مشروع السلطتين الفلسطينيتين: 1- دخول اللاعبين الجدد

الدكتور ماهر الجعبري

 

في سلسلة سابقة من المقالات تحت عنوان "قضية فلسطين"، والتي ضمن 16 حلقة، تم استعراض التطور التاريخي لقضية فلسطين، وتم كشف المؤامرات الدولية بمشاركة الأنظمة العربية والجامعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية وصولا إلى تأسيس السلطة الفلسطينية. وفي هذه السلسلة الجديدة، نستعرض الحالة الفلسطينية التي أخذت تتجذر على الأرض كأنها حل الدويلات الثلاثة: سلطتين ودولة احتلال"! وذلك بعد الانحسار التام لحل الدولة الواحدة (البريطاني)، وبعد تعثر حل الدولتين (الأمريكي)، وعلى إثر جر "الإسلاميين" للانغماس في وحل السلطة الفلسطينية.

 

بعد مرحلة طويلة من التنافس الدولي والإقليمي حول الرؤى السياسية (الغربية) لحل قضية فلسطين، وبعد الانبطاح التام لقادة منظمة التحرير الفلسطينية للمطالبة بالرؤية الأمريكية (حل الدولتين) كأقسى طموحها "النضالي!"، وبعدما رضي قادتها بأن يكونوا حرس حدود في سلطة تعفي الاحتلال من مسئولياته تجاه الشعب تحت الاحتلال، وتحفظ للاحتلال أمنه، وبعد شرعنة تلك الجريمة عبر الانتخابات الفلسطينية الأولى، ومن ثم عبر قرارات المجلس التشريعي بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، وعبر سلسلة من الاتفاقيات الأمنية، كانت المرحلة الجديدة تقتضي وجود قيادات سلطوية جديدة صافية الولاء لأمريكا، وتعتنق خارطة الطريق كنهج راسخ.

وبعد انتهاء دور عرفات، دفعت أمريكا بمحمود عباس إلى رأس الهرم بعدما كان متهما بالجريمة والخيانة من قبل فتح، وبعدما كان قد اعترف بخياناته العريقة في الاتصال مع اليهود منذ السبعينات من القرن الماضي كما وثّق في كتابه طريق أوسلو. وانخرط عباس في تفعيل التعاون الأمني مع اليهود على أعلى المستويات، حتى انطبق عليه بالممارسة وصف كارازاي فلسطين، كما كان عرفات قد أطلق عليه.

 

مع منتصف العقد الأول من القرن الجديد، غاب عن المشهد السياسي "رمزان" من الجانبين: غاب عرفات وتمكنت أمريكا من تشكيل القيادة الفلسطينية الجديدة على المقاس الذي أرادته، ثم غاب شارون بعدما أسس حزب كاديما الجديد.

وكان العام 2006 عام ظهور اللاعبين الجدد، إذ توافق فيه حصول انتخابات فلسطينية وإسرائيلية. وتسلم أولمرت حكومة "إسرائيل"، مطلع العام 2006، ولم يكن أولمرت من صنف القيادات المخضرمة في التاريخ العسكري "الإسرائيلي". ولذلك تفتقت الساحة السياسية على الجانبين عن "زعماء" للمرحلة الجديدة بخلفيات وشعارات جديدة. 

 

وكانت أمريكا قد تمكنت من مباشرة تنفيذ خارطة الطريق عبر انتخابات الرئاسة الفلسطينية، ثم عبر التنسيق الأمني الذي انطلق بقوة مع تمكّن محمود عباس من استعادة الإمساك بخيوط السلطة والمنظمة.  وتمثلت الخطوة التالية في استكمال بند الانتخابات التشريعية.

وكانت أوروبا قد خسرت فرص التأثير في مسار القضية بعد انحسار الوجود العرفاتي عن السلطة الفلسطينية، وصار لا بد لها من محاولة العودة عبر رجالات جدد تستميلهم نحو تحقيق مصالحها، أو تربط مصالحهم بمصالحها، ويسيرون في القنوات التي تفتحها لهم، وكان من الطبيعي أن تجد أوروبا في الدفع لإشراك رجالات المقاومة فرصة لاستعادة القدرة على التأثير على المشهد الفلسطيني.

وتوافقت حاجة أوروبا للرجالات مع حاجة قيادات في المقاومة لمد الجسور مع المجتمع الدولي، وفتح المجال لممارسة اللعبة الدبلوماسية. وتزامن ذلك مع علو نبرات الحديث عن التهدئة لدى فصائل المقاومة، وذلك بعد مرحلة مريرة من الحرب على الإرهاب. ولذلك صارت الفرصة مهيأة من مختلف الزوايا لإشراك حركة حماس في الانتخابات التشريعية.

كانت حركة حماس قد عارضت بشدة الانتخابات التشريعية في العام 1996 (كما ورد في الحلقة 13 من سلسلة قضية فلسطين)، وكانت قد أصدرت بيانا رسميا صارخا، رفضت فيه بمبدئية واضحة "انتخابات أوسلو" "تحت حراب المحتل الصهيوني" التي تكرّس "قبضة سلطة الحكم الذاتي"، حسب تعبيراتها (بيان حماس بشأن نتائج انتخابات الحكم الذاتي 24/1/1996 ). بل إن حماس كانت قد رفضت خطوة إسماعيل هنية عندما ترشح لانتخابات 1996، وقد أثارت فكرة المشاركة في تلك الانتخابات –في حينه- جدلا قويا في الحركة، مما اضطر هنية إلى سحب ترشيحه (بل وتنقل بعض المصادر أن حماس كانت قد صدرت بيانا ضد هنية نفسه حول موقفه ذاك).

ولذلك كان قرار حماس الجديد للمشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2006 انقلابا فكريا على ما أعلنته في السابق، وردة سياسية على قرار حاسم كانت قد اتخذته. ومن نافلة القول التأكيد هنا أن قرار المشاركة الجديد لم يحظ بإجماع داخل الحركة، وأنه جاء بعد حملة تصفية واغتيالات نالت عددا من القيادات الحمساوية، ومنهم الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي رحمهما الله. وتوافق ذلك مع بروز تيار "حمائمي" في الحركة يدفع نحو خوض لعبة العلاقات الدولية. وقد استطاع ذلك التيار مد جسور التواصل مع الأنظمة العربية (على غرار تجربة منظمة التحرير في تلك العلاقات)، وصارت تلك الجسور الممتدة والعلاقات المنسوجة بحاجة للحصول على شرعية انتخابية تمثيلية.

كشف قرار حماس للدخول لانتخابات السلطة عن فرص مستقبلية لإشراك حماس في الحلول السياسية، لأن الحقيقية التي لا جدال فيها أن المقاومة لا تحتاج تفويضا من أحد للقيام بها، على عكس الانخراط في المشاريع السياسية والمفاوضات فهي التي تحتاج التفويض "والشرعيّة التمثيلية". وقد كان من المعلوم بداهة أن انتخابات المجلس التشريعي تجري تحت الاحتلال وعلى أساس اتفاقية اوسلو، بل حسب بنود خارطة الطريق (2003) التي خصصت المرحلة الأولى فيها تحت عنوان التحول/الانتخابات، ونصت على أن "يُجري الفلسطينيون انتخابات حرة وعادلة وشفافة للمجلس التشريعي الفلسطيني"، ضمن المرحلة الأولى، تمهيدا للمرحلة الثانية من الخطة الأمريكية، التي ربطت متابعات التنفيذ بخطوة الانتخابات.

إذن، خاضت حماس غمار الانتخابات ضمن ما فسحته السياسة الأمريكية، رغم كل ما قيل من تبريرات.  وكان محمود عباس قد أكّد أن "المجلس التشريعي أسس على أساس بند من بنود اوسلو ولذلك كل ما يجري إنما يجري على أساس اوسلو"، وقال "قد يحلو للبعض أن يتخيل ما يوافق هواه ويقول إن اتفاقية أوسلو قد ماتت، ولكن الحقيقة أن هذه الانتخابات تجري وفق اتفاقية أوسلو، وأنا رئيس منتخب للسلطة بموجب اتفاقية أوسلو". 

ولم تتعلم حركة حماس من درس الانتخابات التشريعية الأولى التي تمثلت باكورة إنجازات مجلسها في إلغاء بنود من الميثاق الوطني الفلسطيني، وفي شرعنة جريمة الاعتراف بالاحتلال، ولم تقبل حقيقة الوعي على أن المجلس التشريعي إنما وُجد لتمرير مخططات أمريكا لتصفية قضية فلسطين.  وكل واحدة من هذه النقاط كفيلة بأن تكون سدا منيعا أمام انغماس أي حركة إسلامية في وحلها وفي آثامها.

وتوافقت الإرادات الدولية المؤثرة على الساحة الفلسطينية على غمس حماس في وحل السلطة بهدف الحصول على اعتراف بطابع إسلامي بالكيان "الإسرائيلي"، بعد أن لم يكف اعتراف المنظمة ورجالاتها تحت شعار العلمانية. ولا شك أن القبول بسلطة تحت الاحتلال وبمؤسساتها هو أول الاعتراف. ولقد تجاوبت حماس مع متطلبات المرحلة عندما قررت أن لا تدرج في برنامجها الانتخابي إزالة "إسرائيل" وعدم الاعتراف بها، بل تماهت مع متطلبات المجتمع الدولي عندما أخذت تتحدث عن هدف مرحلي وعن دولة في حدود 1967.

وتمّت الانتخابات في 25/1/2006. واكتفت حركة الجهاد الإسلامي بالامتناع عن التصويت، أما حزب التحرير فقد حذّر من مغبة المشاركة في تلك الانتخابات، ولكن حركة حماس لم تقبل النصيحة، وأصرّت على خوضها دون رؤية لما بعدها، ودون وعي على الشَرَك الذي أُعد لتوريطها. وصارت تدافع عن مشاركتها بقوة.

وفازت حماس بأغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، ودفعتها حركة فتح نحو الواجهة السلطوية من خلال تشكيل الحكومة الفلسطينية، وذلك ضمن تخطيط مدروس لتوريطها في مشروع سلطة تحت الاحتلال، فيما انصرفت فتح إلى محاولة إعادة البناء وترتيب "البيت الفتحاوي"، والذي اقتضى التخلص من كل من لم يكن حسب المقاس الأمريكي، واقتضى قطع كل حبال الترابط مع بريطانيا بعد سجل فتحاوي عريق من العلاقات التاريخية.

ووجه حزب التحرير نصيحة صادقة لحركة حماس في 28/1/2006 بأن "تَوَلِّي السُّلطة في ظل الاحتلال شَرَكٌ ليلحق "الإسلاميون" بالعلمانيين في الموافقة على القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين"، ولكنّ حماس المأخوذة بنشوة الفوز، تورطت أكثر وشكلت حكومة برئاسة إسماعيل هنية (الذي كانت الحركة قد قرّعته في انتخابات 1996 على موقفه منها).

ومن ثم أقسمت رجالات حماس يمين الولاء لمهندس أوسلو ولكرازاي فلسطين، وتسلّمت مهام سلطة خدماتية تعفي الاحتلال من مسئولياته، ووقعت فيما حذّر منه الرنتيسي رحمه الله عندما تحدّث عن هدف الاحتلال في "إيجاد سلطة محلية تدير شؤون المواطنين، فتخفف عن المحتل أعباء الإدارة، وفي نفس الوقت تحفظ للاحتلال مصالحه"، وتغافلت عن توجيهه في أن همّ السلطة هو "مباركة الاحتلال، والتعاون معه ضد أبناء شعبها، لحفظ أمن الاحتلال واستقراره وبقائه مقابل أن يضمن الاحتلال لتلك السلطة وجودها"، ولم تعترف بتوصيفه للحاكم في مثل تلك السلطة بلقب كرازي (هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟).

 

وهكذا نفخت مشاركة حماس الروح من جديد في سلطة كانت آيلة للسقوط، وتم التمهيد لمتابعة تنفيذ خطة أمريكا. وتزامن تطور المشهد الفلسطيني، مع صدور إستراتيجية الأمن القومي لأمريكا في آذار 2006، والتي ركّزت على بعدين رئيسين للسياسات الأمريكية تجاه المسلمين: ترويج الديمقراطية، ومنع انتشار الإرهاب (استراتيجية الأمن القومي لأمريكا)، وألقت تلك الرؤية الأمريكية للسياسة الخارجية الجديدة بظلالها على قصية فلسطين الساخنة. وبكل أسف لم تدرك حماس خطورة الموقف التي تصفه الإستراتيجية الأمريكية "بحرب الأفكار" بين مشروع أمريكا الديمقراطي وبين مشروع الأمة الإسلامي، ولم تلتفت حركة حماس لما نصّت عليه الوثيقة من حرص أمريكا على كسب المعركة بالقول: "على المدى الطويل، فإن كسب الحرب على الإرهاب يعني كسب معركة الأفكار"، وبدل التموضع مع المسلمين على موقف الرفض للانغماس في السلطة والوقوف الفكري مع الأمة في حرب الأفكار ضد مشروع أمريكا قبلت حماس "باللعبة الديمقراطية"، بل وتحت حراب الاحتلال اليهودي.

وهكذا تمثّل المشهد على الساحة الفلسطينية في تلك الفترة ببروز مجموعة متنوّعة من اللاعبين الجدد على مستوى "إسرائيل" وعلى مستوى السلطة الفلسطينية، وتم فيها توريط الشعار الإسلامي في سلطة أمنية تحت الاحتلال، وتم فيها تمييع الخطاب السياسي حول قضية فلسطين، بما يتفق مع إستراتيجية أمريكا في "حرب الأفكار"، وبما يؤسس لوجود خطاب قابل لأن تكون هنالك سلطة تحت الاحتلال، وبما يمهّد لرفع وتيرة التصريحات "الإسلامية" بقبول حل الدولتين (الأمريكي)، والقاضي تلقائيا بوجود دولة "إسرائيل". وهو ما فتح لمرحلة بشعة في تاريخ قضية فلسطين.