حزب التحرير يحمل مشروع الخلافة الثانية

ملتزمًا مفهوم الولاء والبراء على بصيرة

د.ماهر الجعبري

 عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

  في بيت المقدس تبلورت فكرتها، وفي أكنافه تكونت ثم نمت بلورة الحزب السياسي الذي حملها في الأمة وخاض لأجلها كفاحًا سياسيًا مريرًا ضد طواغيت الأرض، وصراعًا فكريًا طويلًا ضد خزعبلات الرأسمالية وضلالات الاشتراكية… هي الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي ارتبطت فكرتها بحزب التحرير ارتباطًا عضويًا: فإذا ذُكرت الخلافة ذُكر الحزب، وإذا ذُكر الحزب ذُكرت الخلافة؛ لأن حزب التحرير بكل بساطة هو دعوة فكرية سياسية لاستعادة الخلافة في مشروع تغيير جذري في الأمة على أساس عقيدتها، والتزامًا بشريعتها.

ولأن فكرة الخلافة هي فكرة سياسية بامتياز تلتقي فيها غايات الأمة الحيوية التي تجمع التحرير والوحدة وتحكيم الشريعة، كانت قضيتها هي القضية الجامعة التي تتفرع عنها كافة قضايا الأمة الإسلامية الفرعية: تحرير كل البلاد المحتلة، وتوحيدها تحت حاكم واحد يطبّق الإسلام. وهي الفكرة التي تُترجم العقيدةَ الإسلامية في كيان سياسي يحافظ عليها وعلى بقاء نقائها واستمرار بريقها، فكانت قضيتها قضية مصيرية تقتضي من المسلمين الموت لأجلها؛ من أجل الحياة تحت ظلها. ولذلك أيضًا كانت تاج الفروض التي يتقرب بها المسلم لربه؛ لأنها تمكّنه من القيام ببقية الفروض على الوجه الشرعي.

ومن ثم فإن الحزب الذي يحملها هو الحزب الذي يحمل همّ الأمة ويسعى سعيها لأجل خلاصها مما تعانيه من استعمار عسكري وسياسي واقتصادي، ومن تخريب ثقافي وحضاري واجتماعي، ومن تدهور في القيم والمثل العليا، ومن تأخُّر في التعليم وفي البحث العلمي، ومن نقصان في جودة الحياة، وفساد في البيئة، وفي الحياة المدنية وفي الإدارة… بل في كل جوانب الحياة.

خراب في كل شيء نابع من أصل واحد: وهو انفصام الأمة عن مبدئها بفرض العلمانية في حياتها بقوة المستبدين وتآمر المستعمرين. وهو انفصام حضاري أدّى إلى شقاء بشري عام، ولا يمكن أن تُنقَذ الأمة ،ومِن ورائِها البشرية، مما تعانيه فيه إلا بتحكيم الشريعة التي تحفظ الإنسان ونسله وعقله وعرضه ودينه، وتحقق له سعادة الدنيا في رضا الله، ثم النجاة في الآخرة؛ فيكون الفوز في الدارين.

لذلك كله، كان الحديث عن الخلافة حديثًا عن سبيل النجاة وعن طريق السعادة في الدنيا، وعن نهج الفوز في الآخرة، وكان الحديث عن حزب التحرير هو حديثًا عن مشروعها، وعن الكفاح ضد الاستعمار وعملائه وأبواقه، وحديثًا عن ربط الأمة بعقيدتها الإسلامية التي هي أساس وجودها، وعن فك الأمة من أي ارتباط بالقوى التي تعاديها، وتحريرها من أي فكرة تسهم في ترسيخ هيمنة المستعمرين، تحقيقًا لما جاء في قول الله تعالى: (تَرَىٰ كَثِيرٗا مِّنۡهُمۡ يَتَوَلَّوۡنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ لَبِئۡسَ مَا قَدَّمَتۡ لَهُمۡ

أَنفُسُهُمۡ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَفِي ٱلۡعَذَابِ هُمۡ خَٰلِدُونَ ٨٠ وَلَوۡ كَانُواْ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلنَّبِيِّ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مَا ٱتَّخَذُوهُمۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨١).

مفهوم الولاء والبراء على بصيرة

لذلك فإن الحديث عن استعادة الخلافة هو الحديث الصحيح عن مفهوم الولاء والبراء الذي يعيد للأمة بريقها، وينقذها من كافة أنواع الشرك الأكبر والأصغر، ويجعل حياتها وحياة أفرادها في جنة الأرض، قبل جنة السماء، استبشارًا بقول الله تعالى: (وَأَلَّوِ ٱسۡتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسۡقَيۡنَٰهُم مَّآءً غَدَقٗا ١٦).

ومن هنا، كان لزامًا على من يُبرز مفهوم الولاء والبراء في الأمة، أن يدرك مغزاه وأثره فيها، وأنه يقتضي تحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله: وذلك التحرير يعني التحرر من العبودية للحكام المستبدين الذي يقهرون الأمة بتحقيق الأجندات الاستعمارية، ويقمعون الأمة بفرض العلمانية الكافرة وإجبار الناس على الرضوخ لمعالجاتها السياسية والاقتصادية الباطلة، ويعني التحرر من القوى الاستعمارية ومن برامجها وسياساتها، ومن المشاركة في مؤتمراتها وفي محافلها الدولية، ورفض أطروحاتها السياسية والاقتصادية والثقافية، حتى لو لمعت كذبًا في أعين المضللين (بفتح اللام الأولى أو كسرها) اقتداء بنهج الأنبياء والرسل، كما جاء في قول الله تعالى: (قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ).

ومفهوم الولاء والبراء في الوقت نفسه هو تعبيد الإنسان لله وحده، وأنّى لمسلم أن يكون عبدًا لله وهو يؤلّه عباده أو عقولهم، ويُقدّم تشريعاتهم على شريعة الرحمن! إنه من ثوابت الإسلام أن تحكيم الشريعة ليس محل مفاوضة عند المسلم؛ وذلك امتثالًا لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا ٣٦).

 نعم، إن العبودية لله تقتضي تحكيم شريعته في الحكم وفي الاقتصاد وفي الحياة الاجتماعية، وفي كافة نشاطات الإنسان، ولا يتم ذلك إلا بتطبيق كافة الأنظمة الإسلامية المستمدة من الوحي. وعندما نقول الوحي، نعني الوحيَ وحدَه متمثلًا في الكتاب والسنة وما أرشدا إليه (من أجماع الصحابة والقياس الشرعي)، أما الدوران مع المصلحة العقلية فهو خروج عن عبودية الله إلى عبودية الأهواء. وأمّا عقلية التوفيق بين الوحي وبين مخرجات الفكر الغربي فهي التفاف على الشريعة، ومخالفة لنقاء الوحي وصفاء تشريعاته.

 لذلك لا يمكن أن يلتقي التمسك بالوحي مع الأخذ بإفرازات العقول البشرية من التشريعات والأنظمة: فلا يمكن أن تتحقق العبودية لله وحده بينما يلهث المسلم خلف «ديمقراطية» أبدعتها عقول اليونانيين القدامى، والتي كان مترجمو الخلافة العباسية على اطّلاع عليها -في الغالب- وهم الذين ترجموا كثيرًا من فلسفات القدامى، فما انبهروا بها كما انبهر علماء العصر المضبوعين بالغرب؛ لأن حضارة الإسلام كانت هي الغالبة، ولم يحصل هذا التأثر التشريعي «الديمقراطي» بإفرازات العقول الغربية إلا بعدما حصلت غلبة عسكرية، ثم فكرية، للمستعمرين على المسلمين، فقلدهم بعض «المثقفين» من باب «تقليد المغلوب للغالب»، ونسوا تحت وقع ذلك التقليد الانهزامي وجوب البراءة من المستعمرين ومن ثقافاتهم.

ولا يمكن أن يلتقي التمسك بالوحي مع اللهث خلف أنظمة اقتصادية ابتدعتها عقول الغربيين المعاصرين، والتي تناقض أسس النظام الاقتصادي في الإسلام، وتصطدم مع ثوابته القطعية، وعلى رأسها حرمة الربا القطعية، ومنها أيضًا وجود ملكيات عامة للأمة لا يصح خصخصتها (واحتكارها) كما تفعل الرأسمالية.

ولا يمكن أن تكون العبودية لله وحده لمن يحاول التوفيق بين بدع العقول البشرية ووحي رب العقول؛ لأن مزج الإسلام بغيره لا ينتج إلا كفرًا، مهما كانت نسبة المزج قليلة أو كبيرة، وذلك المزج مناقض لوجوب البراء من أعداء الله، ومما أفرزوه من مخالفات فكرية تتحدى أُلوهية الله بأنه وحده المشرّع للبشر.

لذلك كله، كيف يمكن لمفهوم الولاء والبراء أن يتجسّد في الأمة دون الخلافة؟! سؤال يجب أن يقضَّ مضاجع العلماء الذين سخّروا ذلك المفهوم لخدمة الحكّام الموالين لأعداء الأمة، أو الذين استخدموه في تسعير الحروب الدموية في صراعات يُحركّها الاستعمار خدمة لأجنداته على أسس طائفية مقيتة، كما يجري في اليمن.

نعم، الخلافة هي تجسيد لمفهوم المفاصلة بين الحق والباطل، وهي الترجمة السياسية لمعنى أن «الإسلام والجاهلية خطان متوازيان لا يلتقيان ولا توجد جسور تربط بينهما» حسب معنى كان قد قدّمه الشهيد سيد قطب رحمه الله، ثم قدّم حياته ثمنًا لموقف المفاصلة ذاك، ملتزمًا مفهوم الولاء والبراء، كما دفع الكثيرون من حملة دعوة الخلافة حيواتهم لذات الغاية وعلى نفس الطريق.

الخلافة دولة للناس، ومفهوم الولاء والبراء فيها يعني التراحم لا الشقاء

إن التزام مفهوم الولاء والبراء في ظل الخلافة الراشدة هو رحمة للعباد يجلب الخير للبشرية، وليس سوطًا مسلطًا على رقاب الناس، كما يحاول البعض تصويره؛ لأن دولة الخلافة هي دولة للناس، قبل أن تكون خاصة بالمسلمين، يعيش فيها المسلمون وغير المسلمين يتمتعون بعدلها وخيراتها، وهي الدولة التي تحكّم الإسلام في حياة تابعيها مهما اختلفت أديانهم؛ بحيث يكون فيها لغير المسلم ما للمسلم من إنصاف، وعليه ما على المسلم من الانتصاف.

ومن ثم فلا مجال للطائفية وصراعاتها السياسية وقلاقلها في الخلافة الراشدة، ولا واقع فيها لمفهوم الأقليات؛ لأن الرعايا سواسية تحت عدل الإسلام كأسنان المشط، وبكل تأكيد لا مجال لـتأجيج الفتنة بين النصارى الذين يعيشون في دولة الخلافة (مثلًا) وبين المسلمين، بل إن التاريخ شاهد على أن دولة الخلافة حمتهم وحفظت حقوقهم، بينما أجج الاستعمار الفتنة بينهم وبين المسلمين عندما قضى على دولة الخلافة، أو ضمن مؤامراته عليها، واستغلّ بعض رجالاتهم وبعض رجالات المسلمين ممن ساروا في ركابه ليصطادوا في مائه العكر، ولينفّذوا أجنداته الخبيثة.

ومن هنا أيضًا، فإن من ادّعوا إقامة الخلافة في العراق، في لغو سياسي فاشل، قد أساؤوا بداية لهذا المفهوم الإنساني في مشروع الخلافة، من كونها دولة بشرية للناس عمومًا، وليست خاصة بالمسلمين وحدهم، فكانت ممارسات تهجير بعض الطوائف غير الإسلامية ممارسات خاطئة سياسيًا فوق كونها باطلة شرعيًا، وهي أيضًا تناقض مفهوم الولاء والبراء على حقيقته؛ لأن الولاء لله وتحكيم شريعته لا يكون إلا بتنفيذ أحكام أهل الذمة ممن يعيشون في أمان ضمن دولة الخلافة؛ وذلك بلا شك يوجب حمايتهم ورعايتهم والذود عنهم، لا ترويعهم أو استباحة دمائهم أو تهجيرهم تحت دعاوى الفهم المغلوط للبراء من الكفار، وقد وردت أدلة شرعية تنهى عن تلك الأفعال الإجرامية، منها ما ورد عن رسول الله صلى عليه وسلم: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا» رواه البخاري.

ثم إن استعادة ملكيات الأمة العامة من بترول ومعادن وثروات طبيعية، يعني حسب الأحكام الشرعية –في ظل الخلافة- أن توزع هذه الملكيات على رعايا الدولة من مسلمين وغير مسلمين، ولذلك فإن دولة الخلافة ستعيد للنصارى فيها كما للمسلمين حقوقهم في بترول الخليج وفي ثروات أفريقيا، بدل أن تظل تلك الثروات مغتصبة من قبل الغرب الاستعماري الذي يدعي أنه يدافع عن تلك «الأقليات» بينما يسخرها لغاياته الاستعمارية ولامتصاص خيرات بلادها؛ وذلك على النقيض من الممارسات التي ذكرها الإعلام من نهب أموال غير المسلمين تحت «الخلافة» المزعومة، فشتان بين الدفاع عن غير المسلمين في ظل الخلافة وبين دعوى الدفاع عنهم تحت ظل الاستعمار!

ولقد حدد مشروع دستور الخلافة –الذي أعده حزب التحرير- ذلك العدلَ الرباني مع غير المسلمين في ظل الإسلام بجلاء في عدد من المواد، منها المادة 5 والمادة 6، اللّتان نصّتا على ما يلي:

المادة 5:  جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية يتمتعون بالحقوق ويلتزمون بالواجبات الشرعية.

المادة 6:  لا يجوز للدولة أن يكون لديها أي تمييز بين أفراد الرعية في ناحية الحكم أو القضاء أو رعاية الشؤون أو ما شاكل ذلك، بل يجب أن تنظر للجميع نظرة واحدة بغض النظر عن العنصر أو الدين أو اللون أو غير ذلك.

وإضافة إلى أن دولة الخلافة رحمة للناس الذين يعيشون فيها، فإنها أيضًا رحمة للمدنيين في شتى بقاع الأرض، ولا يمكن أن تكون مصدر إرهاب لهم، ولذلك فإن التفجيرات العبثية التي تنال من الأبرياء والمدنيين هنا وهناك، تناقض مفهوم الولاء والبراء على بصيرة؛ لأن الإسلام لم يبح استهداف الأبرياء والمدنيين من غير المحاربين بالقتل. وإن ما يجري من جرائم تحت عنوان الخلافة هو ظلم لمشروع الخلافة قبل أن يكون ظلمًا لمن يُقتل تحت تلك الدعوى، وتحت الفكرة المغلوطة لتجسيد مفهوم الولاء والبراء.

الخلافة وحزب التحرير -مشروع وكيان- متميزان في كل شيء

إن مشروع الخلافة هو مشروع سياسي عظيم، يستعدّ لتغيير وجه الأرض في كافة مجالات الحياة، في السياسة، وفي أنظمة الحكم، وفي العلاقات الدولية، وفي السلم وفي الحرب، وفي إدارة الشؤون والحياة المدنية؛ إذ بالخلافة، يكون التميّز الفكري والارتقاء الحضاري في المفاهيم والقيم، فتعيد للإنسان كرامته التي كرّمه بها الله، كما قال تعالى: ( وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ )، وترفع منزلته بين الخلائق برفعة تلك القيم، من العزة والعفة والعطاء… وهي بذلك تتميز عن الرأسمالية وليبراليتها التي انحطت بالإنسان عبر دعوى «الحرية» وعبر تعظيم قيم «الفردية»، فجعلت الفرد يدور مع مصلحته الشخصية ومع أهوائه، وأباحت له حرية امتهان إنسانيته من خلال استباحة المثلية، وسفاح الحيوان، وإنجاب الأطفال خارج الأسرة، مما هدم قيمة الأسرة، وشتت الإنسان في غياهب الشهوات المنحرفة، وهدم المجتمع.

وبالخلافة يكون التميُّز السياسي من خلال توحيد البلاد تحت حاكم عادل يستمد تشريعاته من كتاب العدل، ولا يكون تبعًا لأهوائه، ولا تحت سطوة أهواء «المشرّعين» في المجالس التشريعية. وهي بذلك تتميز عن الرأسمالية وديمقراطيتها، التي جعلت أهواء البشر مصدر معالجاتهم لمشكلاتهم، ولأنظمة الحياة التي يسيرون بحسبها. ولا يغيب عن الناس كيف ينحاز المشرعون البشر للرغبات والمصالح الشخصية والفئوية عند وضع التشريعات. والخلافة توحّد الأمة في كيان سياسي واحد تتكامل فيه الطاقات البشرية والموارد والثروات، وتزول الصراعات «الإقليمية» والنزاعات الطائفية التي تُسعَّرُ خدمة للمستعمرين.

وبالخلافة يكون التميُّز في العلاقات الدولية وفي مفاهيم السلم والحرب، فلا تعلن الحرب إلا لفتح أبواب الخير ونشر الإسلام كدين رحمة للعالمين، وللذود عن بلاد العدل، ولحماية تحكيم الشريعة بين الناس إحقاقًا لحقوقهم. وهي بذلك تتميَّز عن الرأسمالية ووحشيتها التي تريق دماء الأبرياء لأجل زيادة ثروة الأثرياء، ومن أجل الاستحواذ على البترول والخامات الطبيعية، أو من أجل تحريك الطلب على المنتجات العسكرية لشركات السلاح العملاقة، ومن أجل تحريك الاقتصاد الرأسمالي، ومن أجل هيمنة الرأسمالية على العالم، كما تفعل أميركا في حروبها التي تُسعّرها في الأمة الإسلامية، بدءًا من أفعانستان، مرورًا بالعراق واليمن، وغيرها من بلاد المسلمين.

وبالخلافة يكون التميُّز في الاقتصاد وفي مفاهيم التنمية الاقتصادية، بداية عبر إعادة صياغة المشكلة أو القضية الاقتصادية على أنها مشكلة توزيع الثروة (بين الناس) قبل أن تكون مشكلة زيادتها وإنمائها (بينما تظل في الرأسمالية محصورة في أيدي الأثرياء) أي أن تشريعات دولة الخلافة تضع مسألة توزيع المال بين العباد على رأس أولوياتها، ليتسنى لكل فرد من رعاياها أن ينال نصيبه من الثروة وأن يتمتع به، وهي بذلك تتميز عن الرأسمالية وخصخصتها وتنميتها الفاشلة التي حصرت المشكلة الاقتصادية في تعظيم الثروة وزيادتها، بينما ظلت الأموال (دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ) تتكاثر منحصرة في أيدي قلة من أثرياء العالم كما تؤكد الإحصائيات المتعاقبة. ومن ثم خدعت الرأسماليةُ الناسَ بالحديث عن مستوى دخل الفرد، وهو دخل رقمي (إحصائي) لا يصل لجيوب الفقراء، بل يكون بتقسيم «الناتج الإجمالي القومي» على عدد السكان على الورق وضمن البرامج الحاسوبية، لا على الواقع، فأيّ نماء اقتصادي يدلل عليه ذلك «الرقم» الوهمي بينما لا يصل للأفراد!

وبالخلافة يتم إعادة صياغة الأنظمة الإدارية على أساس يتوافق مع متطلبات نهضة الأمة، وبينما تكون سياسة الدولة مركزية تتبع الخليفة، وهو الذي يحدّدها ويتابعها، تكون إدارة شؤون الناس لا مركزية، فتزول «البيروقراطية» وتختفي الإجراءات المعقدة التي تجعل حياة الناس عسيرة، ويتم القضاء على الفساد الإداري والمالي وعلى الترهل في مؤسسات الدولة التي أنهكت جسد الأمة، عبر الرقابة الذاتية أولًا، التي تجعل مقياس الحلال والحرام أساس الأفعال عند المسلم، ومن ثم تضع فوقه رقابة السلطان، الذي يزع الله به ما لا يزع بالقرآن، وتكون فوق كل ذلك محكمة المظالم التي تحاسب كل مسؤول مهما علا منصبه، ولو كان الخليفة نفسه.

وبالخلافة تتم إعادة صياغة مناهج التعليم على أساس بناء شخصية المسلم الحضارية، وتخريج أفواج من العلماء منتمين لأمّتهم، ويتم تفعيل البحث العلمي خدمة للناس لا خدمة للشركات العملاقة التي تستحوذ على مخرجاته وتحوّل الأفكار التي تخدم البشرية إلى دولارات لا تكون في متناول الفقراء، مثل ما يحصل في براءات الاختراعات للأدوية التي تحتكرها الشركات العالمية، وترفع سعرها –بما تحتويه من معرفة علمية- لا بما تتطلب من مواد خام وتكاليف إنتاج، ولا تراعي الدولة الرأسمالية مفهوم الرعاية على حقيقته في تلك التشريعات والممارسات.

نعم، الخلافة مشروع سياسي عظيم متكامل، ولا يوجد نظام على الأرض يُشبهه، وهي تنطلق –بعون الله ونصره- دولةً عملاقةً لحظة ولادتها، مع الأخذ بأسباب ذلك، لا مغامرة سياسية في بعض الأحياء والأنحاء، أو يكون قادتها في حالة كرّ وفرّ بين السهول والجبال، ولذلك فلا مجال لمقارنة مشروع الخلافة العظيم مع «خلافة» شكلية يُعلنها فصيل مسلح هنا أو هناك.

وهذا التميز في الطرح الحضاري على المستوى الفكري والسياسي والاقتصادي هو ما انفرد به حزب التحرير، عبر حمل مشروع ربانيّ كامل متكامل، استنبطه من الوحي، وسطّره في كُتبه العديدة، ولخّصه تشريعيًا في مشروع دستور الخلافة، ثم عرضه على الأمة عبر تواصل مستمر مع علمائها وحركاتها وساستها، وراكم خبرة سياسية وثروة فكرية قادرة على قيادة الأمة نحو مشروع الخلافة الثانية على منهاج النبوة.

لذلك لا نبالغ إذا قلنا إن حزب التحرير هو الثلة المؤمنة التي نهضت في آخر الزمان تحمل دعوة الإسلام ورسالته على بصيرة، وتسعى لتحقيق مشروع التغيير الحقيقي في الأمة: خلافة راشدة على منهاج النبوة. وإن ثلة تتمثل الولاء لله ولأوليائه وتتبرّأ من أعدائه ومن عملائهم، لا بد منصورة بوعد الله ينصر من يشاء: ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ).