اليورو والتحديات..

بقلم حمد طبيب

 

الوحدة النقدية الأوروبية (اليورو) هو عبارة عن إحدى الخطوات المتقدمة والمهمة -بعد مؤتمر ماستريخت سنة 1992- على طريق الوحدة الاقتصادية الشاملة، وهي في نفس الوقت خطوة مهمة وضعها الأوروبيون كجسرٍ للمرور على طريق الوحدة الأوروبية السياسية -بعد تحقق الاتحاد الأوروبي لكثير من دول أوروبا- والتي تداعب خيالهم عبر سنوات طويلة مضت..، فهل يبقى هذا الجسر ممدوداً وممهّداً أمام دول الاتحاد الأوروبي للعبور نحو مشروع الوحدة الكبير، أم إن هذا الجسر يترنّح الآن يوشك أن ينقطع بمن عليه من دول، وبما تحمل من طموحات ومشاريع عريضة ؟!

وقبل أن نجيب عن هذا السؤال نقول: لقد كان الهدف والدافع من إنشاء منطقة اليورو ابتداء هو بناء قوّة اقتصادية عالمية قادرة على المنافسة الدولية وتحمي دول الاتحاد عالمياً، وتساعدها أيضا في دعم اقتصادها الداخلي، وفي نفس الوقت تدعم الصناعات الأوروبية وتدعم التصدير، وتشجّع رؤوس الأموال والبضائع للتنقل بسهولة داخل هذه القوة الاقتصادية الموحدة.

 وقد زادت الحاجة لهذا الاتحاد -أو الوحدة الاقتصادية- أكثر من أي فترةٍ مضت بعد خروج الدول الأوروبية من ساحة الحرب العالمية الثانية محطّمة القوى، منهكة الاقتصاد، تمدّ يدها إلى الولايات المتحدة من أجل إنقاذها وبناء ما دمرته الحرب، وفعلاً قامت الولايات المتحدة بمساعدتها في خطة (مشروع مارشال الشهير) لإعادة إعمار أوروبا، ثم أصبحت الحاجة ملحة أكثر وأكثر بعد بروز التهديد الشيوعي وامتداده نحو دول أوروبا، حيث وضعت أوروبا نفسها تحت جناح الولايات المتحدة الأمريكية لتفادي هذا الخطر الداهم ..

والوحدة النقدية هي خطوة مهمة على طريق هذه الوحدة الاقتصادية تدعم كل مظاهر الوحدة الاقتصادية وأدواتها ومؤسساتها؛ من سوق أوروبية مشتركة، أو بنك مركزي أوروبي، أو صندوق إقراض أوروبي، أو معاهدة التعرفة الجمركية، أو معاهدة حريّة تنقل البضائع .. أو غير ذلك من وسائل ومؤسسات أوروبية ..

لقد قامت الدول الأوروبية بخطوات مهمة بعد معاهدة (ماسترخت) والتي تعد الخطوة المهمة في خطوات إنشاء منطقة اليورو ووضعت شروطا للانضمام لهذه المنطقة من هذه الشروط: -

 1- اختيار تقلبات سعر صرف العملة للدولة المنضمة للوحدة النقدية- خلال سنتين على الأقل- بحيث تكون في نطاق التقلبات لنظام الصرف الأوروبي، وهذا يسمى استقرار سعر الصرف للعملة . 2- أن لا يتعدّى معدّل التضخم للدولة 1.5، وأن لا يزيد في المستقبل عن متوسط معدلات التضخم لأقل ثلاث دول أعضاء تضخماً. 3- أن لا يزيد معدل العجز في الميزانية عن 3% من إجمالي الناتج المحلي. 4- أن لا يزيد حجم الدين العام للدولة عن 60% من الناتج الإجمالي. 5- أن لا يتجاوز سعر الفائدة طويلة الأجل عن متوسط معدل أسعار الفائدة في ثلاث دول تشهد أقل معدلات التضخم.

لقد كان لهذه الشروط الأثر البالغ في نشوء المشاكل عند بعض الدول كاليونان والبرتغال وايطاليا وغيرها...

حيث قامت اليونان بالاقتراض من بنوك خارجية مئات المليارات من الدولارات من أجل تحقيق هذا المستوى العالي أملاً منها في تسديد هذه الديون بسبب التحسّن المتوقع نتيجة انضمامها لمنطقة اليورو، لكن النتائج الاقتصادية لم تكن على قدر توقعات هذه الدول، فلم يتحسن أداؤها الاقتصادي بالدرجة المتوقعة، ثم جاءت مرحلة الأزمة المالية العالمية سنة 2008 وتأثرت منطقة اليورو بها وتكبّدت مليارات الدولارات، فزاد الطين بله وأصبح هناك يأس من سداد الديون، وأوشكت اليونان على إعلان الإفلاس تحت ضغط مطالبة البنوك المقرضة بديونها واستحقاقات هذه الديون من الفوائد !!

لقد وقعت الدول الأوروبية في منطقة اليورو بالتحديد وفي دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام في أزمة خطيرة بعد بروز مشاكل اليونان واقترابها من الخط الأحمر للإفلاس وقرّرت -بعد مشاورات واجتماعات عدة- أنه لا بد من علاج لهذا الأمر وتحمّل أعباء ديون هذه الدول عن طريق الجدولة وعن طريق فرض شروط قاسية في برنامجها الاقتصادي، وفعلاً هذا ما بدأت به دول منطقة اليورو حيث بدأت بمعالجة مشكلة اليونان عن طريق الإقراض وجدولة الديون من البنك المركزي الأوروبي، والبدء بإنشاء صندوق إقراض أوروبي، وعن طريق الطلب من حكومتها إعلان حالة شديدة من التقشف في الإنفاق؛ حيث بلغ مجموع ما أقرضته دول منطقة اليورو لليونان حوالي (300 مليار دولار) ولكنها حتى الآن لم تتقدم في موضوع العجز وارتفاع سلم الديون، بل على العكس جاءتها مشكلة جديدة هي مواجهة الجماهير الصاخبة المنادية بإسقاط الحكومة، وهناك شبه يأس من حل مشكلة اليونان، وبعض الخبراء الاقتصاديين يقول: بأن إفلاس اليونان هو أمر محتوم، وبالتالي خروج اليونان من دائرة اليورو وتهديدها لباقي المنطقة بالتفكك والانحلال، ومن هؤلاء الاقتصاديين: (كارل هايتر) (مدير وكالة إدارة الديون الألمانية (هايتر داوب) حيث قال:  إن إيقاف الاتحاد الأوروبي لآلية إنقاذ اليونان وتركها تسقط في الإفلاس يمثل الخيار الأفضل، وذلك لمنع حدوث انهيار مالي واقتصادي في البرتغال وإسبانيا وإيطاليا التي تتحمل بنوكها 280 مليار يورو من إجمالي الديون اليونانية!!،  وذكر (معهد ستراتفور) الوثيق الصلة بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وذكرته صحيفة (بيلد تسايتونع) الألمانية 2011: أن أوروبا لن تكون قادرة على إعلان إفلاس اليونان وإخراجها من منطقة اليورو إلا إذا أسست مسبقاً صندوق الإنقاذ الجديد بقيمة تريليوني يورو وهذا محل خلاف كبير بين الدول- وخاصة ألمانيا وفرنسا - وبرلماناتها وشعوبها، وقال: إن إعلان إفلاس اليونان دون الاحتياط منه ستكون له توابع مدمرة وسيتسبب بانهيارات في بنوك البرتغال، إسبانيا، إيطاليا !!.

لقد بدأت أزمة عالمية قبل أن ينهار اليورو بسبب تحذيرات وتوقعات الخبراء، حيث أثرت على البورصات العالمية وأسعار السلع الإستراتيجية كالبترول والذهب، فكيف إذا حصل الأمر عملياً، وكيف إذا كان هذا الحدث في ظلّ أزمة لم تنته بعد من العالم، وكيف إذا كان هذا الأمر يتعلق بعملة عالمية تستحوذ على حوالي 40% من أموال الاحتياط النقدي، وتتعامل بها البورصات والشركات والبنوك في كل أرجاء الأرض ؟!

إن انهيار اليورو لا يقل خطراً عن انهيار الدولار في هذا الظرف السيئ، وإن آثاره ستضرب أول ما تضرب اقتصاد الولايات المتحدة بعد أوروبا، وبالتالي ستؤدي إلى نتائج خطيرة على الاقتصاد الأمريكي بسبب الارتباط الوثيق بين الاقتصاديين في الاستيراد والتصدير، وفي تداخل أعمال البنوك والبورصات، ولا نبالغ إن قلنا: أن انهيار منطقة اليورو سيكون وقعه عظيما في كل العالم، أي سيؤدي إلى أزمة عالمية لا يمكن إطفاؤها والسيطرة عليها، وستصيب العالم بأزمة عالمية ثالثة هي أشد من أزمة سنة 1929، وربما تؤدي إلى انهيار النظام الرأسمالي برمته بالإضافة إلى تفكك دول الاتحاد الأوروبي كما كانت قبل سنة 1992، وسيوجه ضربة كبيرة للولايات المتحدة ولاقتصادها لا تستطيع السيطرة عليها ولا معالجتها!!..

وإن هذا كله يذكرنا بالإرشاد الرباني وهو يقول:

{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }109- التوبة

{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }55-التوبة -  صدق الله العظيم

 

23-10-2011