د. إبراهيم التميمي*
"... حتى لو بدا أن من المستحيل التوصل إلى حل الدولتين، فيجب على لبيد أن يفعل كل ما في وسعه لتجنب كارثة الدولة الواحدة... لا توجد مهمة أخرى أكثر أهمية من هذا الأمر إن مستقبل (إسرائيل) في الميزان... إذا استمرت )إسرائيل( في السيطرة على الضفة الغربية، فسوف تواجه في وقت قصير نسبياً معضلة قاسية إذا أعطت الفلسطينيين الجنسية الكاملة؛ ومن ثم الحقوق الكاملة، ولن تعود )إسرائيل( دولة يهودية، وإذا لم تفعل ذلك فلن تكون ديمقراطية وفي كلتا الحالتين، فإن )إسرائيل(، بوصفها دولة يهودية ديمقراطية، سوف تتوقف عن الوجود..."، هذا ما كتبه رونالد لودر رئيس المؤتمر اليهودي العالمي في مقال له بصحيفة واشنطن بوست الأمريكية.
لطالما كان هذا الهاجس محل جدل عند الساسة الغربيين واليهود، وعاملاً مهماً في اختلاف المشاريع السياسية الرامية لتصفية قضية فلسطين، فعندما تم إيجاد كيان يهود برزت تساؤلات مهمة عند السياسيين، ومنها أن زراعة هذا الكيان الغريب المنبوذ وجعله دولة بطابع استعماري في قلب أمة إسلامية تمتلك مبدأ وكانت بالأمس تحكم العالم، أوجد حالة من عدم الاستقرار الذي يشكل خطرا على هذه "الدولة" المصطنعة والمنبوذة، فما هو الطريق الأسلم -غربيا- لحل هذه القضية وإيجاد حالة من الاستقرار النسبي وجعل هذا الكيان جزءا طبيعيا من محيطه؟ وهنا برز العامل الديمغرافي كمؤثر هام في التوجه الغربي، فتيار قدّم الخطر الداخلي على الخارجي، وتيار رأى العكس؛ فبريطانيا، وهي صاحبة السبق في العمل على تصفية القضية، رأت أن الخطر الديمغرافي أقل خطراً من أن يتكرر مع كيان يهود ما حصل مع الصليبين الذين تميزوا عن أهل المنطقة فتم اقتلاعهم بعد ما يقارب تسعة عقود، ولذلك كان رأيها أن يكون الحل من خلال مشروع الدولة الواحدة الديمقراطية التي تشمل اليهود وغيرهم كمواطنين وبذلك تستوعبها المنطقة وتهضمها، أما أمريكا فرأت أن ذلك التوجه في ظل النمو المتوقع لأهل فلسطين سيقضي على كيان يهود ويذيبه ديمغرافياً وسوف يصبح العرب أكثرية في النهاية ومن ثم يسيطرون على الحكم وبذلك تفقد هذه "الدولة" الغاية الاستعمارية التي أوجدت من أجلها، فرأت أن يكون الحل بمشروع الدولتين وأن يكون هنالك دولة يهودية تتميز في المنطقة وتنفصل ديمغرافياً عن أهل فلسطين ولا يكونوا جزءا منها وتبقى فيها الأغلبية العظمى لليهود، فكان مشروع الدولتين وتقديم الخطر الداخلي على الخارجي الذي رأته أمريكا أقل خطراً على عكس بريطانيا.
ولكن مع أفول نجم بريطانيا وهيمنة أمريكا على الموقف الدولي وإمساكها بالقضايا السياسية الدولية الكبرى، ومنها قضية الشرق الأوسط التي تشكل فيها قضية فلسطين القضية الأولى وحجر الزاوية، وتبنيها بشكل واضح وقاطع مشروع الدولتين في آخر عهد الرئيس الأمريكي إيزنهاور، تبخر شيئاً فشيئاً الحديث عن مشروع الدولة الواحدة وبالتالي غاب الحديث عن "الخطر الديمغرافي" باستثناء الحديث في العقود الأخيرة عن العرب "المجنسين" داخل كيان يهود، وهذا كان له حلول وخطط شيطانية يشرف عليها كيان يهود ويتعامل معها.
فما هو الدافع لهذا التحذير الحديث من رئيس المؤتمر اليهودي العالمي وغيره من السياسيين الأجانب واليهود مثل بيني غانتس وبينت خاصة في السنوات الأخيرة؟
إن الدافع وراء هذا التحذير الجاد أن كيان يهود قد تجاوز مشروع الدولتين الذي يشمل دولة فلسطينية على حدود عام 1967، حيث فرض من الوقائع التي لا تقبل التغيير والنقاش من طرفه ما يجعل محاولة تطبيق المشروع أشبه بالعبث، ومن ثم تجاوز كيان يهود نسخة ترامب الأخيرة التي حاول فيها ترامب بشكل حاقد وجاد أن يحاكي تلك الوقائع ويخرج بدولة مشوهة من بين مستعمرات ومستوطنات ومناطق عسكرية وحدودية، وربما كانت تلك المحاولة بنظر بعض السياسيين آخر محاولة جادة تشمل دولة فلسطينية بغض النظر عن شكلها؛ والناظر الآن يرى أن كيان يهود حقيقةً لم يترك أرضا تقام عليها دولة ولا سيادة وأن كنتوات الضفة الغربية بحاجة إلى جسور جوية لتربط بينها دون أن تصطدم مع وقائع كيان يهود ونفق من تحت الأرض ليربطها مع غزة! أي أن مشروع الدولتين بات مشروعا تم تجاوزه بنظر كيان يهود ومعظم أحزابه والتركيز بات ينصب على هذه الكنتوات التي فيها ملايين الناس من أهل فلسطين وكيفية التعامل معها.
وهنا قفز العامل الديمغرافي من جديد إلى الواجهة، كون أن هذا الاتجاه الذي يذهب به كيان يهود وهو قتل مشروع الدولتين بسياسة فرض الوقائع التي لا تتوقف يعيد إلى الواجهة مشروع الدولة الواحدة التي بغض النظر عن هويتها أكانت يهودية أو ديمقراطية ستواجه معضلة الخطر الديمغرافي في نظر الكثير من السياسيين ومنهم لودر -الذي دعا رئيس الوزراء "الإسرائيلي" يائير لبيد لصنع التاريخ وتجنب كارثة الدولة الواحدة- وهو أيضاً -العامل الديمغرافي- ما يجعل كيان يهود يرفض مشروع الدولة الواحدة بالصيغة البريطانية القديمة -دولة على غرار لبنان- ويفضل الاستمرار في سياسة فرض الوقائع والبحث عن طريقة يضم فيها فلسطين دون أهلها وأسلوب يحقق له السيطرة على كامل البلاد دون تحمل أعباء أهلها بنظره.
وهكذا فإن كيان يهود لن يعرف الاستقرار في هذه الأرض المباركة وسيبقى بين مطرقة الهوية المزعومة والتركيبة الديمغرافية وسندان التراجع عن الوقائع التي فرضها والقبول بإعطاء الفتات لخونة العرب وفلسطين وفق مشروع الدولتين مشروع أمريكا التي أيضاً بدأت تدرك تضاؤل فرص تطبيق مشروعها خاصة مع استمرار سياسة فرض الوقائع في الضفة من قبل كيان يهود بشكل قد يؤدي في النهاية إلى الضم التلقائي، وهذا الإحباط الأمريكي ظهر من محاولة ترامب اليائسة وإهمال بايدن للقضية خلال زيارته الأخيرة، وسوف تبقى القضية في حالة من عدم التصفية والحل، وسوف تبقى المنطقة في حالة من عدم الاستقرار، وسيبقى كيان يهود في حالة من الاضطراب حتى يجد جيوش المسلمين تقتلعه من جذوره وتقضي عليه، وتُحَل قضية فلسطين الحل الصحيح الشرعي والسياسي والطبيعي لأرض مغتصبة، وعندها ولات حين مندم فلن تغني عنه أمريكا ولا أوروبا ولا مشاريعهما شيئاً بل سيدفعون ثمن مشاريعهم وفواتير الدماء التي أريقت لأجلها، ولن تُبقي لهم دولة الخلافة الراشدة قدما في بلاد المسلمين وستطاردهم إلى عقر دارهم، ولهم في التاريخ عبرة وعظة فإن كان التاريخ سياسة يوم مضى فجاهل من يتغافل تاريخ أمة ما زالت متمسكة بمبدئها الذي صنع تاريخها!
قال تعالى {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)}

*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين