الدكتور ماهر الجعبري

– عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

إن المتبصر بالواقع الذي تمخض عن الانقلاب في مصر يلاحظ بوضوح حالة من الاستقواء العلماني منتشرة على الفضائيات (المصرية على وجه الخصوص)، تترافق مع حالة من الردة الثورية في الأنظمة تحت عناوين حركات التمرد. ولم يقف الحال عند حدود مصر، بل انعكست أجواء الانقلاب على الأجواء التونسية والفلسطينية وغيرها. ودخلت المنطقة سياسيا في حالة من محاولة إعادة الزمن للوراء.

ففي مصر يعيد النظام المصري تشكله بفتح الباب واسعا أمام عودة رموز النظام السابق إلى التفرد بمكامن النظام والتأكيد على علمانية الدولة، ولا أدل على ذلك من تسلم عمرو موسى-وزير الخارجية المصري الأسبق- لرئاسة لجنة تعديل الدستور، مع علو لهجة الإعلاميين في الفضائيات المصرية ضد "الإسلام السياسي"، بل وصل بهم الحال إلى الإعلان عن فشل المشروع الإسلامي، استنادا إلى فشل أداء الدكتور مرسي في الحكم. وجاء ذلك بعد حملة اعتقالات سياسية واسعة وسلسلة جرائم دموية بشعة، لم تكن لتُقبل في زمن ما قبل الثورة، فكيف بها بعدها لولا أن الواقع يشهد الآن ردة ثورية.

وفي تونس يحاول رموز النظام الجديد التوافق مع رموز النظام القديم على اقتسام كعكة الحكم، قبل أن يتكرر المشهد المصري. ويتحركون بقوة للتصدي "للإرهاب" كما يسمونه، للتماشي مع متطلبات المرحلة، ويلتقي الطرفان على علمانية الحكم

وفي فلسطين، ارتفعت وتيرة قمع السلطة الفلسطينية للتحركات الشعبية والسياسية، وتصدت أجهزتها الأمنية لبعض المسيرات التي انطلقت ضد الانقلاب في مصر، بل وخطب وزير أوقافها –الهباش- متوعدا أئمة المساجد بالعقاب إن هم خرجوا عن النص في خطب الجمعة وتحدثوا عن ثورة مصر وثورة الشام.

وهذه التطورات السياسية الخطرة على مستقبل الأمة وثوراتها، يجب أن تدفع دعاة التغيير إلى (1) مراجعة نهج التساكن مع أشلاء الأنظمة التي انقلبت عليها الشعوب، وإلى (2) إعادة التفكير بلغة المهادنة مع عملاء أمريكا في المنطقة ورجالاتها، وإلى (3) مراجعة الدبلوماسية الناعمة مع السفارات الاستعمارية في العواصم العربية، ومن ثم إلى (4) وقفة جادة أمام تعريف المشروع السياسي الذي تحمله الثورة. كما يفصل هذا المقال.

***

إن حالة الردة الثورية هذه -مع هذا التغول الإعلامي- تقتضي من الأمة بلورة تعريف الصراع مع الأنظمة وأبواقهم الإعلامية بأنه صراع تحرر من الاستعمار، من أجل التخلص من الهيمنة الأمريكية: سواء كانت في مصر أم في فلسطين أن في سوريا أم في غيرها. ولا يمكن فصل قضايا الأمة عن بعضها، كما يحاول البعض التذرع بالوطنية الضيقة والشأن الداخلي.

إن الأمة الإسلامية هي جسم متصل يسري فيه دم واحد ويصارع فيروسات استعمارية واحدة، فإنْ تحرّك الدم في مصر، قاوم الجسم فيروساته في فلسطين، وإن غلى في عروق تونس اندفعت حرارته في اليمن، وإن تعرض لنكسة في الشام استأسد النظام في الأردن

وإن محاولة رموز الأنظمة المستبدة كبح جماح الثورات والارتداد السياسي عليها، يجب أن يدفع الأمة إلى نهج المفاصلة مع رجالات تلك الأنظمة ورموزها السياسية وأبواقها الإعلامية، وإلى رفض كل محاولات التمازج مع ذيول الاستعمار، لأن تلك المحاولات قد أعطتهم فرصة التربص بعد أن كمنوا يكيدون ويستعدون. ولذلك فإن الطور الذي دخلت فيه تونس هو سير على طريق مصر الفاشل يفتح الباب لردة ثورية فيها بدل أن يستبقها إلى مفاصلة ثورية.

لقد قدّمت الثورة المصرية تنازلات مبدئية وقبلت بحالة نصف ثورة، فتركت رجالات النظام القديم يسرحون ويمرحون، حتى تمكنوا من إعادة ترتيب المشهد السياسي بما يحقق مصالحهم من جديد. ثم إنها قبلت أن ترتمي في حضن المستعمر، وفتحت الباب للتواصل السياسي مع السفارة الأمريكية ومع مندوبي أمريكا من مثل رجلها المخضرم كارتر، وتلقت منهم إملاءات التنسيق السياسي واستلهمت رؤية أمريكا لمستقبل مصر ما بعد الثورة من حفظ مصالح الكيان اليهودي، ونجحت أمريكا في توريط رجالات ما بعد الثورة في تنفيذ برامجهم والحفاظ على إبقاء تبعية النظام لها. ومن ثم لما انتهى دورهم رمت بهم على قارعة الطريق، بل إلى غياهب السجون، كحالها في التخلي عن كل من يخدم برامجهم، إذا اقتضت مصالحها ذلك.

وهي "تجربة" سياسية  جديرة بأن تفتح أعين ثوار الشام إلى الحقيقة المدركة بأن "نصف ثورة هي مقتل"، لأنها تسكين لحالة الصراع مع مستبدين يترنحون بدل القضاء عليها نهائيا وخلع الاستبداد من جذوره، وهي تعطي النظام القديم –ومَن خلفه من قوة استعمارية- استراحة المحارب ليستجمع قواه من جديد، حتى ينقض على مفاصل الحكم مرة أخرى.

وإن الأمة تحمل الإسلام كمشروع تحرر، وهو لا يقبل أنصاف الحلول ولا أنصاف الثورات ولا أنصاف التغيير، بل هو دعوة للتغيير الجذري والانقلاب الفكري والسياسي على الواقع الحالي قبل الانقلاب العسكري عليه.

والإسلام كنظام حكم لم تجربه الشعوب المعاصرة بعد، ولذلك لا يمكن لماكينة الإعلام المصرية أن تقفز فوق هذه الحقيقة وأن تعتبر أن "سقوط حكم مرسي هو سقوط لحلم الخلافة"، من مثل ما نشرته صحيفة اليوم السابع بتاريخ 4/7/2013 (بعد سقوط الإخوان.. وزير داخلية حماس: انهيار نظام الجماعة يعنى ضياع حلم الخلافة الإسلامية...)، وما كتبه د. صالح بكر الطيار على موقع الوفد بتاريخ6/8/2013 تحت عنوان "سقوط حلم إقامة دولة الخلافة "الإخوانية"".

ولعل مقال قديم للباحث نعمان حنيف المتخصص بشؤون الإسلام السياسي في بريطانيا يوضح بطلان تلك الدعوى، ابتداء من عنوانه الذي كان "الخلافة: التحدي الإسلامي للنظام العالمي"، مما يمثل تصويرا كاشفا لمستقبل هذا المشروع الذي لم "يجرب"، (نشره على موقع مراقب(Media Monitors) قبل زمن الثورات بتاريخ 31/1/2006). والذي قال فيه " إن التحدي الحقيقي الذي ستواجه المصالح الغربية والرأسمالية العالمية يكمن في مبادئ وسياسات الاقتصاد والجيش والعلاقات الخارجية". ومثل هذا التحدي لم يواجه الغرب بعد: لا في مصر ولا في غيرها، بل الذي حصل في مصر هو عكس ذلك تماما: من رمي الثورة في حضن الغرب، واجترار النظام المصري-ما بعد الثورة- "مبادئ وسياسات الاقتصاد والجيش والعلاقات الخارجية" القائمة على العلمانية-الرأسمالية.

وقد كان حنيف سبّاقا في رفض ادعاء فشل الإسلام السياسي قبل تجربة مرسي بالقول "وفي الواقع، إن القول بأن الإسلام السياسي قد فشل لأنه لم يتمكن من التأقلم مع الحداثة الغربية ومع البنية السياسية الغربية لا يعتبر محاكمةً لفشل الإسلام السياسي، بل إنه برهان آخر على أن الإسلام وهندسة السياسة الغربية لا يتلاءمان من الأصل".

وقد وجه الكاتب نصيحة للغرب بتقبل حتمية الخلافة بالقول: "وليس لدى الغرب أي خيار سوى قبول حتمية الخلافة وتشكيل موقف واضح تجاه الإسلام"، وهي تتطابق مع مضمون نصيحة حديثة للإعلامي الأمريكي جو شيا لرئيسه أوباما في مقاله "الحرب ضد الخلافة" (JOE SHEA, THE WAR AGAINST THE CALIPHATE, American Reporter Vol. 16, No. 3,857 January 19, 2010)

ومن هنا فإن أتّون الثورة لا زال مشتعلا في الأمة، وهو مركّز اليوم في الشام، التي أفصح وزير خارجية نظام الأسد فيها على أن سقوط بشار يفضي إلى الخلافة، كما نشر موقع يا عيني في 25/6/2013 تحت عنوان "وليد المعلم يحذر من خطورة قيام دولة الخلافة الإسلامية في سوريا والمنطقة"، وضمّن الخبر تسجيل ذلك التصريح للمعلم. وهو ما يدركه قادة دولة الاحتلال اليهودي ويصرحون به، حسب ما نشرت وكالة معا بتاريخ 10/9/2013 تحت عنوان "قادة إسرائيليون: إذا هوجمنا سنرد بقوة والثورات هدفها خلافة إسلامية".

لذلك نختم بالقول إن الخلافة هي النظام السياسي الذي يمتلك القوة الفكرية والسياسية، وهي القادرة على حشد القوة العسكرية، لخلع الهيمنة الغربية من جذورها وتخليص الأمة من شرورها، والقضاء على رجالاتها عبر محاكم دستورية شرعية  لا عبر محاكمات مستندة إلى دساتير الأنظمة السابقة التي سطرت التشريعات التي يحمي رجالاتها. وهي حالة سياسية متفجرة لم تشهدها الأمة بعد، ومن يتحدث عن سقوطها يتحدث عن أوهام نفسية لا عن حقائق واقعية. ولا يمكن لهذه الردة الثورية من قبل الأنظمة أن تلغي مشروع الخلافة مهما استغول الإعلام وادّعى.

20-9-2013