قضية فلسطين-11

مهندس اوسلو يعترف

الدكتور ماهر الجعبري

يستكمل هذا المقال عرض مسيرة المفاوضات التي أدت إلى انبثاق مشروع السلطة الفلسطينية كمشروع حكم ذاتي حسب "الرؤية الإسرائيلية"، ويكشف عن الأدوار الفلسطينية المشبوهة، وذلك ضمن سلسلة "قضية" فلسطين.

مع مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، تم عقد مؤتمر دولي للسلام كواجهة شكلية أكدت تفرّد أمريكا بالموقف الدولي بعد حرب الخليج الثانية، فيما كان قادة المنظمة قد انهمكوا في فتح قنوات الاتصالات السرية مع قادة رسميين وغير رسميين في الكيان اليهودي، وكان محمود عباس قطب الرحى في تلك الاتصالات، وكانت هنالك قناة سرية أخرى يتولاها بسام أبو شريف (المفاوضات السرية في أوسلو). ولم يتمخض عن مؤتمر مدريد ما هو أبعد من المشهد "السينمائي".

كان المزاج العام في فلسطين ضد المشاركة في مؤتمر مدريد، وكانت حركة حماس من بين المعارضين بشدة للمسيرة السلمية، وقد وجهت حماس نداء إلى العرب والمسلمين خلال انعقاد المؤتمر الفلسطيني في الجزائر في أيلول 1991 (مجلة الوعي-العدد 54)، وصفت فيه المؤتمر بأنه "مؤتمر لبيع فلسطين"، وانتقدت فيه "تسارع تحركات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ورموزها"، و"دعوة المجلس الوطني الفلسطيني"، "لإعطاء تفويض مفتوح للجنة التنفيذية والمجلس المركزي بالتعامل والمشاركة في (مؤتمر بيع القدس) بنفس طريقة تمرير الموافقة على قرار التقسيم 181 والقرارين 242 و338، بما تتضمنه هذه القرارات الجائرة من اعتراف واضح لا لبس فيه بالكيان اليهودي وبشرعية اغتصابه لأرضنا المباركة"، وأكدت أن "أحداً كائناً من كان، مجلساً أو منظمة أو دولة أو فرداً، لا يحق له أبداً التنازل أو التفريط بأي جزء من فلسطين أياً كانت الظروف والأحوال"، وهو موقف قوي في حينه، وهو جدير بالاستحضار لاحقا خلال هذه السلسلة، عند متابعة تطورات المشهد الفلسطيني الحديث.

صحيح أن مؤتمر مدريد فتح المجال لتصاعد طرح حل الدولتين من جديد (إذ إنه استند لمبدأ الأرض مقابل السلام وللقرارات الأممية ذات الصلة)، وصحيح أنه تضمن قبول بريطانيا وأوروبا بتلك الرؤية المتجددة، ولكن ذلك الطرح ظل على المستوى النظري، ولم يتضمن برنامجا عمليا للتحقيق. ويمكن القول أن المشروع الأميركي القائم على حل الدولتين هيمن على الطرح السياسي النظري في العالم مطلع التسعينات من القرن الماضي، مع اختلافات بين القوى الفاعلة حول تفسيره، وحول الأدوات والأساليب لتحقيقه.

أما "إسرائيل" فقد ظلت مسكونة بتطلعاتها الصهيونية التوسعية، وظلّت رافضة لأي معنى من معاني الدولة الفلسطينية، حتى ولو كانت مسخا، ويبدو أن محاولات المنظمة لفتح قنوات اتصال سرية مع الليكود لم تجد نفعا، ويؤكد السفير الفلسطيني شلايل وجود محاولات لتواصل المنظمة مع حزب الليكود في أوائل كانون الأول 1992، في محاولة لفتح قناة خلفية للمفاوضات المتعثرة في واشنطن (المفاوضات السرية في أوسلو). ولذلك كان القادة الأمريكان يغازلون "إسرائيل" في الأجواء الانتخابية، كما حصل مع بيل كلينتون الذي تعهد خلال حملته الانتخابية لإسرائيل، بالتزام معارضة قيام دولة فلسطينية مستقلة، وذلك في خطاب ألقاه في 30/06/92 (مجلة الوعي-العدد 63).

ومارست "إسرائيل" التفاوض على كافة المستويات باسترخاء مع مماطلة لعرقلة التقدم في الجوانب الحساسة، ونقل عن شامير قوله في 26/06/1992 بأنه لو انتخب مجدداً "لدامت مفاوضات الحكم الذاتي الفلسطيني عشر سنين يستوطن خلالها نصف مليون إسرائيلي" (مجلة الوعي-العدد 63). لذلك حرصت "إسرائيل" في المفاوضات –ضمن المسارات الأخرى- على الجوانب التي تخدم تطلعها للاختراق الاقتصادي لبلاد المسلمين، وظلّت تستهدف كسر حاجز المقاطعة الاقتصادية مع الدول العربية.

ومع منتصف العام 1992 تراجع الليكود عن واجهة الحكم، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة إسحق رابين زعيم حزب العمل الذي يتوافق سياسيا مع أمريكا (التي سخّرت نفوذها  لإيصاله لرئاسة حزب العمل). وكان رابين على تواصل سرّي مع قادة المنظمة منذ العام 1989 كما كشف محمود عباس، وقد بيّن في كتابه طريق أوسلو كيف حاولت القيادة الفلسطينية المساعدة في فوز رابين. وذكر عباس أن سعيد كنعان (من حركة فتح في نابلس) أبلغ شخصية كبيرة من حزب العمل مقربة من رابين رسالة من القيادة الفلسطينية في 10/4/1992 تضمنت: "نحن مسرورون من برنامجكم الانتخابي، ماذا تطلبون منا لنقدمه إليكم، ونحن مستعدون لعقد اتفاق".

وبيّن عباس أن رابين نفسه حضر ذلك اللقاء، وحمّل كنعان رسالة مفادها أنهم جادون، ويؤكدون على أهمية الحفاظ على سرية الاتصالات عبر هذه القناة دون غيرها، وعلى متابعة الرسائل، وأنهم يفترضون أن الاتصالات تجري بعلم ياسر عرفات، وهو ما عاد سعيد كنعان ليؤكده عبر ردّ حمله بعد عشرة أيام.

وبعد فوزه بالانتخابات، أعلن رابين أنه سيعطي المناطق ذات الكثافة السكانية في الضفة والقطاع حكماً ذاتياً فعلياً، مؤكدا بذلك تماشيه مع الاتصالات السرية السابقة للمنظمة مع قيادات حزب العمل ورابين منذ العام 1989

بعد تشكيل حكومة رابين، أحكمت "إسرائيل" قبضتها على فلسطين، وقامت في نهاية عام 1992 بإبعاد 415 عضوا من حركة حماس إلى منطقة الشريط الحدودي في جنوب لبنان، وذلك في سياق محاولاتها للقضاء على الانتفاضة، مما فجر غضبة شعبية، اضطر أمامها الوفد الفلسطيني (العلني) لقطع مباحثات السلام، فيما كانت قيادة المنظمة منشغلة بالقنوات السرية.

ولم يكن الوفد الفلسطيني الرسمي، الذي ظل يخضّ الماء مع الوفد "الإسرائيلي" منذ العام 1991 حسب الترتيبات الأمريكية، يعلم بما يجري خلف الستار من مفاوضات مباشرة سرية أشرف عليها ياسر عرفات وهندسها محمود عباس، وهي التي استمرت حتى عندما علّق الوفد الفلسطيني المفاوضات العلنية بعد إبعاد مئات الفلسطينيين إلى مرج الزهور.

ويسرد محمود عباس تفاصيل تلك الاتصالات السرية في كتابه طريق أوسلو، ويبين أن بداية طريق أوسلو الفعلية تعود لاتصال قام به أبو علاء نهاية 1992 مع هيرشفيلد عضو حزب العمل، ومن ثم حمل أبو علاء تقريره إلى عرفات في تونس فأحاله إلى عباس، وتم إقرار الاتصالات، وبدأت القناة السرية التي تمخضت عنها اتفاقية اوسلو، وتم ضم كل من حسن عصفور وماهر الكرد خشية أن يتحمل أبو العلاء المسؤولية لوحده. وتلك الخشية تكشف عن مستوى الجريمة، وعن مشاعر كامنة بخطورة العاقبة!

وحصلت 12 جولة من المفاوضات في مدينة ساريسبوغ البعيدة عن الأنظار في النرويج بدأت مطلع 1993، ويذكر عباس أن المفاوضين "الإسرائيليين" أكدوا أن الأولوية لديهم للمسار الفلسطيني، ثم المسار السوري، وتحدثوا عن "عدم الوصول إلى اتفاق مع وزير الخارجية الأمريكية كريستوفر حول 242، 338"، ومن ثم أبدوا رغبتهم أن يتم التنسيق فقط عبر قناة أوسلو.

ويذكر عباس أن نائب الوزير النرويجي لارسون اتصل تلفونياً بالقيادة الفلسطينية في نيسان 1993 وأبلغهم عن تفويض المفاوضين الإسرائيليين رسميا من قبل رابين الذي يعتبر منظمة التحرير الفلسطينية أهم شريك. ومن الجدير ذكره أن عبّاس بيّن أنه منذ الجولة الثامنة للمفاوضات برزت "تصريحات متشائمة من قبل القيادة الفلسطينية للتغطية على المفاوضات السرية".

وتم الاتفاق أخيرا بعد اتصال هاتفي مطول دام لسبع ساعات، جمع كل من عرفات وعباس وياسر عبد ربه وأحمد قريع وحسن عصفور من جهة في تونس، بينما كان على الخط الآخر في ستوكهولم شمعون بيريز ووزير خارجية النرويج، وفي تل أبيب إسحاق رابين. أما سقف أو هدف المفاوضات بين الجانبين، فأكد عباس أنه محدود في "التوصل إلى اتفاق لإقامة سلطة حكم ذاتي انتقالية لفترة مرحلية تؤدي إلى تسوية دائمة على أساس قراري 242، 338"، وقد نص الاتفاق على "إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية" (اتفاقية أوسلو (إعلان المبادئ- حول ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية) 13/9/1993)

وعلى الرغم من أن محمود عباس يذكر أن أمريكا علمت بتلك المفاوضات السرية، وأن الوفد الفلسطيني في أوسلو فهم أن الأمريكان على اطلاع بهـذه القنـاة علـى مستـوى وزيـر الخارجيـة، ويذكر عباس أن نائب الوزير النرويجي لارسون اتصل تلفونياً بالقيادة الفلسطينية في نيسان 1993، وأبلغهم بإطلاع الأمريكان على وجود القناة، وأن الأمريكان يرغبون بأن تظل أوسلو هي القناة، ومع ذلك فيذكر عباس أن زينغر المفوض من رابين ذكر في الجولة السادسة من المفاوضات التي حصلت في أيار 1993، أن "التسريبات التي تظهر في الصحف يقف ورائها بعض المسئولين في الإدارة الأمريكية، والتي هُمشتْ جهودها، حيث مضى عامان في التفاوض في واشنطن دون نتائج"، وهذا الحديث عن التهميش للأمريكان يشير إلى أن مفاوضات أوسلو لم تكن أمريكية الرعاية. والراجح في تحليل الموقف أن أمريكا تفاجأت بتلك المفاوضات، وأن بريطانيا تمكنت من خلال قناة اوسلو من إسناد التفاوض إلى مرجعيتها السياسية، إذ أرادت الالتفاف على الجهود الأمريكية وعرقلة مشاريعها، وذلك بالتنسيق مع حكومة حزب العمل في "إسرائيل". واضطرت أمريكا لمباركة ذلك الاتفاق حتى لا تخرج اللعبة من يدها، رغم أنه خالف أساس تلازم مسارات الحل السلمي الذي قررته منذ مؤتمر مدريد. (وقد كشف بعض الساسة الأمريكان عدم علم أمريكا بتفاصيل اوسلو ضمن تصريحاتهم بعد سنوات، فمثلا نقلت جريدة الشرق الأوسط في 27/5/1998 عن ريتشارد ميرفي مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق قوله: "إن الإدارة الأميركية لم تكن على علم بتفاصيل ما كان يدور في أوسلو الأمر الذي خلق لها صدمة قوية عندما تمّ الإعلان عن تحقيق نتائج إيجابية هناك").

وقّع محمود عباس على اتفاقية إعلان المبادئ عن الفلسطينيين، وهو يصفه أنه لا يختلف عن الخطة التي قدمها رابين في العام 1989 (عبر القنوات السرية)، ويستنتج عباس من وجود التوافق بين خطة رابين تلك وبين رسالة التطمينات الأمريكية "أن هنالك تنسيقا كاملا في الأفكار والمشاريع بين الأمريكان وهذا الحزب" (والأدق تعبيرا أن نقول بين أمريكا ورابين في هذا الحزب).

وقد كان عباس أسّ الحل السلمي والقوة الدافعة لاتفاقية أوسلو، لذلك يوصف بأنه مهندس أوسلو، وتعرفه صفحة الغلاف الخلفية لكتابه بأنه "بكل بساطة الراعي والمهندس والموقّع". وتنقل بعض المصادر التوثيقية (الإسرائيلية) أنه كان قد باشر مسيرة التفاوض مع "الإسرائيليين" منذ العام 1970(Biography - Mahmoud Abbas)، كما يعترف هو نفسه في كتابه.

ولذلك لا يمكن المرور عن مفاوضات أوسلو دون التأكيد على أن عباس يتحمل الجريمة التاريخية من الدرجة الأولى بحق قضية فلسطين، ويتحمل أمام الأمة جريمة اختزال قضيتها من مشروع تحرر إلى مشروع حكم ذاتي تحت الاحتلال، وخصوصا أنه أقرّ في كتابه أنه رفع شعار الاتصالات السياسية مع اليهود منذ سبعينات القرن الماضي (عندما كان الجميع يعتبرها خيانة). وإذا كان عباس اليوم يترأس السلطة والمنظمة وحركة فتح ويحمل الكثير من الألقاب الرئاسية مما يظنّه الجاهل رفعة مناصب، فإن التاريخ سيختم على صفحته بالعار، وسيدوّن تحت صورته أبشع الأوصاف. وبالطبع يشارك مع عباس في إثم تلك الجريمة التاريخية كل قادة المنظمة الذين شاركوا وباركوا جهوده، والذين قادوا مسيرة التآمر السياسي لإيصال المنظمة إلى تلك الدرجة من الانبطاح، وعلى رأسهم ياسر عرفات.

وبذلك الاتفاق المخزي الذي قرر "الحكم الذاتي المحدود" في "غزة وأريحا أولاً"، تحمّلت المنظمة مسئولية تنظيف أوساخ الاحتلال وإبعاده عن مواجهة الناس، وتكفّلت بمهمة قمع الناس تحته، إضافة إلى أنّها أعفت الاحتلال من التبعات المالية لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية وكافة الشؤون الإدارية، ولذلك أخذت مهمة تسهيل شؤون الاحتلال لتجعله نظيفا ورخيصا.

ولم تقنع "إسرائيل" بتخاذل قادة المنظمة وانبطاحهم، بل زادت من قمعها كي تقضي على الانتفاضة، وترافق ذلك مع عربدة المستوطنين الذين استأسدوا على الناس العزّل في ظل تقاعس رجالات المنظمة وتآمرها، فارتكب باروخ جولدشتاين مذبحة المسجد الإبراهيمي في العام 1994 ضد الآمنين الركع السجود في جمعة رمضانية مباركة. وأراق جولدشتاين دماء العشرات من المصلين في صلاة الفجر (مذبحة الحرم الإبراهيمي)، ليجدد بها سيرة آبائه من المجرمين الذين ولغوا في دماء المسلمين في دير ياسين وغيرها من المذابح التي أقاموا من خلالها كيانهم المجرم.

وفجّرت جريمة جولدشتاين النكراء موجه جديدة من الغضب والتحدي في فلسطين. وكانت حركتا حماس والجهاد الإسلامي بعيدتين -في حينه- عن أجواء المنظمة وعن لغة الحلول السلمية وعن ساحة العلاقات الدولية، رغم المحاولات المبكرة لجر حركة حماس نحو الدخول لمستنقع المنظمة حيث تم دعوتها للمشاركة في اجتماعات تونس (نهاية 1992 – مجلة الوعي-العدد 68).

وكانت تلك المجزرة شرارة أشعلت روح الجهاد، وفجّرت العمليات، التي بدأت باكورتها في نيسان 1994، عندما تقدّم أحد الرجال بسيارة ملغومة كان يقودها نحو حافلة "إسرائيلية" وصدم بها في مدينة العفولة. وأعلنت حركة حماس أن العملية جاءت حلقة في سياق الرد على مذبحة المسجد الإبراهيمي. وتتابعت من بعدها العمليات الجهادية (قائمة بالعمليات الفدائية الفلسطينية) مما أوقع الرعب في صفوف اليهود، وأربكت كيان المحتل.

وهكذا تزامنت انطلاقة مرحلة اوسلو مع حالة جهادية قوية، ومع رفض عارم لنهج الاستخذاء الذي مارسته المنظمة، واستبشع الناس قيادات المنظمة، بل نقلت بعض وسائل الإعلام في حينه اعترافات صريحة لبعض قادة المنظمة حول جرائمها:

منها الرسالة التي بعثها اللواء نعيم الخطيب، أحد قادة جيش التحرير الفلسطيني، إلى ياسر عرفات بتاريخ 24/06/1993، والتي اتهمه فيها بالخيانة، وذكّر الخطيب عرفات برفض طرحه للمشروع السلمي قبل أربع سنوات (أي في العام 1989، وهي الفترة التي تتوافق مع وجود قناة اتصال غير مباشرة حول مشروع رابين كما كشف محمود عباس).وتحدث الخطيب أنه خاطب عرفات في حينه مبينا أن الحلول المطروحة التي يلهث عرفات وراءها "لا تجعل منك مختاراً في فلسطين".

ومن تلك الاعترافات ما نقلته مجلة فلسطين المسلمة في تشرين الثاني من العام 1994 عن رفيق النتشة خلال جلسة مكاشفة مع خالد الحسن حيث تحدثا عن خداعهم للشعب، ونقلت قول النتشة: "نحتاج إلى مثل أعمارنا من السنين لنقضيها في استغفار الله عمّا فعلناه من تضليل لشعبنا خلال المسيرة الماضية"، وأيد خالد الحسن ذلك وقال: "وسوف تكون نعمة كبيرة بعد ذلك كلّه إذا غفر الله لنا ذلك".

بل ذكرت جريدة السفير في 30/09/1992 أن محمود عباس واجه عرفات بالحقيقة، وذلك خلال اجتماع المجلس الثوري لحركة فتح في أيلول 1992، عندما افتتح عرفات الاجتماع –كعادته الاستعراضية- بخطاب فخم العبارة عن التمسك بالحقوق الوطنية، ومنها الأرض، بينما أكّد محمود عباس ضرورة المصارحة بالقول "من واجبنا ألا نكذب عليكم، وأن نصارحكم بالحقيقة ... والحقيقة أننا إنما نحاول فقط تحسين صورة النتائج التي نعرف أنها غير مرضية، وأنها تكاد تكون في مستوى الخيانة الوطنية، ولكنها أقصى ما أمكننا الحصول عليه. إن السقف واطئ أصلاً، ونحن نفاوض تحت هذا السطح المفروض، وليست لدينا القدرة على رفعه، لذا فنحن نحاول فقط ألا ينزل أكثر فنغطس تحته، لكن علينا أن نتخلص من الأوهام، وأن نكون واقعيين، فما سوف نتوصل إليه سيكون مرفوضاً ولا بد لنا مع ذلك أن ندافع عنه"، وتذكر السفير في حينه أن عرفات قد اهتاج وتوجه إلى عباس يسأله باستنكار: هل تتهمني بالكذب؟! هل تشكك في وطنيتي؟!

إن هذه الحادثة في المجلس الثوري لحركة فتح تلخص مشهد أوسلو، وتؤكد أن مهندس أوسلو كان صريحا في وصف النهج بأنه يصل "مستوى الخيانة الوطنية"، بينما ظل عرفات يمارس دور البطولة الزائفة، وعباس قد اعترف في كتابه طريق أوسلو بكثير من التفاصيل السرية التي حولت القضية من مشروع تحرر إلى مشروع حكم ذاتي، وهي تكفي لإحداث زلزلة سياسية عظمى في فلسطين لو كان هنالك بقية من وعي لدى المروّجين للمشروع الوطني. وهي كفيلة بإثارة العديد من علامات الاستفهام في أذهان أتباع حركات المقاومة التي ترفع شعار الإسلام والمقاومة بينما تقبل (اليوم) تفويض عباس لاستكمال تلك المسيرة المخزية من المفاوضات.