتحدة... بي بي سي، 17 تشرين الثاني 2022)، وأما الديمقراطيون فقد احتفلوا (الأحد باحتفاظ الحزب بالأغلبية البسيطة في مجلس الشيوخ الأمريكي... الجزيرة، 14/11/2022). وكانت وسائل الإعلام المحلية في معظم دول العالم تنقل أخبار انتخابات مجلسي الكونغرس الأمريكي (النواب والشيوخ)، فكيف يمكن فهم أن أحداثاً محلية في أمريكا - لا يُلتفت كثيراً لمثيلاتها في غير أمريكا - أن تصبح حدثاً كبيراً حول العالم؟ أو أن أمريكا تطلب من عملائها وتوابعها الاهتمام بأحداثها الداخلية لجعلها مسألة دولية على غرار بريطانيا التي تنقل وسائل إعلام عملائها الأخبار التافهة عن ملوكها وزواجهم وأطفالهم وغير ذلك؟ أو أن لتلك الانتخابات أثراً حقيقياً حول العالم؟

الجواب: نعم، تطلب بريطانيا من عملائها وتوابعها الاهتمام بتوافه الأمور في بريطانيا من باب الشعور العميق والكبير لدى الإنجليز بالعظمة وكأن ما أطلق عليه قديماً الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لا يزال قائماً حتى اليوم، ففي حالة بريطانيا فإن ذلك من باب إحياء شعورها الغابر بالعظمة، وأما أمريكا فإن المسألة مختلفة تماماً. ولتوضيح ذلك نستعرض ما يلي:

1- لفهم تأثير الأحداث الداخلية الأمريكية على الساحة الدولية نشير إلى ما قاله الرئيس الأمريكي بايدن بأنه يجب ملاحظة أن روسيا انتظرت نتائج انتخابات الكونغرس الأمريكي قبل أن تبدأ انسحابها من خيرسون (الجزيرة، 11/11/2022)، ونشير كذلك إلى قرار السعودية من خلال "أوبك بلاس" خفض إنتاج النفط بواقع مليوني برميل يومياً حتى ترتفع الأسعار عالمياً ويضج المواطن الأمريكي على أسعار الوقود محلياً فيحجم عن انتخاب الديمقراطيين وينتخب الجمهوريين، ولا يمكن حتى اللحظة تأكيد ما إذا كانت إغلاقات الصين بحجة كورونا هي للأسباب المعلنة حقيقةً أم من باب دعم حزب الرئيس بايدن انتخابيا، وهذا ما يمكن أن تكشفه الأيام القادمة. ومجمل القول بأن انتخابات التجديد النصفي 8/11/2022 كانت تمثل حدثاً دولياً كبيراً، بل ويكفي القول بأن أي اهتزاز يحصل داخل أمريكا يمكن لارتداداته أن تهز مناطق أخرى حول العالم، لذلك لا يجدر التقليل من أهمية هذه الانتخابات الأمريكية دولياً، وما يجعل هذه الأهمية بالغة أن فترة إدارة الرئيس السابق ترامب قد كشفت عن انقسام حاد للغاية داخل أمريكا شعباً وحكومةً وأحزاباً وشركات المال، لكل ذلك فإن العالم كان يراقب ما يمكن أن تتمخض عنه نتائج الانتخابات للكونغرس الأمريكي.

2- في الدولة الرأسمالية الأشهر والأكبر في العالم، أمريكا، فقد جعل النظام السياسي المنافسة حصراً بين حزبين، وكل منهما يرتكز على الشركات الرأسمالية للفوز في الانتخابات! وفي أبلغ إشارة إلى أن الذي يقول كلمته هو الشركات الرأسمالية العملاقة وليس الشعب هو أن إنفاق الشركات على دعم المرشحين لانتخابات الكونغرس بمجلسيه هذا العام كان نحو 17 مليار دولار، (تظهر الولايات المتحدة في كل المناسبات لتقدم النموذج المتناقض، ففي الوقت الذي تعاني فيه البلاد من تضخم تاريخي، سجل الإنفاق على دعاية انتخابات التجديد النصفي مستوى قياسيا. كشفت منظمة أمريكية عن رقم قياسي لتكلفة انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة لعام 2022، والذي تجاوز 16.7 مليار دولار. سكاي نيوز عربية، 13/11/2022)، وهو ما يعادل ميزانية بعض الدول في أفريقيا وغيرها، ومنه يظهر بوضوح أن الرأسماليين في أمريكا أصحاب الشركات الكبرى هم من يوجهون الشعب الأمريكي لانتخاب هذا وعدم انتخاب ذاك، فالانتخابات الأمريكية ظاهرها أن السيادة للشعب لكن باطنها أن السيادة للشركات الكبرى التي يمكنها صرف مئات الملايين من الدولارات لدعم مرشح بعينه، حتى قيل بأن السياسيين في أمريكا هم من يختارون ناخبيهم وليس العكس، وليس أدل على ذلك أن من يرفع شعار حرية الإجهاض يريد جمهوراً من النساء لانتخابه، ومن يرفع شعار الدفاع عن الهجرة يستهدف الأقليات لينتخبوه، ومن يرفع شعارات عنصرية يستهدف الأمريكيين البيض لينتخبوه، وهكذا.

3- لقد كانت سيطرة المال والشركات هي الحال في أمريكا دائماً، لكن فترة إدارة الرئيس السابق ترامب قد كشفت عن تغييرات حادة تحصل داخل أمريكا، وهذه التغييرات كان عنوانها الأبرز أن التنافس الحاد بين الشركات الكبرى لم يعد تنافساً رياضياً كما كان في السابق، بل صار يسخن وزادت سخونته حتى وصل أو كاد درجة الغليان عندما أصبح جشع الرأسماليين لا يسمح بالتعايش السلمي في ظل المصالح المتضاربة لهؤلاء الرأسماليين، فانتقلت حينها المنافسة الرأسمالية الحادة بين الشركات إلى حالة من كسر العظم بين السياسيين الممثلين لمصالح تلك الشركات، وبالمجمل فقد انقسم الرأسماليون إلى قسمين حتى الآن: قسم تغلب عليه شركات التكنولوجيا ويمثله الحزب الديمقراطي الأمريكي، وقسم آخر تغلب عليه شركات النفط والطاقة ويمثله الحزب الجمهوري الأمريكي، وهذان القسمان مرشحان لمزيد من الانقسام تبعاً لمصالح الشركات الكبرى التي تقف خلف هذا أو ذاك وبحسب الولاية الأمريكية التي ترتكز فيها مصالح تلك الشركات. ومما تجب ملاحظته أن شركات النفط والطاقة الأمريكية كانت تمثل لعقود جوهرة الرأسمالية الأمريكية، وكانت لها سطوة كبيرة داخل أمريكا وتأثير كبير في الخارج فكانت حروب النفط وسياسات مد خطوط الأنابيب بين الدول وبناء الناقلات العملاقة التي تدر على هذه الشركات نفوذاً كبيراً وأرباحاً كبيرة، لكن في العقدين الماضيين قفزت إلى السطح شركات التكنولوجيا التي أخذت رساميلها ترتفع بشكل صاروخي حتى فاق رأسمال بعضها في أقل من عقدين رأسمال بعض شركات النفط والطاقة التي راكمتها خلال ما يقرب من قرن من الزمان، ومع ارتفاع حدة هذه المشكلة التي زادت بشكل متفاقم خلال فترة كورونا، حيث سياسة الإغلاقات التي حرمت شركات النفط من الكثير من الأرباح، بل وصل سعر النفط أحياناً للسالب، فيما زادت قفزات شركات التكنولوجيا حين جلس الناس في منازلهم يتواصلون مع بعضهم ويقومون بأعمالهم من خلال أجهزة الاتصال والكمبيوتر، وزادت المعاملات التجارية والمالية من خلال هذه الشركات مثل سيطرة شركة "أمازون" الأمريكية على الكثير من قطاعات التجارة وحولتها إلى تجارة بطرق إلكترونية وتوصيل البضائع للمنازل، وقد تزامنت هذه القفزات الهائلة مع قدوم إدارة ترامب، وهنا تأججت نار الصراع بين هذه الشركات الكبرى الخاسرة والرابحة حتى وصلت الحدة لمحاولات كسر بعضها عظم بعض. ولأن هذه الشركات تنفذ ما تريد عبر السياسيين فإن هؤلاء السياسيين قد انقسموا انقساماً حاداً.

4- لقد زاد الانقسام في الولايات الأمريكية، فأخذت الولايات التي يسيطر عليها الديمقراطيون تسن القوانين ضد شركات النفط مثل ما أصدرته كاليفورنيا من سياسة صفر انبعاثات والاعتماد كلياً على السيارات الكهربائية سنة 2035، فيما أخذت ولايات مثل تكساس التي يسيطر عليها الجمهوريون ومن خلفهم شركات النفط التي تسيطر على الولاية تدرج الشركات الصناعية "الخضراء"، أي تلك التي تتبنى سياسة تقليل الانبعاثات، على قائمتها السوداء. وزادت شرعنة الانقسام حين أخذت الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون بتقسيم الدوائر الانتخابية وإصدار القوانين بما يضمن سيطرتهم على الولاية في أي انتخابات قادمة، مثل القوانين التي تضيق التصويت بالبريد الذي يحبذه أنصار الديمقراطيين، فيما أخذت الولايات التي يسيطر عليها الديمقراطيون بتقسيم الدوائر الانتخابية وإصدار قوانين كتسهيل التصويت بالبريد بما يضمن عدم نفاذ الجمهوريين إلى هذه الولايات، ناهيك عن الانقسام الثقافي مثل إدراج ثقافة "نظرية العرق" في المناهج الدراسية في الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون ونشر ثقافة ضد الهجرة والمهاجرين، وفي الجهة الأخرى يتم نشر ثقافة حرية الإجهاض في الولايات التي يسيطر عليها الديمقراطيون على اعتبار أنها مناهضة للنظرة المحافظة للجمهوريين وكذلك ثقافة الترحيب بالمهاجرين، وهكذا انقسمت الولايات الأمريكية إلى ولايات حمراء يسيطر عليها الجمهوريون يغلب عليهم الأمريكان البيض وولايات زرقاء يسيطر عليها الديمقراطيون ويجمعون معهم معظم جاليات المهاجرين، أي أن الانقسام انتقل ليأخذ طابعاً عرقياً، وصار لهذا الانقسام طابع الديمومة بدرجة متزايدة، وتوجه السياسيون في الولايات نحو تعظيم المسائل الخلافية!

5- كانت أمريكا ومعها حكومات العالم تراقب نتيجة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي، وذلك وفق مصالحها، فمن ناحية روسيا كانت تنتظر أن يعيق "جماعة ترامب" عند فوزهم في هذه الانتخابات الدعم الأمريكي الكبير الذي تقدمة إدارة بايدن لأوكرانيا... وكانت أوروبا، خاصة ألمانيا، تتخوف من تأثير "جماعة ترامب" على وقوف أمريكا مع أوروبا لصد توجهات روسيا التوسعية... وربما تخوفت الصين أيضاً من تأثير باتجاه تهور أمريكا ضد الصين أو تسليح نووي لكوريا الجنوبية واليابان... وكذلك عملاء أمريكا في المنطقة الإسلامية فيرى بعضهم كالسعودية أن "جماعة ترامب" أفضل لهم من "جماعة بايدن"، ويرى بعضهم الآخر العكس. صحيح أن هذه الانتخابات ليست رئاسية إلا أنها كانت توصف وكأنها رئاسية، ناهيك عن كونها مؤشراً كبيراً للانتخابات الرئاسية القادمة سنة 2024. وبسبب التضخم الكبير في أمريكا ومنه ارتفاع أسعار الوقود فقد سادت أجواء مواتية للحزب الجمهوري للاكتساح، وهذا ما كانت تتنبأ به استطلاعات الرأي وتروج له وسائل الإعلام بدرجة أخافت الديمقراطيين مما سميّ بـ"موجة حمراء كاسحة"، بمعنى أن الظروف الانتخابية كانت بمجملها في صالح الجمهوريين، لكن ما ظهر حتى الآن من نتائج يشكل صفعةً لاستطلاعات الرأي ووسائل الإعلام، وبعض تلك الوسائل كان في صف الديمقراطيين، التي توقعت "موجة حمراء كاسحة"، وكان الرئيس السابق ترامب يتنقل بين الولايات لدعم المرشحين الجمهوريين وكأنها حملة انتخابات رئاسية، وفي المقابل استخدم الديمقراطيون حملات قام بها الرئيس الحالي بايدن، والسابقون مثل أوباما وكلينتون على أمل "وقف الموجة الحمراء" التي كان يتصور أنها داهمة. ولكن هذه الموجة لم تتحقق، بل تشير نتيجة الانتخابات إلى ضمان الحزب الجمهوري السيطرة على مجلس النواب الأمريكي بأغلبية بسيطة في مجلس النواب المكون من 435، (إذ فاز بـ218 مقعدا، على الأقل، بحسب تقديرات شبكة "سي بي إس نيوز"، شريك بي بي سي في الولايات المتحدة.. بي بي سي، 17 تشرين الثاني 2022)، وأما الديمقراطيون فقد (احتفلوا الأحد باحتفاظ الحزب بالأغلبية البسيطة في مجلس الشيوخ الأمريكي... ويملك الديمقراطيون حاليا 50 مقعدا، إضافة لوجود صوت نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس التي تترأس مجلس الشيوخ، مقابل 49 للجمهوريين، ويبقى مقعد واحد لم يُحسم بعد في انتخابات مجلس الشيوخ بانتظار جولة الإعادة في ولاية جورجيا المقررة في السادس من ديسمبر/كانون الأول، ويمكن للديمقراطيين من خلالها أيضا تعزيز غالبيتهم... الجزيرة، 14/11/2022)، وهذه النتائج مخالفة لكافة التوقعات والاستطلاعات!

6- وبالتدقيق نجد الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون، وفيها حاكم جمهوري وفيها غالبية نواب وشيوخ محليين في الولاية من الجمهوريين، قد ظلت جمهورية دون أن يتمكن الحزب الديمقراطي من تحقيق أي نفاذ معتبر فيها، مع استثناءات صغيرة مثل أن زيادة أعداد المهاجرين خاصة من أمريكا اللاتينية مثلاً في تكساس تجعل بعض نوابها، وهم قلة، من الديمقراطيين، فيما تبقى السيطرة شبه التامة عليها للجمهوريين، والعكس صحيح في تلك الولايات التي يسيطر عليها الديمقراطيون، وظهر هذا الانقسام على أنه عميق وراسخ، فيما ظلت بعض الولايات موضع صراع بين الطرفين ويسمونها بالولايات المتأرجحة مثل جورجيا وأريزونا ونيفادا وبنسلفانيا. ولعل نتيجة الانتخابات التي خالفت كل التوقعات التقليدية وخالفت استطلاعات الرأي والقراءات العادية لعمليات الانتخاب تشير إلى أن الولايات الأمريكية التي تجمعها العاصمة واشنطن لم تعد ولايات متحدة كما كانت في السابق، بل إن سمة التفكك بينها تأخذ طريقها نحو الديمومة، ومن ناحية أخرى فإن صراع الحزبين على الحكم والمصالح المتباينة للشركات الكبرى التي تقف خلف الحزبين قد يسخن وبشكل حاد في الولايات المتأرجحة، لأن سيطرة طرف على أي منها في هذه الانتخابات وتشريع قوانين جديدة فيها ضد الطرف الآخر ونشر ثقافة مناهضة له تجر الولاية بعيداً أكثر عن الطرف الآخر، الأمر الذي لا يقبله الطرف الخاسر، فيمكن من هذه الولايات المتأرجحة أن تنطلق شرارات العنف، والتي تقود البلاد لمزيد من العنف، فترتبك السياسة الخارجية للدولة، بل إنها مرتبكة منذ اليوم، وقد كان اصطفاف السعودية مع "جماعة ترامب" بخصوص تخفيض النفط مؤشراً خطيراً على هذا التوجه. وهذا الانقسام العميق هو أشهر ما كشفته هذه الانتخابات، فالطرفان تقريباً متساويان في القوة، ولا تؤثر في قوتهما الظروف المستجدة مثل ارتفاع الأسعار ما رسخ وبقوة النظرة الحزبية العصبية، وهذا أمر خطير له ما بعده. وقد ظهرت العصبية بشكل واضح في الانتخابات، فكان بعض المرشحين من "جماعة ترامب" حتى النساء يقمن بالحملة الانتخابية والبنادق على أكتافهن. ولعل الأيام القادمة تكشف عن مزيد من التباعد وشرعنة ذلك التباعد بين الولايات وهجرة متزايدة لغير البيض من المناطق التي يسيطر عليها الحزب الجمهوري ويروج فيها لنظرية تفوق العرق الأبيض.

7- وبناء على واقع ما جرى في الانتخابات، فيمكن إلقاء بعض الأضواء على ما يتبع نتيجة انتخابات الكونغرس النصفية كما يلي:

أ- فيما تبدو أمريكا خالية من العقلاء الذين يمكنهم ردم الهوة بين الطرفين المتصارعين على الحكم في واشنطن، وفيما يبدي الأمريكان مزيداً من العصبية في الولاء والاصطفافات السياسية، فإن إدارة الرئيس بايدن في السنتين المقبلتين مقبلة على مزيد من العقبات التي يمكن أن تضعها الولايات الجمهورية "الحمراء"، وكذلك مجلس النواب، وهذا كله يقود الدولة لمزيد من الاهتمام والانشغال بأوضاعها الداخلية على حساب تركيزها على السياسة الخارجية. أما عن ترامب فقد كان يبدو قبل الانتخابات أن دونالد ترامب قد فرض سيطرته على الحزب الجمهوري بالكامل، لكن بعد إعلان نتيجة الانتخابات فقد ظهر أن بعض المرشحين الذين دعمهم ترامب قد سقطوا، لكن بعضهم قد نجح، وقد يوجد ذلك صعوبة لترامب في الانتخابات حيث ترشح لرئاسة ثانية في أمريكا باسم الحزب الجمهوري...

ب- ولأن الشركات الأمريكية الضخمة التي تقف وراء الحزب الجمهوري ذات نفوذ دولي معتبر، الأمر الذي كشفه قرار السعودية بتخفيض إنتاج النفط، فإن أعراض انقسام النفوذ الدولي لأمريكا عرضة للزيادة، الأمر الذي يضعف أمريكا دولياً، وهذا أمر لا يمكن الاستهانة به، فقد ظهر مبكراً حين كانت اتصالات وزير الخارجية الأسبق جون كيري، وهو ديمقراطي، تضعف سياسات الضغوط القصوى لإدارة ترامب مع إيران، ورد عليها الجمهوريون إبان إدارة بايدن الديمقراطية بتحريض السعودية لخفض إنتاج النفط، الأمر الذي أضعف ضغوط إدارة بايدن على روسيا... وهذا يجعل النفوذ الدولي لأمريكا نفوذين، ويقسم بعض مصالحها الدولية إلى مصالح للجمهوريين ومصالح للديمقراطيين فيما تبقى دائرة من المصالح الاستراتيجية مشتركة مثل مكافحة روسيا والصين، ولكن يمكن الاختلاف بينهما في الكيفيات والسياسات الفرعية لتحقيق ذلك.

ج- لا تزال إدارة بايدن تمتلك سنتين كاملتين للضغط على روسيا بخصوص أوكرانيا، وحتى لو فتحت أمريكا باب المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا فإن أمريكا ستستمر في الضغط على روسيا لتتخلى عن كافة مكاسبها الأوكرانية في المدى القريب، وتبقى تحت طائلة العقوبات الهائلة التي فرضت عليها حتى تحقق أمريكا مكاسب أخرى خارج الساحة الأوكرانية مثل ضمان أن سلاح روسيا النووي لا يشكل تهديداً لأمريكا، ويبدو أن هذه هي السياسة في عهد بايدن وبدون تحقيق بايدن هذه المكاسب فإن روسيا ستبقى في عزلتها عن العالم الغربي وتوابعه ويبقى اقتصادها يحبو لا يقدر على الوقوف.

د- نجحت إدارة بايدن عن طريق تخويف الصين من دعم روسيا في إبعاد الصين عملياً عن روسيا، بغض النظر عن التصريحات الصينية والروسية الفارغة من محتواها عن قوة علاقتهما، تلك التصريحات التي لا تغير من حقيقة الأمر شيئاً، وعملية الإبعاد هذه لم تكتمل بعد رغم أن روسيا تشعر وبقوة بأن الصين قد خذلتها وتركتها وحدها في مواجهة أمريكا ومواجهة دول الناتو التي تقدم دعماً عسكرياً كبيراً لأوكرانيا وتفرض على روسيا عقوبات اقتصادية كبيرة ولا تتقدم الصين بأي شيء فيه صفة النجدة لحليف وصف تحالفهما قبل اندلاع الحرب في اوكرانيا بأنه "لا حدود له".

هـ- كانت دول أوروبا الغربية تخشى أي شكل من عودة "ترامب" للسلطة سواء عن طريق عودته للرئاسة مرةً أخرى أم عن طريق سيطرة جماعته على الكونغرس لأنه كان يتبنى سياسة أن الناتو حلف قد عفا عليه الزمن، وكون قوة أوروبا العسكرية ضعيفة وغير قادرة على مجابهة سياسة روسيا التوسعية فإنه قد سرها عودة إدارة بايدن لأوروبا. كما أن شركات الغاز الأمريكية قد أحرجت إدارة بايدن حين قامت بتوفير الغاز الأمريكي بديلاً عن الغاز الروسي لأوروبا بأسعار فاقت الأربعة أضعاف لأسعارها الأمريكية، واحتجت الدول الأوروبية... وكذلك انتقد الرئيس بايدن بنفسه هذه الشركات التي قال إنها حققت أرباحاً فلكية خلال الحرب في أوكرانيا، وهدد بفرض ضرائب إضافية على أرباحها، وطبعاً كان بايدن ينتقد ارتفاع أسعار النفط محلياً لأن ارتفاع الأسعار في أوروبا لا يعنيه كثيراً، بل إن السياسة الأمريكية التي يقودها بايدن على محور ألمانيا تقود لتفكيك أوروبا، وهي شبيهة بسياسة الرئيس السابق ترامب على محور "بريكست بريطانيا" لضرب وحدة الأوروبيين.

8- وفي الخلاصة فقد تبين كيف أن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي لها أبعاد ودلالات داخلية وخارجية كثيرة، وكيف أن هيمنة أمريكا قد جعلت منها حدثاً عالمياً تهتم بها معظم دول العالم من باب أثرها في سياسة أمريكا الخارجية، وهذا لا يشبه أحداث بريطانيا الداخلية التي تطلب بريطانيا من عملائها الاهتمام الإعلامي بها من باب عطشها للعظمة.

هكذا هي الدول المسماة عظمى، وهكذا تبدو أهمية أحداثها الداخلية، وحينما يأذن الله بقيام دولة الإسلام وتأخذ الأمة الإسلامية طريقها للتأثير في العالم حاملةً لهم الهدى فإن أي حدث صغير أم كبير عند المسلمين سيصبح ذا قيمة سياسية وإعلامية عالية لدى دول الكفر، تبحثه وتحلل آثاره عليها، بل إن دول الكفر الكبرى تهتم اليوم بكل صغيرة وكبيرة في العالم الإسلامي، وتهتم بالحركات الإسلامية فيعلي الإعلام التابع لها بعض هذه الحركات التي يسمونها "معتدلة"، ويحاول إبعاد الأمة عن حركات أخرى مخلصة، وتحسب دول الكفر هذه ألف حساب لتحركات المسلمين المخلصة فتراقبها وتطلب من عملائها وأدها، هذا قبل قيام دولة الإسلام، دولة الخلافة، فكيف بالكفار إذا صارت الأمة الإسلامية وطاقاتها الجبارة تحت قيادة مخلصة واعية تعمل لإرضاء ربها وخدمة مصالح أمتها؟ فعندها تعود الأمة لمجدها وينكشف هزال تلك الدول المسماة كبرى، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون﴾.

في الخامس والعشرين من ربيع الآخر 1444هـ
19/11/2022م