أردوغان وسرّ حاجته "لإسرائيل" !

الدكتور مصعب أبو عرقوب*

 


أُسِر ملك فرنسا فرانسوا الأول في بعض حروبها في أوروبا وتحديدا في معركة معركة بافيا(Pavia) ، وشعرت فرنسا حينها أنها أهينت بأسر مليكها، ولَم يكن بمقدور جيشها أن ينقذ مليكها المأسور، فلجأت إلى دولة الخـلافة الإسلامية، الدولة العثمانية آنذاك، وأرسلت رسولاً باسم ملك فرنسا في 6/12/1525م يستغيث بالدولة الإسلامية، فقابل الرسولُ الخليفةَ العثماني سليمان القانوني، فأجاب الخليفة استغاثته، وأرسل إليه مع الرسول كتاباً جاء فيه (... وصلنا رسولكم بكتابكم الذي تقولون فيه إن عدوكم استولى على بلادكم وإنكم الآن محبوسون وتستدعون منا مدد العناية بخصوص خلاصكم، لقد أجبنا طلبك، فكن منشرح الصدر، ولا تكن مشغول الخاطر ...)، وهكذا كان، فقد استعملت دولة الخـلافة ثقلها الدولي، وقوتها العسكرية في إغاثة ملك فرنسا والمساهمة الفاعلة في فك أسره.

احتاجت فرنسا حينها لدولة الخلافة العثمانية في فك أسر مليكها، كما احتاج العالم بأسره لعدل الدولة الإسلامية ونور تشريعاتها وتقدمها العلمي في كل المجلات، فالتقدم الذي رافق الأمة الإسلامية في فتوحاتها أبهر البشرية، فدخلت القبائل والشعوب في دين الله أفوجا إقرارا بعظمة ذلك الدين الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.

دين جعل من القبائل العربية والكردية والسلجوقية والتترية قادة وخلفاء وعلماء ومحررين، فخرج منهم أبو بكر وعمر وخالد وصلاح الدين والبخاري والخوارزمي وغيرهم ...، دين ارتقى بالمماليك فصنع منهم سلاطين سحقوا المغول وخلصوا البشرية من طغيانهم، دين نهض بقبائل البربر ففتحت الأندلس ونشرت الإسلام في أوروبا ووصلت جحافلها لباريس.

ذات الدين وذات الرسالة والمبدأ جعلت من القبائل التركية المنسية المشتتة أبطالا فاتحين، مدحهم نبي الإسلام فقال عن السلطان محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية: "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش".

فقد حقق السلطان البطل محمد الفاتح بشارة الرسول عليه الصلاة والسلام وفتح القسطنطينية فاستحق مدح النبي عليه الصلاة والسلام، مدحا نقش على الباب العالي في اسطنبول ليقرأه كل من وقف أمام عز الدولة الإسلامية الراسخ في مباني وقصور الخلافة العثمانية الشامخة في عاصمة الخلافة آنذاك.

عاصمة انطلقت منها جحافل الجند الذين دكوا حصون النمسا وسعوا لاستكمال بشارة الرسول عليه السلام بفتح روما، ليرسخوا بذلك عظمة الباب العالي الذي روع ملوك أوروبا، ورفع راية الإسلام خفاقة على معظم أراضي أوروبا الشرقية، بعدما سيطرت الخلافة العثمانية وبسطت نفوذها على معظم بلاد المسلمين، فحفظتها وأقامت شرع الله فيها، فشعرت الأمة بالعزة والقوة على مدار قرون.

 

 قرون حافظت فيها الخلافة العثمانية على بلاد المسلمين ودرة تاجها الأرض المباركة التي كانت لها ذات المكانة العقدية في قلوب الأمة الإسلامية حتى وهي في أضعف حالتها، كانت دولة الخلافة العثمانية ترفع فلسطين إلى المنزلة العالية التي كفلها لها الدين الإسلامي فمنزلة ومكانة الأرض المباركة في ظل دولة الخلافة العثمانية سطرها السلطان عبد الحميد الذي قال: "إن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة".

خلافة شكلت الكيان السياسي للدين الإسلامي الذي ارتقى بتلك الأمم والشعوب والقبائل، التي انصهرت في بوتقة واحدة لتشكل أمة عظيمة راقية ذابت فيها العصبيات القبلية والقومية والجغرافية الضيقة وأصبحت أمة ذات رسالة نور وهداية تحملها للبشرية جمعاء، فانطلقت بها تفتح البلاد وتنشر العدل والتشريع الراقي المنبثق من الوحي الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، فدانت لهم الدنيا وأصبحت البشرية تشعر أنها بحاجة لتلك الرسالة لتنهض وتضع قدمها على طريق الرقي والسمو والعدل الذي سلكته أمة الإسلام، بحاجة إلى ذلك السر العظيم الذي أعاد صياغة أمم وقبائل كانت عبيدا عند القوى العظمى فأصبحت أمة عظيمة راقية ..كسرت الفرس والروم وأقامت أعظم حضارة عرفتها البشرية.

بشرية أدركت  ومنذ اللحظات الأولى لخروج المسلمين للعالم أن قبائل العرب ومن بعدهم كل القبائل والشعوب التي شكلت أمة الإسلام لم تحتج في نهضتها إلا إلى الإسلام العظيم الذي حررها من عبادة الأصنام ومن العبودية للأنظمة الحاكمة والطواغيت ومن الأوهام والخزعبلات ونقلها إلى الفكر الراقي المستنير، وأخرجها من استبداد الشهوات وأصحاب البدع والإقطاعيين والقياصرة والأكاسرة إلى عدل الإسلام ومساواته للبشر أمام الإحكام الشرعية لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فلم تحتج تلك الشعوب والقبائل إلى غير ذلك...فالإسلام كان ذلك السر.

سر كشفته قبائل العرب والكرد والتتر والبربر، وتشبث به واحتاجته المماليك والعثمانيون، فاعلوا من شأن الدين، وكانت الخلافة كيانهم السياسي الجامع لأمة الإسلام، تستند في وجودها إلى الأحكام الشرعية ولا تحتاج إلى غيرها، فالدين الإسلامي كمنهج حياة وكمبدأ منه الدولة كان كل ما احتاجه أولئك العظماء فقط، فقد أيقنوا دوما أن الإسلام هو سبب نهضتهم وعزهم وأن الإسلام هو ....السر.

سر لم يدركه أردوغان ولم يعمل على تفعيله، سر افتقده أردوغان بفصله الدين عن الدولة وبتمسكه بثوابت مصطفى كمال الذي هدم كيان الأمة السياسي، فأصبح يستند في حكمه إلى الغرب المستعمر الذي لا يريد لأمة الإسلام أن تنهض من جديد.

 فاحتاج أردوغان دوما إلى "أشياء" أخرى ظن واهما أنها قد تثبت أركان حكمه وتصنع له عزا، احتاج الاتحاد الأوروبي يوما علّه يعيد له مجدا كمجد الباب العالي فخاب وخسر، واحتاج لتصريحات عنترية يوما آخر فخرج من دافوس مغاضبا ظنا منه أن بطولة التصريحات كبطولة محمد الفاتح! واحتاج يوما آخر لتشييد قصر رئاسي مهيب علّه يضفي عليه أبهة السلاطين العثمانيين الذين كانوا يحملون أكفانهم في عمائمهم في ساحات الجهاد فلم يفلح في تقليدهم، وآخر احتياجاته كانت لكيان مسخ هزيل مصطنع سمي "إسرائيل"!!.

 فقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن "تركيا في حاجة إلى اسرائيل"، على غرار "اسرائيل" التي تحتاج أيضاً إلى تركيا في منطقة الشرق الأوسط، فتركيا العظيمة لم تحتج يوما لأحد، ولكن تركيا في ظل أردوغان الذي افتقد لسر العظمة والنهوض محتاج لكل شيء يقدم فيه قرابين الولاء والطاعة فيه لمن أسسوا دولته العلمانية "الكمالية"، أردوغان يحتاج لأوروبا ولأمريكا ويخطب ودها من خلال كيان يهود الذي يعترف به كحقيقة واقعة في المنطقة على حد تعبيره، يحتاج من يدّعي وصلا بالعثمانيين لكيان يغتصب الأرض المباركة ومسرى الرسول عليه السلام وقبلة المسلمين الأولى!!..

احتياج يسوقه إلى التصريح والعمل بكل ما يرضي الغرب المستعمر، "فتركيا لن تتراجع عن العلمانية" يؤكدها صريحة في خطاب له، فيرسخ في سلوكه نظاما علمانيا لا يستند إلى ثقافة الأمة التي ترى وجوب تحرير الأرض المباركة كلها وضرورة عودة الإسلام مطبقا بأنظمته وتشريعاته، بل يحارب كل عودة للإسلام إلى الحكم، وهو بذلك يبتعد دوما عن سر العظمة والنهضة، ولا تعدو تصريحاته وعنترياته الإعلامية بخصوص العثمانيين وعزة الأمة الإسلامية مجرد محاولة بائسة للتشبه الشكلي بالعظماء، تشبه يدغدغ به مشاعر الشعب التركي والأمة الإسلامية في مواسم الانتخابات لعلمه بحب الأمة الإسلامية لإسلامها وشوقها لأيام العز والمجد الذي عاشته في ظل الخلافة الإسلامية ومنها الخلافة العثمانية.

خلافة يحارب عودتها بتمسكه بالنظام العلماني "الكمالي" والدستور المنبثق عنه، يحارب عودة كيان الأمة السياسي بتقديسه لحدود سايكس بيكو الاستعمارية ...تقديسا جعله يقف متفرجا على دماء أمته التي تراق في سوريا والعراق وفلسطين فانسلخ بذلك عن مفهوم الأمة وفتح مطاراته وقواعده العسكرية لطائرات وجنود المستعمرين الغربيين ليقصفوا ويقتلوا ويدمروا حواضر المسلمين ومدنهم في العراق والشام!.

هنا...ينكشف سر احتياج أردوغان وأمثاله من الطغاة لكيان هزيل مصطنع، فأردوغان والأنظمة العميلة للغرب الذين يحاربون عودة الكيان السياسي للأمة الإسلامية يحتاجون في وجود كياناتهم المصطنعة والمفصلة على مقاييس سايكس وبيكو إلى دعم من أنشأ تلك الكيانات والأنظمة...محتاجون للغرب المستعمر في وجودهم ويستمدون "شرعية طغيانهم" من تقديم قرابين الولاء والطاعة لهم ومن تأكيدهم دوما على "حفظ امن واستقرار المنطقة" وضمان وجود كيان يهود كحقيقة واقعة! ألفاظ وتصريحات ترجمتها الحقيقية تعني معنى سياسيا واحداً فقط: "منع سقوط منظومة سايكس بيكو من خلال منع الأمة الإسلامية من إقامة كيانها السياسي المتمثل في إقامة الخلافة الراشدة التي ستوحد المسلمين وتقتلع نفوذ الغرب وتنهي كيان يهود وتعيد للمسلمين عزهم".

 

عز وسلطان باتت الأمة الإسلامية تفتقر إليه في ظل أردوغان وشاكلته من الطغاة، وتسعى بحراكها الثوري إلى استعادته متجاوزة بذلك كل العنتريات الفارغة واضعة خلفها أردوغان واحتياجاته المخزية، فالأمة التي تدق باب الانعتاق من كل تبعية للغرب محتاجة فقط لسر عظمتها...محتاجة للإسلام مفعلا في كيان سياسي قوي يجمع شتاتها ويستعيد سلطانها المسلوب وعزها المفقود، ويعيد تلك المكانة العريقة والمهابة العظمية للباب العالي الذي نقش عليه "دائرة أمور عسكرية " وحديث النبي "نعم الجيش جيشها ونعم الأمير أميرها"، في إشارة واضحة لسر العظمة و للسبيل الذي يجب أن تسلكه الأمة ..وتحتاجه تركيا.

تركيا ليست بحاجة بالمطلق إلى أردوغان وأمثاله من الضعفاء والمحتاجين والعجزة والعبيد للمستعمرين، بل هي والأمة الإسلامية بحاجة إلى خليفة يضع اسمه جانب اسم محمد الفاتح فاتحا لروما، بعد تحريره للمسجد الأقصى، والى أن يبايع ذلك الخليفة فإن الثورة يجب أن تستمر.

 

* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين