تعليق صحفي

الفساد هو النتيجة الطبيعيّة لحمل المشروع الوطني- الاستثماري سفاحًا

 لم تصدر جريدة "الرسالة" صبيحة يوم الخميس (31/3/2016) بقطاع غزة، بعدما كان من المقرر أن يتضمن العدد تحقيقا حول فساد السفارات الفلسطينية، خشية أن يتسبب في تعكير أجواء المصالحة التي جرت الأسبوع الماضي في الدوحة. وكانت الصحيفة قد أعلنت أن التحقيق سيكشف بالوثائق والأدلة والمعلومات فسادًا إدرايًا وماليًا وأمنيًا يتحدث في بعض جوانبه عن "تجسس سفارات السلطة الفلسطينية على المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني وإيران" (شبكة القدس الإخبارية).

 

ليس ثمة من أهمية كبيرة للتعليق على دوافع المنع السياسي لصدور الصحيفة، ولا داعي لتكرار الحديث عن جعجعة الحوار الوطني بلا طحن، بعدما ملّ الناس حوارات المصالحة ومفاعيلها، وتحوّلت أخبارها إلى ما يشبه حلقات مسلسل مكسيكي مملّ لا ينتهي.

وهذا التعليق السياسي يركز على الفساد السلطوي - وهو فساد لا يقتصر على السفارات - بل يضرب جذوره في كل مؤسسات السلطة الفلسطينية التي تمخضت عن حمل المشروع الوطني-الاستثماري سِفاحاً نتيجة علاقة محرمة ما بين "المناضلين القدامى"، ومن ناضلوا ضدهم!

بداية لا بد من التساؤل عن الفرق بين تجسس سفارات السلطة الفلسطينية على المقاومين في الخارج وتجسس أجهزتها الأمنية على المقاومين في الداخل، وذلك تحت عنوان التنسيق الأمني المقدس، الذي يمثل أبشع تجربة سياسية في التاريخ حوّلت "المناضلين القدامى" إلى حرس حدود عند من "ناضلوا!" ضده. ولا بد من التساؤل عن مغزى تحويل بعض ضباط الأجهزة الأمنية ممن تربوا على "إرشادات!" الجنرال الأمريكي دايتون وقيمه إلى سفراء وملحقين في السفارات، فمن زرع عقيدة التنسيق الأمني في ضباطه لا يحصد غير العملاء في سفاراته.

وليس ثمة من شك في أن تدهور (المشروع الوطني) وتحوّل المنخرطين فيه عن قيم النضال والتضحية إلى ممارسات الاسترزاق بالسياسة قد عبّد الطريق أمام الفساد، وأسس لسيطرة العقلية الرأسمالية النفعية على عقليات "القادة"، فانتفى الوازع الداخلي وغاب التأثير الفعلي للقيم الإسلامية (والنضالية) في السلوك. وصار هنالك تتابع في تفريخ مزيد من الفاسدين في المجالات الإدارية والمالية ممن يسيرون على خطا من سبقوهم في الفساد السياسي والعمالة السياسية.

لذلك فإن مسؤولية هذا الفساد تقع على القيادات السياسية الرسمية التي رسمت مسار أوسلو ونفّذته، وإن السلطة الفلسطينية التي تركّز على تحقيق المتطلبات الأمنية للحفاظ على وجودها، لا يمكن أن تشغلها ملفات الفساد إلا بقدر ما تُلزمها الجهات المانحة حتى يستمر سيل المال السياسي القذر، وبقدر الحاجة لستر عورات المسؤولين أمام عيون المراقبين الدوليين.

ولا يمكن فصل فساد المؤسسات عن فساد السياسات، والتي هي إفرازات لفساد القيم والمبادئ، وخصوصا بعدما تحولت قضية فلسطين لدى السلطة وأزلامها إلى مشروع استثماري لاجتذاب أموال المانحين. بل إن هذا الفساد يمثل أداة لكبراء السلطة وللأعداء المحتلين لتوريط الأشخاص من أجل السير في المشاريع السياسية، لأن السياسة الفاسدة تحتاج إلى شخصيات فاسدة لتنفيذها.

ثم إن مبدأ الاعتماد على التمويل الغربي لتنفيذ مشروعات التنمية والتطوير قد شكّل تربة خصبة لإنبات طبقة تسترزق من وراء مشروعات المانحين، ومن ثم أدى سيلان ذلك التمويل الموجه سياسيا إلى تراكم خبرات الفاسدين في صرف الأموال بما يحقق الأهداف الشخصية، ومن ثم إلى تغلغل قيم النفعية الشخصية، وإن من يديرون مؤسسات السلطة قد تروضوا في اللهث خلف تلك المشروعات الغربية دون رقابة ذاتية.

وإن غياب السلطان والمحاسبة يمثّل بيئة خصبة لترعرع الفساد، والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولقد غاب السلطان والقرآن عن المؤسسات الفلسطينية، فترعرع الفساد. ولا شك أن المحاسبة والرقابة تحتاج إلى نظام تقوَّم بحسبه، وسلطان تحتكم إليه، والنظام والسلطان مفسدتان تحت الاحتلال، فمن أين يكون الإصلاح تحت الاحتلال؟ بل إن وظيفة الاحتلال هي الفساد لخلق بيئة مناسبة لتغلغله بين أهل فلسطين، واختراقهم بالأشخاص والسياسات، من أجل ديمومته وتحقيق أمنه عبر طبقة الفاسدين والجواسيس.

لذلك آن الأوان لكل من ينتفخ سياسيا بدعوى المشروع الوطني أن يواجه حقيقة الاسترزاق في هذا المشروع الباطل، وأن يباشر توبة سياسية عن جرائم المشروع الاستثماري، وأن يعود إلى صف الأمة وثقافتها.