الغوغائية العالمية.. و الثورات

د.مصعب ابو عرقوب

وقفت وزيرة الخارجية الأمريكية لتلقي ما يشبه الأوامر على " الزعماء الجدد" في دول الربيع العربي،فقالت بلهجة السيد الآمر " إن على زعماء مصر وليبيا واليمن وتونس أن يبذلوا قصارى جهدهم لاستعادة الهدوء ورفض استبداد الغوغاء" ، والغوغاء كلمة يصف بها مفكرو الغرب ونخبهم في معظم الأحيان الشعوب الثائرة ، فقد نقل المفكر الايرلندي الشهير أدموند بيرك عن الثائر الفرنسي قوله: "إن الغوغاء تملأ الشوارع ، علي أن أكتشف إلى أين ستتجه لأني أنا القائد"، ولا يعد تناقض بيرك في مهاجمته للثورة الفرنسية وتأييده للثورة الأمريكية اقل تناقضا من تصريحات كلينتون وسلوك الولايات المتحدة الأمريكية .

 وتظهر جذور ذلك الفكر وتلك العقلية في التعامل مع الجماهير في فكر بيرك  الذي ينعكس في تصرفات وتصريحات كلينتون وغيرها من قادة الغرب  فقد كان بيرك يرى  أن " مطالب الشعب إذا توافقت مع استمرار الحكم والدستور والقانون ومبادئ العدالة والعقل تصبح بمثابة قوانين تقيد الطبقة الحاكمة " ويبدو جليا من هذه الأفكار أن مطالب الشعوب إن لم تتوافق مع " استمرار الحكم والدستور " فان الشعوب الثائرة يمكن أن يطلق عليها " الغوغاء ".

فالشعوب الثائرة ...غوغاء  إن لم تحافظ على مصالح الدول الرأسمالية وقيمها المادية ومنظومة الحكم والدساتير والقوانين  التي تضمن تسلط الرأسمالية الإستعمارية وشركاتها المتوحشة  العابرة للقارات وتبعية الأنظمة الحاكمة في بلادنا وموالاتها للغرب الرأسمالي ، فالثوار إن تعدوا حدود تلك التبعية وطالبوا بأسلوب عيش يختلف عن الرأسمالية و الديمقراطية، أو هبوا للدفاع عن قيم روحية عقائدية لا تعترف بها الرأسمالية المادية   ...الثوار حينها وفي نظرهم  غوغاء مستبدون .

غوغائية واستبداد دعت كلينتون الزعماء الجدد في دول الربيع العربي للوقوف أمامها ورفضها ،  إلا أنها ومع إدانتها للفلم المسيء للإسلام  ووصفها إياه "بالفيلم المقرف والمدان الذي يبدو أن هدفه السخرية الشديدة والإساءة إلى دين عظيم وإثارة الغضب، إلا أنها مع ذلك أضافت أن "الإدارة الأمريكية لا تستطيع السيطرة على إنتاج الشرائط المسيئة أو بثها على مواقع مختلفة على شبكة ألإنترنت..، لا سيما أن حرية التعبير من القيم الأساسية في المجتمع الأمريكي".وقد شاركها الرئيس الأمريكي اوباما في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الإدانة بوصفه للفلم بأنه "شريط فيديو فجّ ومثير للاشمئزاز وعلى النفس المنوال أضاف "إنني أعرف أن هناك بعض الذين يتساءلون لماذا لا يمكننا مجرد حظر عرض هذا الفيديو. الجواب على ذلك مكرس في قوانيننا: دستورنا يحمي الحق في ممارسة حرية التعبير."

وحرية التعبير... قيمة عظمية لدى الولايات المتحدة الأمريكية  !!، والإدارة الأمريكية إذ تحمي " الأفلام المقرفة والمدانة " " الفجة والمثيرة للاشمئزاز "  ولا تستطيع السيطرة عليها فان ذلك يأتي تحت ذريعة احترام قيمها المزعومة والحرص على عدم تجاوزها ، إلا أنها وفي نفس الوقت تطلب من "الزعماء الجدد" في دول الربيع العربي أن يسيطروا على شعوبهم الثائرة التي خرجت من أجل الدفاع عن قيمها الحضارية والروحية التي يسيء لها الفلم المدان ، في تناقض واضح "فج" كثرت أمثاله في تصريحاتهم ...فكيف لدولة لا تستطيع أن توقف فلما تدينه متذرعة بالحفاظ على قيم مزعومة أن تطلب من أمة كاملة أن تتوقف عن محاولة التصدي لهجوم على قيمها وحضارتها؟ ، فهل للولايات المتحدة الأمريكية الحق في الدفاع عن قيمها "المزعومة " ولا حق لأمة أخرى أن تثور للدفاع عن قيمها !!.

والدفاع عن "حرية التعبير " التي تقف حارسا لتلك الأفلام " المقرفة والمدانة "هي مهمة الدولة التي "تحمي الدساتير "  كما أكد اوباما ،فخرج الفلم تحت رعايتها وحمايتها ،  لكن المفارقة تكمن في أن  الشعوب التي ثارت لا تجد لها دولة تحمي قيمها أو تذود عنها عوضا عن نشرها والدعوة لها ، فأتت ردودها عفوية "غير منظمة " على مستوى دولة كالدولة الأولى التي تنظم ردودها وتحمي قيمها وتعمل على نشرها في العالم بطرق "منظمة جدا" لا مجال فيها ....للرحمة.

فالفلم وإن عكس سلوكا " غوغائيا " فإنه لا يمثل إلا نزرا يسيرا من منظومة القيم المادية التي تحميها الدول الرأسمالية المتوحشة وتعمل على نشرها في أنحاء العالم لضمان سيطرتها ونفوذها وحماية مصالحها على حساب الشعوب المظلومة ودماء المساكين والفقراء والمعذبين الذين يكابدون ضنك العيش برسم الخصخصة والعولمة ونشر الديمقراطية و فتح الأسواق وتحرير المرأة ، وغيرها من القيم التي نشرتها بطرق أقل ما يقال عنها أنها  "غوغائية ".

والغوغاء عند العرب "الجراد حين يخف للطيران"، واستعير للسَّفِلةِ من الناسِ والمُتَسَرِّعين إلى الشرِّ ، وصف وان كان قبل ظهور الطائرات بدون طيار التي تنشر القتل والتدمير في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال وغيرها من الدول التي تعاني ويلات الغوغائية الأمريكية...  إلا أنه وصف قد يختزل سلوك الرأسمالية عبر عقود من الزمان استبدت فيها وتسلطت على رقاب الإنسانية في مسلسل من الجرائم والحروب لا ينتهي.

فقد جاب جراد الرأسمالية الجشع العالم نهبا وسلبا وقتلا وتدميرا ، وإشاعة للرذيلة والشذوذ الجنسي والاتجار بالبشر واستغلالا للأطفال كعمال بقوت يومهم في مناجم الشركات الرأسمالية  ، جاء ذلك في ظل تطبيق عملي لمادية ذلك المبدأ الذي جعل من كل شيء سلعة اقتصادية تباع وتشترى ، فلا قيمة  للبشر والشعوب في قاموس ذلك المبدأ ، وإن قضوا بالملايين تحت قنابلهم الذرية في هيروشيما وناكازاكي أو نتيجة لتجاربهم العلمية على البشر ، أو لقنابلهم العنقودية في فيتنام وغيرها من الدول التي ذاقت مرارة الغوغائية الأمريكية والاستعمارية الغربية ، التي أبادت الآلاف  في الهند وإفريقيا واستعبدت الملايين  لتزود مصانعها بالمواد الخام وتسيطر على الموارد الطبيعية لتلك الشعوب الضعيفة .

شعوب كاملة عبر العالم ذاقت ويلات الحروب الأهلية والقتل والتعذيب والإبادة نتيجة تنفذ سفراء الولايات المتحدة الأمريكية  ووكالة استخباراتها وتدخلها لتغير حاكم هناك يخدمها ويذود عن مصالحها ،ليعمل وكيلا لشركاتها وسمسارا دنيئا على ثروات بلده ومقدراتها ، كل ذلك وأكثر ذاقته شعوب أمريكا اللاتينية وإفريقيا وشعوبنا  تحت شعارات نشر القيم " الديمقراطية ..وحق تقرير المصير "، لتصل في قمة غوغائيتها إلى احتلال مباشر لأفغانستان والعراق ، فلم تعد بعد ذلك الإرهاب والقتل والتدمير  أخبار وصور معتقلاتها السرية والطائرة وغوغائية جيوشها وسجانيها في أبو غريب وغوانتاناموا وسلوكهم المشين يشكل أي خدش للذائقة الأمريكية أو الأوروبية  التي تعودت على إهانة الشعوب وسحق البشر ومهاجمة كل القيم والنظر بعنصرية مقيتة لكل من لا يشاركها قيمها المادية المتوحشة .

عنصرية أعمت أبصار القادة في الغرب عن تلمس ذلك الفارق بين الحضارة والغوغائية بين الرقي والمادية بين التضحية والانتهازية بين الإنسانية والوحشية  ،بين الإسلام والرأسمالية المتوحشة ، بين القيم السامية  والشذوذ ، فالشعوب التي انتفضت واحتجت لقيم روحية أرقى من تلك الدول و شركاتها وذلك الجراد المنتشر .

 فالأمة الإسلامية امة متحضرة خرج غنيها وفقيرها للدفاع عن قيم روحانية عقدية ، ولم يخرجوا من اجل النفط والشهوات والنزوات المادية العنصرية التي تقدس الأنانية و الفردية على حساب صلاح المجتمع ورقيه الروحي  ، فأي فكر وأي حضارة تلك التي تخرج الملايين عبر العالم من أجل قيمة " عقدية روحية" غير الحضارة الإسلامية .وأي امة تلك التي تتحرك وتنتفض لقيمها غير الأمة الإسلامية ؟.

 فالشعوب الثائرة افتقرت لحاكم يثأر لها من الغوغائية ، فحكامها وكلاء للغوغائية العالمية أو خائفون منها ، لكن الأمة الإسلامية إذ تشق طريقها الآن عبر ميادين التحرير لتضع قيمها ومشروعها الحضاري موضع التطبيق ، تسير وبخطى ثابتة  نحو عدل الإسلام ورحمته مقابل مادية الرأسمالية وتوحشها  ، لتنقذ البشرية من غوغائية الرأسمالية وتغول جرادها المنتشر في أصقاع الدنيا .. وتقلع جذور الغوغائية من بلادنا لتعود بذلك خير امة أخرجت للناس تحمل العدل والروحانية رسالة للبشرية المعذبة.

وإلى أن يطير الجراد من بلادنا، وتقام دولتنا التي تحمي عقائدنا وقيمنا وتعمل على نشر الرحمة والإنسانية والعدل في العالم كله...إلى أن تقام الخلافة الراشدة الموحدة لجهود الأمة وطاقتها..إلى ذلك اليوم سيظل واجبا على الأمة أن تنتفض... وعلى الثورة أن تستمر.

6-10-2012

د.مصعب أبو عرقوب

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير - فلسطين