مرسي يجدد عهد السادات ويفر من الحظيرة!

الدكتور ماهر الجعبري

 

من محمد مرسي عبد لله إلى شمعون بيرز ملك يهوذا: الجواب ما ترى لا ما تسمع!

من الممكن أن يكون هذا مضمون الرسالة التي حملها رسول مرسي إلى بيرز، قاصدا فيها أن الجواب ما ترى في نص الرسالة من ود لا ما تسمع على الفضائيات من بغض، فالخطاب الحماسي مخصص للأتباع أما الخطاب الدبلوماسي فمخصص للأصدقاء، مع رجاء تفهم صعوبة الموقف السياسي في مصر، إذ أن الناس قد صوّتوا للرئيس تحت شعار الإسلام.

ولا شك أن بيرز يدرك أن الإسلام يعلّم أتباعه أن أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُود، ومن الممكن أن يوضّح رسول مرسي لبيرز أن رئيسه إذ تسلق إلى كرسي الرئاسة رافعا شعار هذا الإسلام، فإنه لا يستطيع إلا أن يتحدث لغته أمام الناس، أما جوابه  إلى بيرز فهو "ما ترى في مرسوم تكليف السفير لا ما تسمع من أفواه المغامرين من الخطباء ولا المتحمسين من الثوار".

نعم بكل بساطة، فإن مرسي قد طمأن بيرز "بروتوكوليا" أن الجواب ما يحمله رسولي إليكم، لا ما تحمله جنودي عليكم. وهو مضمون ما أكده الناطق الرسمي باسم مرسي، بأن "إسرائيل" هي دولة معترف بها فعليا في مصر التي يرأسها مرسي.

وأمام فظاعة هذا المشهد الذي يريد "الإسلاميون" تمريره على الأمة، تحت منطق معرفة الحق بمرسي بدل معرفة مرسي بالحق، لا بد من وقفة حق عند ساعة الحقيقة هذه تكشف مرسي ونظامه الذي يتحدّى مشاعر الأمة.

وهو موقف يؤكد من جديد أن فلسطين هي ورقة عباد الشمس التي تكشف درجة انفصام الأنظمة السياسية المائعة عن الأمة وارتمائها في أحضان أعدائها، تماما كما تكشف ورقة عباد الشمس درجة الحموضة في المحاليل المائعة.

إن التطبيع هو العملية السياسية التي تؤدي إلى خلط المواقف وتفريغ مشاعر الأمة ضد هذا الكيان المحتل المجرم، والتطبيع هو الذي يفسح المجال لليهود المحتلين للعبور إلى وجدان الأمة. بل هو محور سياسات قادة اليهود، وخصوصا لدى بيرز عرّاب التطبيع والاختراق الاقتصادي، كما سطّر في كتابه الشرق الأوسط الجديد الذي صدر في العام 1994، يؤسس فيه لمفهوم إدماج "إسرائيل" في المنطقة أو بتعبير أدق ابتلاع "إسرائيل" للمنطقة، وقد اعتبر بيرز فيه أن ما سماه الأصوليّة هي المُهدد الوحيد لاستقرار المنطقة. ولكنه اليوم مع تسلمه رسالة من "الأصولي مرسي!" قد يغيّر نظرته إذا كان قد صنف الإخوان المسلمين ضمن خانة الأصوليين.

كانت اتفاقية كامب ديفيد قد فتحت باب التطبيع، فغنّى الشاعر أن الثور فر من الحظيرة، ثم بيّن أنه "بعد عام، وقعت حادثة مثيرة، لم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحظيرة". ليصور مشهد فرار السادات نحو العلاقة مع "إسرائيل"، ويفاجأ المشهد الشعري أنه عندما تذرّع بعضهم بالقول: "امنحوه فرصة أخيرة"، تبعته ثيران الحظيرة. 

أما مفاجأة اليوم، فإنه قد تبعته "ثوّار الحظيرة"، إذ يفرّ مرسي لتبقى الحظيرة مستباحة، وتكرر منطق "البعض" بالقول: امنحوه فرصة تلو الفرصة ولن تكون الأخيرة، ليتكرر المشهد، وتبقى فلسطين أسيرة.

 

ومن أجل استعادة الرشد أمام موقف العار السياسي هذا، لا بد من استحضار موقفين من الذاكرة السياسية يسهمان في تجلية الموقف، ويساعدان في إعادة التوازن للأتباع الذين لا يريدون الحكم على الأفعال من خلال جوهرها ولا مظهرها، بل من خلال فاعلها فقط.

 

"إن دغدغةمشاعر البسطاء من المصريين الطيبين بضرورة الإبقاء على الاتفاقية هو ابتزازحكومي ضد الوطن وأمنه القومي بمفهومه الصحيح ... إن التلاعب الحكومي المستمر بحقائق الواقع المرير للاتفاقية- الذي أنجب جواسيس يجب إعدامهم في ميدان عام، وضيَّع معظم ثروات مصر، وأودىبحياة الجنود المصريين على الحدود- يجب أن يتم وقفه مباشرة؛ إنقاذًا للمستقبل الذي يحاول الكيان الصهيوني الاستيلاء عليه عنوة، وسط غياب للمبادئ الوطنية العليا، التي لا تقبل المناقشة أو المساومة أو التبرير تحتأي ظرف من الظروف".

قد تندمج الفقرة أعلاه في سياق هذا المقال كأنها نص منه، كتعقيب على ما يجري من تبرير للاتفاقية، وكرفض لمنطق "التبرير تحت أي ظرف"! ولكن المفاجأة أنها نص مقتبس عن موقع "الإخوان المسلمون" تحت عنوان "أعدموا كامب ديفيد"، كما ورد على موقعهم بتاريخ 21/12/2010. وهي تجسيد للموقف الأول.

أما الموقف الثاني، فهو مشاهد التظاهرات التي كانت تصدح فيها حناجر المتظاهرين أيام حكم مبارك، وتصرخ "بدنا نحارب" تحت القمع وقبل الثورة! وهي من مثل الخبر الذي أورده موقع (الإخوان المسلمون) بتاريخ 24/3/2004 تحت عنوان مظاهرة بجامعة القاهرة تطالب بإسقاط كامب ديفيد، إذ يفيد انه "تظاهر نحو خمسة آلاف طالب وطالبة بجامعة القاهرة، مطالبين بضرورة إسقاط اتفاقية (كامب ديفيد)".

المفاجأة في هذا الموقف الثاني المستحضر من الذاكرة السياسية أن "الدكتور محمد مرسي زعيم الكتلة البرلمانية لجماعة (الإخوان المسلمون) والأستاذ بكلية الهندسة جامعة الزقازيق"، كان من بين قادة تلك التظاهرة وممن تقدم المتظاهرين، حسب نص الخبر، الذي يفيد أن الدكتور "محمد مرسي" أشاد بحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، "التي أوجعتالصهاينة في قلوبهم، وأن هؤلاء المجاهدين نجحوا في إيجاد معادلةٍ جديدةٍ للقوة، عندما هاجموا الآلة العسكرية الصهيونية بكل شجاعة وقوة ... وأنه دعا إلى ضرورة إسقاط اتفاقية "كامب ديفيد"، التي لميلتزم العدو الصهيوني بأي من بنودها.

إنه موقف يضحك ويبكي في الوقت نفسه، إذ يكشف عن سخرية الأيام، وعن سخف المنطق السياسي المتبدّل مع الأيام: فإذا كانت حركة مقاومة محدودة قد نجحت حسب تقويم مرسي في إيجاد معادلة جديدة للقوة، فكيف ببلد فيها 90 مليون جلّهم كارهون لكيان "إسرائيل"؟

ثم كيف يتغيّر خطاب المتظاهر عندما يصبح رئيسا؟ كأنه مشهد درامي يجدد قصة "مزرعة الحيوان"، حيث لم يعد بالمقدور تمييز الثوار من المستبدين، وليعذر القارئ على اقتباس التعبير بلغته: ""you can no longer tell which is which

 

هل يستطيع المتابع الآن التميّز بين حكم مبارك البائد وحكم مرسي الثائر من حيث العلاقة مع "إسرائيل"؟ أم أن الأمر في الحقيقة تجديد لمشهد مزرعة الحيوان! بل ربما أمام هذا التداخل والتمازج بين الثورة والانبطاح، قد يحار المرء إذا استعاد مشهد قتل السادات، على من يترحم: على القتيل الذي وقع الاتفاقية أم على القاتل الذي أنكر الاتفاقية.

 

لا شك أن هذين الموقفين يسهمان في كشف طبيعة المشروع السياسي الذي يقوده مرسي في مصر بعد خطف "نصف الثورة المصرية"، وهما كفيلان أن يدقا ناقوس خطر ثقافي للإسلاميين الذين ظنّوا أن مشروع الحكم هو في إيصال "إسلاميين" يتعايشون مع الواقع السابق، بدل بإيصال الإسلام الذي يقلب الأوضاع السابقة جملة وتفصيلا.

وإن لم يكن ذلك كذلك، هل يراهنون على تحريف الموروث الثقافي الرافض للاحتلال؟ وذلك في مسيرة ترويض طويلة، تأسيا بمسيرة أردوغان الذي ظل يجهد في الموازنة بين الإسلام شعارا وبين الرأسمالية-المصلحية تطبيقا، إلى أن تمكّن من تمرير مشاركة جنوده في حلف النيتو الذي يضرب الأمة الإسلامية، مدّعيا أنه يحمل المشروع الإسلامي، وتمكن من تمرير التعاون العسكري مع "إسرائيل" مدعيا أنه حفيد العثمانيين.

 

إن الحقيقة المرة أن موقف مرسي من قضية فلسطين قد تطور عن موقف مبارك، إذ استطاع مرسي أن يغلق الأنفاق وأن يُحكم الحصار، واستطاع أن يطارد الجهاديين في سيناء ويقتّل فيهم في الوقت الذي يسترضي فيه الممثلين وأرباب السينما. وها هو يستطيع اليوم أن يرسل خطابا للبيرز يصفه فيه –بروتوكوليا- بأنه الصديق!

وهنا قد يتكهن المتابع أنه: "إن لم يستطع النظام المصري امتلاك قراره الآن وبحسم لإلغاء الاتفاقية، فإن الكيان الصهيوني على موعد مع جيل جديد في مصر، لن يقبل عندما يصل لسدة القرار أن تبقى الاتفاقية دقيقة واحدة".

والحقيقة المفاجأة في هذا التكهن، أنها مقتبسة من موقع الإخوان المسلمون، من النص المشار إليه أعلاه؟! وهي صادمة لا تحتاج إلى تعليق!

قد يغطس شأن الرسالة والرسول في معمعة مستجدات سياسية قادمة، وقد ينسى الأتباع هذا الموقف المخزي، ولكن المحك قادم، وليس متوقعا على دولة الاحتلال أن تقر لها عين إلا عندما يصافح سفيرها الرئيسَ الملتحي في القاهرة، وقد تحرص على أن تلبسه قبعته الدينية ساعة تسليم الخطاب البروتوكولي، إذا قررت "إسرائيل" يوما أن تبدل السفير كما فعل مرسي، لتنتج صورة لا تقدر عندها بثمن عندما تجمع رأس بلحية ورأس بقبعة يهودية، وهي صورة ذات قيمة تطبيعية كبيرة.

إنه موقف قفز إلى ذهني منذ تسلم مرسي للحكم، على اعتبار أنه يخلع برقع الحياء من الأمة، وكأني ساعتها سأعيد اقتباس هذه الجمل من هذا المقال.

وخاتمة الحديث، أننا إذا حاكمنا أعمال مرسي تجاه "إسرائيل" بالمنطق السياسي الذي يثبته موقع "الإخوان المسلمون"، وبمنطق المتظاهر مرسي لا الرئيس مرسي، فإن النتيجة هي الدعوة إلى تظاهرات ساخطة ضد نظام مرسي المتخاذل.