الـتـفـكـيــر الطبعة الأولى سنة 1393هـ - 1973م (نسخة محدثة بتاريخ 2021/11/08م) |
اقرأ في هذا الكتاب | ||
البداية إن الإنسان هو أفضل المخلوقات على الإطلاق، حتى لقد قيل - وهو قول حق - إنه أفضل من الملائكة. والإنسان فضله إنما هو في عقله، فعقل الإنسان هو الذي رفع شأن هذا الإنسان وجعله أفضل المخلوقات، ولذلك لا بد من معرفة هذا العقل، وبالتالي لا بد من معرفة التفكير، ولا بد من معرفة طريقة التفكير، لأن هذا الواقع المسمى بالتفكير هو الذي يجعل للعقل قيمته، وهو الذي يعطي هذه الثمرات اليانعة، التي بها تصلح الحياة، ويصلح الإنسان، بل يصلح الكون كله بما فيه من كل شيء، حتى الجماد والنبات والحيوان. إن العلوم والفنون، والأدب والفلسفة، والفقه واللغة، والمعرفة من حيث هي معرفة، إنما هي نتاج العقل وبالتالي نتاج التفكير. لذلك كان لزاما للإنسان وللحياة وللكون كله أن يُدْرَكَ واقع العقل ما هو، وأن يدرك بالتالي واقع التفكير، وطريقة التفكير. لقد قطعت الإنسانية هذه المسافة الطويلة من الحياة، ومن عمر الزمن وهي تعنى أكثر ما تعنى بنتاج العقل، وبنتاج التفكير دون أن تعني نفسها بواقع العقل وبواقع التفكير. صحيح أنه قد وجد من يحاول إدراك واقع العقل من علماء المسلمين، ومن علماء غير مسلمين، في القديم والحديث، ولكنهم أخفقوا في إدراك هذا الواقع. ووجد من يحاول رسم طريقة للتفكير، ولكنهم وقد نجحوا في نواحٍ من ثمرات هذه الطريقة بالمنجزات العلمية، ولكنهم ضُلّلوا عن معرفة التفكير من حيث هو تفكير، وضللوا غيرهم من المقلدين الذين بهرهم هذا النجاح العلمي. ومن قبل، منذ أيام اليونان ومَن بعدهم، اندفعوا في الوصول إلى التفكير فوصلوا إلى ما يسمى بالمنطق، ونجحوا في الوصول إلى بعض الأفكار، ولكنهم أفسدوا المعرفة من حيث هي معرفة، فكان المنطق وبالاً على المعرفة بدل أن يكون - كما أريد له - سبيلاً للوصول إليها ومقياسا لصحتها. وأيضاً فإن هؤلاء الذين اندفعوا في الوصول إلى التفكير، قد وصلوا أيضاً إلى ما يسمى بالفلسفة، أو ما يعرف بحب الحكمة، والتعمق فيما وراء الوجود، أي ما وراء المادة، فأوجدوا بحثاً لذيذ المعرفة لذيذ النتائج، ولكنه كان بعيداً عن الواقع، بعيداً عن الصدق، فكان أن أبعد عن الحقيقة وبعد عن الواقع، فضلل الكثيرين، وانحرف بالتفكير عن جادة الصواب. الخاتمة فهذه لمحة موجزة عن موضوع التفكير من حيث هو تفكير، نقدمها للأمة الإسلامية لعل دراستها توجد التفكير في هذه الأمة حتى ينقلها هذا التفكير إلى أن تعود خير أمة أخرجت للناس. لا سيما بعد أن مضى على هذه الأمة عشرة قرون وهي بعيدة عن التفكير، وإن حاولت هذا التفكير عدة مرات. إن الأمة الإسلامية قد بليت في القرن الرابع الهجري بعلماء عملوا على تعطيل التفكير في الأمة ونادوا بخطر التفكير على الأمة، وضرره على الإسلام والمسلمين. وذلك حين قام رهط من علماء مثل العالم المشهور باسم القفَّال ونادوا بإقفال باب الاجتهاد، وعملوا على منع الاجتهاد، وأقنعوا الناس بخطر الاجتهاد، فصدق المسلمون هذه الدعوة وعملوا بها، وتحرج العلماء من الاجتهاد، وخاف المفكرون من الاجتهاد، وكره الناس أن يكون هناك مجتهدون. وقد تبنى الرأي العام في جميع أقطار الإسلام هذا الرأي، وبذلك تعطل التفكير، ووقف الناس عند حد التقليد، وألغوا عقولهم ولم يعودوا يجرؤون على الاجتهاد. فكان هذا المنع للاجتهاد والتفكير أعلاه إنما يكون في الإسلام، فأدى ذلك إلى وقف التفكير لدى الناس واستمرؤا هذا التعطيل للتفكير، والإنسان بطبعه حيوان كسول، لذلك وقفت الأمة عن التفكير حتى هذا القرن، القرن الرابع عشر الهجري. فسلخت عشرة قرون وهي معطلة التفكير. ولذلك ليس من السهل على أمة سلخت عشرة قرون من عمرها وهي معطلة التفكير، أن يتحرك فيها التفكير وأن تفهم عن وعي قيمة التفكير، وقيمة المفكرين. ولذلك فإن ملايين الكتب مثل هذا الكتاب لا تضمن أن تحرك الأمة للتفكير وأن تسوقها لأن تجعل التفكير سجية من سجاياها. ولكن الأحداث الموجعة التي تسحق الأمة سحقاً وتمعسها معساً، فإنها صارت تبعث الأمل في أن يجد التفكير سبيله للأمة. لا سيما بعد أن وجد فيها جماعات تفكر، وجماعات تحاول التفكير، بعد أن تحقق فيها آلاف تجسد لديهم حب التفكير، وصاروا مفكرين لا يستمرئون غير التفكير، حتى غدوا تفكيراً يحيا ويتحرك وينمو. لذلك فإن ضخامة الأحداث وفظاعتها، وكون التفكير تجسد في أشخاص حتى غدا تفكيراً يمشي في الأسواق بين الناس، فإن هذين الأمرين: يوجدان أملاً مشرقاً، في أن ينتقل التفكير من الأفراد إلى الجماعات، وأن يصبح تفكيراً جماعياً لا تفكيراً فردياً، وأن يكون تفكير الأمة لا تفكير الأفراد، فتصبح الأمة الإسلامية أمة مفكرة، وتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس.
|
||