قضية فلسطين في زمن الثورات
الدكتور ماهر الجعبري
 
توجه نتياهو إلى روسيا، فجدد وزير الدفاع الأمريكي الحديث عن بعث حل الدولتين، وليس مستغربا أن تتغافل بعض القيادات الفلسطينية عن سراب الحراك الكاذب فتجتر خطابها القديم الذي عفى عليه زمن الثورات، وليس مستغربا أن تعيد اللعب على حبل الدولتين الذي صار واهنا كخيط العنكبوت حتى قبل زمن الثورات هذا، وخصوصا عندما ظل كيان الاحتلال اليهودي يوجّه الصفعة تلو الأخرى لأنظمة عربية مهترئة، ظلّت تفرد عباءتها لستر عورة السلطة الفلسطينية وقادتها، كلما انكشفت تلك العورة أمام عنجهية نتياهو وعصابته، وكلما أشارت شقراء البيت الأبيض العجوز لهم أن يجتمعوا، لإعطاء المفاوضات فرصة أخرى وأخرى وأخرى، ورئيس السلطة الفلسطينية يهدد أنه سيستقيل ثم ينسى ما مضى وكأن شيئا لم يكن. إن هذا الموقف يدفع للتساؤل: أين هي قضية فلسطين في الخطاب الفلسطيني مع غليان الأمة الذي يتفجّر حتى في بلاد القمع العتيقة مثل سوريا وليبيا ؟ وهل تنخدع الفصائل الفلسطينية من جديد بتحركات دولية تحاول بعث الأموات على طاولة المفاوضات ؟
 
خلال العقود الماضية، كانت هنالك شعارات "ثورية" تسمّت باسم فلسطين في زمن استقرار الأنظمة وركون الشعوب، وكان قادتها يتفاخرون على العرب بأنهم "ثورّيون"، وكانت هنالك منظمة وحركات تسمت باسم "التحرير" وأسست مجلسا "ثوريا !" في زمن الانبطاح العربي وزمن التخلي عن قضية فلسطين.
 
واليوم تجتاح الأمة ثورات تحطّم كل حواجز الضعف والصغار، وتهتف في ميادين "التحرير" وهي تسعى للتحرر من الدكتاتوريات، بل وتتشكل مجالس عسكرية لا مجرد مجالس ثورية، فأين هي مفاعيل "الثورة" في فلسطين وفي الخطاب الفصائلي وفي تحركات قادتها ؟
 
إذا تعاملنا مع السؤال على أساس الاستفهام لم نجد جوابا، لأن الفصائل لا زالت تحصر قضيتها في إنعاش "سلطة" (انقشع عنها زمن "الثورة")، ولا زال سقف الخطاب الفصائلي محكوم بشعار "إنهاء الانقسام" بين غزة ورام الله لترميم بناء "السلطة"، أمّا الظهر المقسوم في يافا وعكا، فهو خارج معاني الانقسام، لأن الانقسام الذي يدور الشعار حوله هو انقسام السلطة لا انقسام الأرض والناس، ولأن الأرض لا زالت وحدة واحدة تحت الاحتلال، ولأن الناس وحدة واحدة تحت قمعه وتنكيله.
لا شك أن الشعارات التي ترفعها التحركات الفلسطينية لا زالت أسيرة المرحلة البائدة، ولا زالت تسبح مع خيوط الشبكة التي حاكتها القوى الغربية، وهي تتحدث عن "سلطة" فلسطينية تنبثق من جسم الاحتلال الخبيث، وتعيش طفيلية على وحل عام 1967، أما أرض طبريا وصفد وبئر السبع فهي خارج الخطاب السياسي وخارج البرامج الفصائلية، بعد تبني المرحلية في زمن الخنوع العربي الذي يولي هاربا.
 
إن الدفع باتجاه حل الدولتين وفرضه كساحة ووحيدة للحراك، ليس مستغربا على أمريكا التي حركت هذا العرض السياسي طيلة العقود الماضية، بعدما كسرت العراق في حرب الخليج الأولى التي حشدت أمريكا فيها جيوشا من مصر وسوريا والخليج، كما يفعل الغرب اليوم في حشده ضد ليبيا. 
 
هذا الدفع السياسي الأمريكي ليس مستغربا على أمريكا الرأسمالية، ولكن المستغرب اليوم هو لغة الخطاب لدى فصائل وقوى "الممانعة" عندما تتحدث عن التهدئة في زمن الثورة، وعندما تسعى لإنعاش السلطة التي تمخضت عن اتفاقيات الذل، ولم تتفطن إلى أن السقف الذي بنته الأنظمة فوق رؤوس القيادات الفلسطينية قد انهار مع ثورات الشعوب، بل وانهارت معه الأجهزة الاستخبارتية التي رسمت مخططاته.
 
والمستغرب أيضا أن تتحدث بعض القيادات عن ورقة مصالحة تحول كاتبها إلى كهوف النسيان، بل تحول بعض أصحابه إلى غياهب السجون بتهمة قتل الثائرين في القاهرة. نعم لقد غاب عمر سليمان عن المشهد السياسي ولا زالت بعض الفصائل تتحدث عن ورقته، ولقد سقط مبارك، ومع ذلك انحصرت مطالب بعض القيادات الفلسطينية في فك الحصار عن غزة، ولم تعلي الصوت لإبطال اتفاقية كامب ديفيد، وإعادة سيطرة جيش مصر على سيناء ليتحرك نحو فلسطين، فهل تتناسب هذه المطالب مع خطاب "ثوريّ" يتردد في أرجاء الأمة ؟
 
إن الزمن هو زمن انتفاضات الأمة بينما تتحدث بعض القيادات الفلسطينية أنها ستمنع أي انتفاضة بالقوة!
 
إذن، إنه زمن الثورة إلا لدى الفصائل "الثورية" ... وإنه زمن التحرر، إلا لدى حركات "التحرر" ... وإنه زمن التمرّد إلا لدى "المناضلين" القدامى... فأي تناقض في المشهد هذا الذي نعايش !
 
ويتضمن القاموس الفلسطيني وجود أعضاء في المجلس "الثوري"، فأي معاني الثورة تلك التي يحملها أولئك الأعضاء وهم صامتون خانعون بينما يتشكل تسونامي من الثوار؟ وإن لم نلمس لديهم إلا الإصرار على اللهث خلف سراب المفاوضات التي تجاوزها الزمن فحق أن نسمي مجلسهم بالمجلس التفاوضي لا الثوري. وطالما أن منظمة التحرير قد تخلت عن قيمة التحرير في زمن التحرر من الكبت، فحق أن نعيد تسميتها بمنظمة التفاوض، كما سبق وأن اقترحتُ إعادة اختصار تسميتها بأحرف (PNO) بدل (PLO)، ليدلل الاسم على الرسم لذلك النهج التفاوضي الأوحد لدى تلك القيادات، بعدما اختطفت القضية من أصحابها وحشرتها في أزقة المفاوضات التي لا تنتهي.
 
واليوم تجد الفصائل الفلسطينية التي ترتع في دمشق أنفسها –رغما عنها- على المحك وحناجر الثائرين في درعا تصرخ للتحرّر وتتضرع إلى الله ضد حاكم سوريا وعصاباته، فهل تجدّف فصائل "المقاومة" ضد الثائرين من الأمة؟
 
ليس ثمة تغيّر ملموس لدى خطاب الفصائل الفلسطينية يواكب زمن الثورات المتفجرة، وإن لم تستدرك أبناء تلك الفصائل ثوابت الأمة وثوريّة خطابها في هذا الواقع الجديد الملتهب، فلا شك أنها ستجد أنفسها حماة لقيادات بائدة تجدف بعكس تيار الزمن، كما وجد أصحاب موقعة الجمل أنفسهم في القاهرة في مشهد سخيف.
 
هذا الزمن المنتفض لن يرحم المترددين، وهذا الزمن الملتهب لم يبق فرصة لمن يلعبون حسب قواعد أمريكا، فهي كانت منشغلة في قضايا عدة قبل انفجار الثورات ولم تُعر ملف قضية فلسطين اهتماما جادا، فكيف بها اليوم وهي تزداد انشغالا في محاولة ضبط الأرض التي تتحرك تحت أقدام خدامها من الحكام ؟
 
إن كل ما حاولت أمريكا فعله في الماضي هو أن تبقي أوراق الملف بأيديها كلما تحرّك طرف دولي في محاولة لتسلّم زمام المبادرة، ولذلك عندما يتوجه نتياهو إلى روسيا تتحرك شفاه الأمريكان تذكّر بأن حل الدولتين الذي طرحته منذ منتصف القرن الماضي هو الساحة الوحيدة للحراك الدولي، ويجب أن يكون تحت رعايتها دون غيرها. ولكن أمريكا تتراجع اليوم، ونفوذها ينحسر مهما حاولت من إطالة أعمار الأنظمة المتهافتة.
 
وفي المقابل فإن الأمة تتقدم بعنفوان متحدّية جبرية الأنظمة وقهرها، فهل تستيقظ تلك الفصائل الفلسطينية من سكرة قصور الأنظمة ؟ وهل تتمرد على خطاب تجاوزته الأمة بثورات شبابها ؟ أم تجد نفسها خارج زمن الأمة الحي ؟
 
27-3-2011