التاريخ الهجري     22 من صـفر 1433                                                      رقم الإصدار:  ح.ت.ل 33/5 

     التاريخ الميلادي     2012/01/16م

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾

 

نصّ المؤتمر الصحافي الذي ألقاه أحمد القصص رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير- ولاية لبنان، بمناسبة انعقاد مؤتمر الأسكوا في بيروت الذي افتتحه الأمين العامّ للأمم المتّحدة تحت عنوان "الإصلاح والانتقال إلى الديمقراطية"

حضرة الأمين العام للأمم المتّحدة وسائر المؤتمرين في مؤتمر فينيسيا:

كفاكم وصايةً على رقاب الناس، الزمان ليس زمانكم بعد اليوم، بل هو زمان أمّة بدأت بالتحرّر من نفوذ الغرب لتستعيد سلطانها وتعيد سيادة الشرع فيها

أتحفتنا أمس هيئة الأمم المتّحدة بشخص أمينها العامّ "بان كي مون" بافتتاح مؤتمر مخصّص للانتفاضة التي اتّسم بها العام الماضي في هذه المنطقة من العالم الإسلامي وما زالت مستمرّة مع دخول العام الحالي، لتطيح بعروش، ولتفتتح مرحلة ستؤول بإذن الله تعالى إلى تغيير وجه المنطقة تغييرًا شاملاً. وجاء مبعوث الدول الغربية "بان كي مون" ليقول بلسان الحال: لا تحسبوا يا أهل المنطقة أنّكم بثورتكم هذه ستفلتون من عقال الهيمنة الغربية بكافّة أشكالها الحضارية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، بل سنبقى أوصياء عليكم وعلى حركتكم الاحتجاجية، ليكون التحوّل تحوّلاً من عهد العلمانيين الطغاة إلى عهد العلمانيين الديمقراطيين، دونما تغيّر في هويّة الدولة والدساتير المستمدّة من الحضارة الغربية، ولا في السياسات الخارجية، ولا في السياسات الاقتصادية، ولا في المناهج التعليمية، ولا في المعاهدات الخيانية التي ارتكبها حكّامكم الجبابرة -وعلى رأسها الاتفاقات مع كيان يهود- وسنبقى نحن نعلّمكم كيف تعيشون وكيف تمارسون السياسة والحكم والاقتصاد والإعلام والأمن والتعليم... وبذلك فإنّ الأستاذ "بان" جاء ليتمّم محاولات استيعاب الثورة التي بدأت بها أميركا وأوروبا منذ انطلاقها في تونس، من أجل إجهاضها وضبط اتّجاهها وقطف ثمارها قبل أن تقطف الأمّة هذه الثمار. إذ لطالما اتّخذت دول الغرب -وعلى رأسها الولايات المتّحدة- من المنظّمة الدولية أداة لتحقيق أهدافها ورعاية مصالحها في العالم، كيف لا وهي التي أنشأت هذه المنظّمة بعد الحرب العالمية الثانية لتكريس هيمنتها على العالم! ومهما نسيت أمّتنا فلن تنسى قرارات هيئة الأمم المتّحدة العدوانية ضدّها، منذ أوائل تأسيسها وإلى يومنا هذا، من قرار تقسيم فلسطين بين أهلها وبين شذّاذ الآفاق من اليهود، وصولاً إلى قرار غزو أفغانستان وتشريع الاحتلال الأميركي للعراق وما نتج عنهما من مجازر ومآسٍ بحقّ أمّتنا، مرورًا بالتغاضي عن الاعتداءات المتكرّرة من كيان يهود بحقّ أهل فلسطين والأقطار المجاورة، وسياسات الصندوق الدولي والبنك الدولي التي أدّت إلى إفقار أهل المنطقة ورهن قرارهم الاقتصادي ونهت ثرواتهم... فلسنا من البسطاء الذين تنطلي عليهم أكذوبة الحيادية المزعومة للمنظّمة الدولية، بل نقولها بوضوح: إنّ منظّمتك التي تمثّلها يا حضرة الأمين العامّ هي من ألدّ خصوم الأمّة الإسلامية.

لقد اعترفت يا أستاذ "بان" بالخطيئة التي لطالما ارتكبتها منظّمتك الدولية بحقّ شعوب المنطقة، إذ صرّحتَ أنّها كانت "شديدة القرب من الحكومات وغير قريبة بما يكفي من المجتمع"، وأعلنتَ التوبة بقولك: "وبينما أبدأ ولايتي الثانية كأمين عامّ، أريد أن أؤكّد أنّ الأمم المتّحدة ستكون إلى جانبكم، فنحن ملتزمون التزامًا راسخًا بمساعدة البلدان العربية خلال هذه المرحلة الانتقالية"، وقلتَ إنّه "يجب أن يكون الإصلاح حقيقيًّا، ففي الغالب تكون التغييرات شكلية، أي من دون نقل السلطة الحقيقية إلى الشعوب"، فهل توبتك هذه صادقة أم هي مجرّد مخادعة جديدة ودجل متكرر؟! الجواب يؤخذ من كلامك الذي أدنتَ به نفسك من جديد، ومن فمِك أدينك، إذ صرّحت أنّ وسيطك كان في قلب المفاوضات في اليمن، وهي المفاوضات التي جاءت لتجهض ثورة أهل اليمن وأسفرت عن تكريس حكم عصابة الطاغية الجزّار علي صالح وتحصينه من المحاسبة والمحاكمة، بل ودعوتَ في خطابك طاغية اليمن إلى "أن يلتزم بشروط الاتفاق"! فناقضتَ نفسك وبرهنت من فورك أنّ منظّمتك مستمرّة الدجل.

لم ينس الأستاذ "بان" أن يلقي علينا مرّة أخرى دروسًا في حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتّحدة. فنقول له: كفاك إلقاء للدروس علينا في حقوق الإنسان والمرأة، فليست شرعتكم في نظرنا مصدرًا لتحديد حقوق الإنسان، وعندنا ما يغنينا عن شرعتكم البالية، والتفت وراءك قليلاً أيها الأمين العامّ لترى ما ارتكبته الدول رائدة هذا الإعلان وحضارتها من انتهاكات بحقّ البشرية، وأقرب مشهد إليك هو مشهد الجنود الأميركيين وهم يدنّسون جثامين قتلانا الأفغان بأبشع الصور. وانظر كيف أهانت شرعتك المرأة حين ساوت بين الجنسين في الحقوق والواجبات فحرمتها بذلك حقّ النفقة عليها وعلى أولادها، وألزمتها النزول إلى العمل، وجعلتها أداة رخيصة لتسويق أحقر السلع! وسيأتي يوم يا حضرة الأمين العامّ تتعلّمون فيه حقوق الإنسان من شرعنا العظيم.

كما لم ينس الأستاذ "بان" أن يحنو على الشباب العاطل عن العمل في بلادنا، إذ رأى أنّه "يجب أن تؤمِّن البلدانُ العربية خمسين مليون فرصة عمل خلال العقد المقبل لاستيعاب الشباب الذين سيدخلون معترك العمل". فهل أتاك يا أستاذ "بان" نبأ ملايين العاطلين عن العمل، الذين خرجت مظاهراتهم منذ شهرين في أكثر من ألف مدينة رأسمالية، قبل أن تأتي لتلقي علينا دروسًا في الاقتصاد؟! وهلاّ اعترفت أنّ النظام الرأسمالي الذي كرَّسَته منظّمتُك في العالم -بما في ذلك بلادنا- هو القابع وراء هذا البؤس الذي يعانيه مئات الملايين من البشر! وهلاّ تذكّرت أنّ فاقد الشيء لا يعطيه!

أيّها المؤتمرون بنا في فينيسيا:

إنّ ثورة الأمّة ليست ثورة على أشخاص الطغاة وحسب. بل هي ثورة على كلّ ما يمثّلونه من عدوان على هوية الأمّة وحضارتها وثقافتها وشريعتها وسائر مقوّماتها، ثورة على الاستتباع للغرب وحضارته وثقافته وقراره السياسي. وبالتالي فإنّ البديل الذي تترقّبه الأمّة ليس النموذج الغربي المتمثّل بما يسمّى بالدولة المدنية الديمقراطية التي أفرزتها الحضارة الغربية: حضارة فصل الدين عن الحياة، وإنّما البديل الذي تترقّبه الأمّة وتسعى إليه هو الدولة التي تجمع شمل الأمّة بعد طول تشرذم، وتكون السيادة فيها لشرع الله لا لشرعة الأمم المتّحدة ولا للدساتير الوضعية، ويكون السلطان فيها للأمّة التي تختار حاكمها دون وصاية عليها من مجلس الأمن ولا من البيت الأبيض ولا من باريس ولا من لندن ولا من عصابات حاكمة ثبّتها الغرب في بلادنا ودعمها عشرات السنين في مواجهة شعوبها.

وأمّا من يشاركون في المؤتمر ممّن يعلنون تمثيل الثورات والثوّار، فنقول لهم:

إنّ الركون إلى القوى الدولية واسترضاءها والتقوّي بها في مواجهة الحكّام الطغاة هو كالمستجير من الرمضاء بالنار، قال تعالى:﴿ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ ، وهو خيانة لله ولرسوله والمؤمنين، والله تعالى يقول:﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ .

وهو انتحار سياسي، إذ النصر من الله لا من أعدائه، قال تعالى: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ . وتذكّروا أنّ القرار السياسي الغربي هو القابع وراء تكريس حالة الانحطاط والتردّي التي عاشتها الأمّة منذ عشرات السنين. ولو أنّ القوى الدولية خلّت ما بين الأمّة وحكّامها لخلعتهم منذ زمن طويل، ولكنّ هذه القوى دعمت هؤلاء الطغاة حتّى يبقوا مدينين لها بعروشهم، فيقدّموا لها فروض الطاعة والإجلال، ويقدّموا لها مقدّرات الأمّة وثرواتها وأعراضها قرابين لقاء تثبيت عروشهم.

إنّ الثمرة الطيّبة لحركة الأمّة المباركة هذه لن تكون إلا بقطع دابر كلّ ما أدخله الغرب على الأمّة من دواخل غريبة عن هويتها وحضارتها وثقافتها، ومن أفكار ودساتير وتشريعات ومناهج تربوية، ومن مؤسّسات دولية ومراكز نفوذ في المجتمع، ومن نفوذ سياسي واقتصادي وإعلامي وأمني وعسكري، ومن عملاء في أجهزة الحكم والإدارة والأمن والجيش وما سواها. فما دامت الجراثيم الخبيثة متغلغلة في الجسد فإنّه سيبقى مهدّدًا في عافيته ووجوده. ولن يتأتّى لهذه الأمّة التخلص من هذه البلايا إلاّ إن حملت مشروعها الحضاري والسياسي كاملاً، متمثّلاً في مشروع الخلافة الراشدة على منهاج النبوّة. وعندها يُقطع دابر وصاية الغرب ومنظمته الدولية علينا، ونحمل نحن حضارتنا رسالة خيرٍ إلى العالم.

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾

المكتب الإعلامي لحزب التحرير - ولاية لبنان

للمزيد من التفاصيل