قرار وقف الاستيطان؛ حيثيات سياسية وغايات خبيثة تغطي على جوهر القضية

باهر صالح*

عن الراية

وافق مجلس الأمن الدولي مساء الجمعة بأغلبية ساحقة على قرار يطالب كيان يهود بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، في خطوة عدتها السلطة الفلسطينية صفعة لسياسات الاحتلال، وقال عنه كبير المفاوضين لدى السلطة صائب عريقات بأنه "يوم نصر". وكان القرار قد صدر بأغلبية 14 صوتا، من أصل 15 صوتا، وامتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت، وأصرت الإدارة الأمريكية الحالية على عدم استخدام حق النقض (فيتو) ضد القرار رغم مطالبة دونالد ترامب بذلك.

من الواضح أنّ القرار قد حظي بتأييد وسرور كبيرين من قبل السلطة الفلسطينية وبعض الهيئات والحكومات في العالم الإسلامي، لما فيه من مكاسب كبيرة لهم، فالسلطة الفلسطينية تعتبر المفاوضات ومجلس الأمن والهيئات الدولية سر حياتها وبقائها، وهي تستند في خزعبلاتها وهرطقاتها شعبيا وإعلاميا إلى قرارات مجلس الأمن أو الدوائر والمؤسسات الدولية الأخرى، لذلك وكما فرحت السلطة وأقامت الدنيا ولم تقعدها حينما تمكنت من تحصيل منصب دولة غير عضو في هيئة الأمم المتحدة رغم أنّ ذلك لم يعن شيئا حقيقيا أو جوهريا على أرض الواقع في مسيرة التحرير أو النضال، كذلك هي الآن عدت القرار نصرا وعيدا، على الرغم من أنّ القرار نفسه يؤكد على شرعية الاحتلال ويؤكد على عدم شموله إلا للأراضي المحتلة عام 1967م معتبرا أن ما أسماه "إقليم إسرائيل" ويقصد به باقي أرض فلسطين والمحتلة عام 1948م والتي تمثل أكثر من 78% من مساحة فلسطين، معتبرها ليست محلا للقرار أو النقاش!!.

وعلى الرغم من إدراك السلطة أنّ يهود لا يلتزمون بقرارات الأمم المتحدة، وأنّه سيكون قرارا جديدا يُضاف إلى قرارات الحبر على ورق، التي لم يلتزم بها يهود من قبل، إلا أنّها عظمت من شأنه لأنّه يساهم في صرف الأنظار والأذهان عن جوهر القضية وأصل المشكلة في فلسطين، ويذهب بهما إلى دهاليز السياسة والمفاوضات وسراديب التنازل والتفريط.

فقضية فلسطين هي قضية أرض إسلامية مباركة احتلت من قبل يهود بمباركة ومعاونة من الغرب المستعمر، ومشكلتها باتت كيفية الخلاص من الاحتلال وتحريرها من دنس يهود، وهذا لا يكون إلا في ميادين القتال وساحات الوغى والتي هي اللغة الوحيدة التي يفهمها يهود ويدركها الحكام، فصرف القضية إلى ما يسمى قرارات المجتمع الدولي والمفاوضات هو تضييع لها وتفريط بحق المسلمين بكامل ترابها، ولذلك تحتاج السلطة بين الفينة والأخرى دفعة للأمام تبقيها حية وتحول دون انهيارها في ظل فشلها في إنجاز مشروعها التفريطي، وهذا ما يفسر حالة الفرح التي انتابت قادة السلطة ومن لف لفيفهم.

أما حكام المسلمين فهم بكل تأكيد يرحبون بهكذا خطوات وقرارات لأنها تعزز الطريق الذي يشكل ملاذا ومهربا لهم من مسئوليتهم تجاه فلسطين التي توجب عليهم أن يحركوا جيوش الأمة لتحريرها بدلا من أن يحركوها لضرب أطفال ونساء وشيوخ الشام واليمن وليبيا، فهكذا قرارات تساهم في تضليل المسلمين عن الطريق الشرعي لتحرير فلسطين من خلال تصويرها انتصارات وإنجازات ذات قيمة.

أما عمليا وعلى أرض الواقع فإنّ هذا القرار لا يشكل أكثر من إحراج لرئيس وزراء يهود، نتنياهو، أمام خصومه السياسيين كأمثال وزيرة الخارجية السابقة، تسيبي ليفني التي طالبته بـ"التنحي والعودة إلى البيت"، متهمة إياه بالمسئولية عن تبني مجلس الأمن لقرار وقف الاستيطان والذي من شأنه أن يعزز من عزلة دولة يهود دوليا، ومن باب آخر فهو يشكل قرارا قد تستعمله القوى الدولية وأمريكا في إحراج قادة يهود والضغط عليهم سياسيا للسير في مشاريع السلام وحلول التصفية وقت الحاجة، أما حاليا فهو قرار لا يزعج كيان يهود على الحقيقة بل يزعج حكومتها الحالية وعلى رأسها نتنياهو، وهو ما لا يغير شيئا على أرض الواقع إذ أقصى تداعيات هكذا إحراجات مع تراكمها هو إسقاط حكومة نتنياهو.

وكرد عملي وبرهان على فراغ القرار من قيمة حقيقية جاء قرار يهود ببناء 5600 وحدة استيطانية جديدة في القدس المحتلة وتصريح "مائير ترجمان" نائب ما يسمى برئيس بلدية القدس ورئيس لجنة التخطيط والبناء المحلية قوله "لا يهمني الأمم المتحدة أو أي جهة تحاول أن تملي علينا ماذا نفعل بالقدس وكلي أمل أن تقدم لنا الحكومة والإدارة الأمريكية الجديدة الدافع والدعم الذي يمكننا من تعويض النقص في البناء الذي نجم خلال سنوات أوباما الثماني".

أما لماذا امتنعت أمريكا عن استخدام الفيتو لمنع القرار فقد جاء الجواب على لسان المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن سامنثا باور التي قالت بأنّ الولايات المتحدة لم تستخدم الفيتو ضد القرار، لأنه يعكس الحقائق على الأرض وينسجم مع السياسة الأمريكية، مشيرة إلى أن استمرار البناء الاستيطاني "يقوض بشكل خطير أمن دولة يهود". وأضافت "الولايات المتحدة ترسل رسالة سرا وعلنا منذ حوالي خمسة عقود بأن المستوطنات يجب أن تتوقف".

فأمريكا تدرك أن مصلحة كيان يهود الاستراتيجية والغرب من ورائها هو في حل الدولتين وأن بناء المستوطنات يعرقل هذا الحل ويجعله صعبا، فلذلك سهلت تمرير القرار ليشكل كوابح خفيفة لقادة يهود، وهذا أمر لم تُخْفِ أمريكا رغبتها في تحققه منذ زمن ولكن كان يحول بينها وبينه حسابات السياسة المحلية والانتخابات وشخصية الرئيس في كلتا الدولتين، أما وقد أصبح أوباما راحلا، فقد تحلل من تلك القيود فأقدم على هذه الخطوة وقد يقدم على خطوات أخرى مماثلة وعبر العالم في قضايا تكون محرجة قليلا للرئيس فترة حكمه فتكون هذه الفترة الفرصة المناسبة لتحقيقها، وهو ما عبر عنه رئيس وزراء يهود نتنياهو في كلمة استهل بها اجتماع حكومته الأسبوعي يوم الأحد "أنّه يتوقع اتخاذ خطوات دولية أخرى خاصة بالموضوع الفلسطيني (الإسرائيلي) قبل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما في العشرين من الشهر القادم".

والخلاصة أنّ قرار تجريم الاستيطان من حيث أثره الحقيقي فهو وهمٌ وسراب لا يسهم في تحرير شبر من أرض فلسطين أو إعادة حق مغتصب، وتهافت السلطة والحكام عليه ما هو إلا لأنه ينسجم ويوافق مواقفهم التصفوية التفريطية، وتضخيم الحدث هو من أجل خداع المسلمين وتضليلهم عن الطريق الفعلي والشرعي لتحرير فلسطين واختزالها وتقزيمها بقضايا تافهة لا اعتبار حقيقياً لها، وأما حيثيات إخراجه فهو حسابات السياسة للرؤساء وأصحاب العلاقة.

*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين