بسم الله الرحمن الرحيم

جواب سؤال

المستجدات السياسية في تشاد

 

السؤال: أعلن الجيش التشادي يوم 20/4/2021 مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي في معارك مع متمردين في شمال البلاد قادمين من جنوب ليبيا، وأعلن عن تشكيل مجلس عسكري يتولى رئاسته ابن الرئيس المقتول رئيس الحرس الرئاسي محمد ديبي لفترة انتقالية 18 شهراً، وأعلن عن حل البرلمان والحكومة وحظر التجوال مساء وإغلاق منافذ البلاد الجوية والبرية. ودعا جميع قوى المعارضة للحوار. فما حقيقة ما جرى ويجري في تشاد وإلى أين تتجه الأوضاع؟ وما هي ارتباطات القوى المتمردة؟ وما علاقة ذلك بالصراع الدولي؟

 

الجواب: لكي يتضح الجواب نستعرض الأمور التالية:

1- لقد جرت انتخابات رئاسية في تشاد يوم 11/4/2021 وقاطعتها قوى المعارضة متهمة الرئيس ديبي بالتزوير وبتكميم الأفواه ومنع قادتها من الترشح، وقد أعلن يوم 19/4/2021 عن فوز الرئيس إدريس ديبي بنسبة 79,32% ليحكم البلاد ست سنوات أخرى قبل أن يصاب في المعارك مع المتمردين بساعات. وقد أعلنت جبهة الوفاق من أجل التغيير يوم 12/4/2021 عن رفضها للانتخابات وحركت قواتها المتمركزة في جنوب ليبيا نحو العاصمة التشادية إنجامينا. فقد أعلن زعيم الجبهة محمد مهدي علي البدء بالتحرك، وتقدر قواته بنحو 1500 شخص دخلوا على متن مئات السيارات الرباعية الدفع. حيث دخلت تشاد من مدينة الجفرة جنوبي ليبيا حيث مقرها إلى شمال تشاد يوم 12/4/2021 فدخلت ولاية تبستي ثم دخلت ولاية كانم التي تبعد 400 كلم عن العاصمة إنجامينا، وأعلنت على صفحتها في موقع فيسبوك أن "الانتخابات التي جرت كانت مهزلة ودعت الشعب لمساندتها لتحرير وطنهم تشاد وللضغط على الديكتاتورية" وأعلنت استيلاءها على حاميات بالقرب من الحدود الليبية بدون مقاومة.

 

 2- قال المتحدث باسم الجيش التشادي الجنرال عازم برماندوا أغونا عبر التلفزيون التشادي الرسمي يوم 20/4/2021: "إن رئيس الجمهورية إدريس ديبي إيتنو لفظ أنفاسه الأخيرة مدافعا عن وحدة وسلامة الأراضي في ساحة المعركة.. ونعلن ببالغ الأسى للشعب التشادي نبأ وفاة مارشال تشاد الثلاثاء 20 نيسان/أبريل 2021"، كما أعلن عن تأسيس مجلس عسكري وتعيين محمد ديبي ابن الرئيس المقتول رئيسا للمجلس وأعلن عن حل البرلمان وحل الحكومة. وقال المتحدث باسم الجيش "إن المجلس العسكري الانتقالي برئاسة محمد إدريس ديبي يضمن الاستقلال الوطني وسلامة الأراضي والوحدة الوطنية واحترام المعاهدات والاتفاقات الدولية ويضمن مرحلة انتقالية مدتها 18 شهرا تجري بعدها انتخابات حرة وديمقراطية وشفافة"، وأشار إلى "فرض حظر التجول من السادسة مساء حتى الخامسة صباحا وإغلاق الحدود البرية والجوية للبلاد"، وأعلن عن "ميثاق انتقالي يمنح الرئيس الانتقالي صلاحيات واسعة ويلغي الدستور". وهكذا فإن حكومة وبرلمان ودستور النظام تلغى من قبل المؤسسة العسكرية للنظام ومن الرجال أنفسهم القائمين على الحكم سوى ديبي المقتول. إذ إن غالبية الضباط الكبار هم من عائلة وأقارب الرئيس المقتول من قبيلة الزغاوة التي لها امتدادات في تشاد وليبيا والسودان. وهي قبيلة منقسمة على نفسها، فهناك من المتمردين من ينتمي لهذه القبيلة. ويذكر أن أولاد عمومته هم الذين قادوا هجوما في بداية عام 2019 بقيادة تيمان إيرديمي باسم اتحاد قوى المقاومة. وكادوا أن ينجحوا في تمردهم لولا التدخل الفرنسي. علما أن المجلس العسكري الجديد الذي شكل برئاسة محمد ديبي مكون من 15 ضابطا بينهم 8 من قبيلة الزغاوة. وقد أعلن المتمردون رفضهم القاطع للمجلس العسكري الانتقالي، وقال الناطق باسم المتمردين "قواتنا في طريقها إلى إنجامينا لكننا سنترك ما بين 15 ساعة إلى 28 ساعة لأبناء ديبي لكي يدفنوا والدهم وفق العادات". وتعهدوا بمواصلة تمردهم حتى يصلوا العاصمة.

 

3- وإدريس ديبي نفسه قاد حركة تمرد عام 1990 حتى استولى على الحكم في تشاد وأسقط حسين حبري (1982-1990) الذي انقلب على فرنسا وأصبح عميلا لأمريكا. لقد كان ديبي قائدا للجيش فقاد تمردا بدعم من فرنسا حتى وصل إلى الحكم، وارتبط بفرنسا ارتباطا وثيقا حتى تحمي عرشه ويبقى في السلطة. وكان لفرنسا الدور الأكبر في مساعدة ديبي في هزيمة التمردات التي لم تتوقف. ففي شباط 2008 تم صد هجوم المتمردين بفضل الدعم الفرنسي عندما وصلوا إلى أبواب القصر الرئاسي في العاصمة إنجامينا. وكان ديبي نفسه يشارك جنوده في مجابهة التمردات منذ عام 2006. ولكن كان لفرنسا الدور الأكبر في إحباط حركات التمرد السابقة. ويظهر أن فرنسا هذه المرة لم تتحرك بعد لصد التمرد الأخير مباشرة، وأن دورها كان مساندا لقوات ديبي. إذ إن "جبهة التناوب والوفاق" وهي نفسها "جبهة التغيير والوفاق" وتعرف اختصارا باسم "فاكت" قد ذكرت في بيانها ونشر على صفحة "أفريقيا بوست" يوم 15/4/2021 أن "الجبهة دعت فرنسا إلى الحياد مشيرة إلى أن تحليق طائرات فرنسية فوق مواقعها يمكن تفسيره على أنه دعم للرئيس التشادي حيث يلاحظ أنه بعد كل مرور تحليق للطائرات الفرنسية يعقبه قصف من قبل طيران الحكومة". ويظهر أن فرنسا رأت أن قوات ديبي كافية لصد الهجوم، ولكنها تفاجأت بمقتله وكان ضربة موجعة لها.

 

4- إن مقتل ديبي يعد خسارة كبيرة للمستعمر الفرنسي. فقال بيان قصر الإليزيه بعد ساعات قليلة من مقتله "لقد فقدت فرنسا صديقا شجاعا.. فرنسا تشدد على أهمية أن تتم المرحلة الانتقالية في ظروف سلمية وبروح من الحوار مع كل الأطراف السياسيين والمجتمع المدني والسماح بالعودة السريعة إلى حكومة تشمل الجميع وتعتمد على المؤسسات المدنية. تعرب تمسكها الثابت باستقرار تشاد ووحدة أراضيها. تتقدم فرنسا بالتعازي إلى عائلة الرئيس ديبي والشعب التشادي برمته". وقد دعا وزير الخارجية الفرنسي لودريان "إلى مرحلة انتقالية عسكرية محدودة تؤدي إلى حكومة مدنية وجامعة"، فهنا تعلن فرنسا تأييدها للمرحلة الانتقالية وبالتالي للسلطة التي تولت زمام الأمور. وأعلن الناطق باسم الحكومة الفرنسية جابريل آتال أن "الرئيس ماكرون سيشارك في جنازة الرئيس التشادي الراحل ديبي". (فرانس برس 21/4/2021) مما يدل على مدى أهميته للمحافظة على نفوذها بل استعمارها في تشاد. وكذلك تأتي مشاركته في الجنازة للحديث مع ابن الرئيس المقتول وغيره من القادة الجدد للتأكيد على ولائهم لفرنسا.

 

5- واهتمت الصحف الفرنسية بموت ديبي على صفحاتها الصادرة في اليوم التالي من مصرعه؛ فذكرت صحيفة لاكاروا أن "وفاة ديبي تعتبر ضربة موجعة للدبلوماسية الفرنسية"، وقالت صحيفة ليبراسيون "إن فرنسا باتت محرومة من ديبي بعد وفاته يوم أمس. إنه كان نتاجا للإدارة العسكرية الفرنسية وحليفا لفرنسا في المنطقة"، وقالت "لكن الأكيد هو أن عملية برخان العسكرية الفرنسية والتي باتت تعاني من ضعف شديد في الآونة الأخيرة توجد اليوم في وضع صعب". وتساءلت عما إذا كانت هناك قوى خارجية تقف وراء المتمردين. فالفرنسيون يدركون أن هناك قوى كبرى تقف وراء حركات التمرد. إذ إن بلادهم في حالة حرجة في المنطقة وكادت أن تسحب قواتها من هناك بسبب الخسائر التي تتكبدها من دون أن تحقق انتصارا منذ تدخلها المباشر في المنطقة عام 2014 بعد الانقلاب الذي حصل في مالي عام 2012 على يد ضباط عملاء لأمريكا. ومن ثم قام ضباط موالون لأمريكا العام الماضي، عام 2020 بانقلاب. وفي شمال تشاد هناك ليبيا تعمل أمريكا على بسط نفوذها فيها. فأصبح وضع فرنسا قلقا في المنطقة.

 

 

 

6- إن تشاد وغيرها من دول أفريقيا من ناحية دولية تعتبر دولة مستقلة، ولكنها في الحقيقة مستعمرة فرنسية كما كانت قبل نيلها الاستقلال الشكلي عام 1960 من فرنسا. فقوات المستعمر الفرنسي ترابط فيها وجنود الجيش التشادي يقاتلون في سبيل فرنسا ومصالحها الاستعمارية في منطقة الساحل، وثرواتها وأموالها تذهب لفرنسا، حيث إن عملتها مع عملة 13 دولة أفريقيا أخرى مرتبطة باليورو الأفريقي الذي كان سابقا الفرنك الأفريقي حيث تذهب نصف أموال تشاد إلى البنك المركزي الفرنسي. وتنشر فرنسا 5100 جندي بعدما كانوا قبل سنة 4500 جندي في تشاد في إطار عملية باسم قوة برخان لمكافحة ما يسمى بالإرهاب، وتشارك تشاد بجانبها في أكبر قوة عسكرية من قوات دول الساحل المشكلة منها ومن موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر بإشراف فرنسا لحفظ النفوذ الفرنسي في غرب ووسط أفريقيا وخاصة في مالي، ومع ذلك فهي بين الأمل والاستيئاس من الانتصار وحتى البقاء في المنطقة، فوجودها مهدد بشكل جدي، إذ إن أمريكا تلاحقها في المنطقة كلها. وبدأت ترتفع الأصوات بالمطالبة بسحب هذه القوة بسبب الخسائر في الأرواح بين الجنود الفرنسيين حيث ارتفع العدد إلى 50 قتيلا حسب الإحصاءات الرسمية. وهي تعمل على تقوية قوات ما يسمى بقوات الساحل لتقاتل نيابة عنها وتطلب من دول أوروبية المساعدة، كما أنها تستعين بالإمارات لتمويلها. ولكن فقدانها لديبي يعتبر خسارة كبيرة لهذه القوة. وقد أعلنت الأمانة التنفيذية لمجموعة دول الساحل أنها ("تدعم بشكل كامل المرحلة الانتقالية المعلنة في تشاد إثر وفاة الرئيس إدريس ديبي الذي كان يتولى الرئاسة الدورية للمجموعة"... الجزيرة 22/4/2021) فتشاد مرشحة لاشتداد الصراع الدولي عليها، وكانت أمريكا قد تمكنت في ثمانينات القرن الماضي من شراء حسين حبري، فدخلت تحت النفوذ الأمريكي، ثم خسرت نفوذها عندما قلبه ديبي، ولكنها لا تتوقف عن المحاولات للعودة...

 

7- إن أمريكا كانت تراقب حركة التمرد منذ انطلاقها في ليبيا، وقد أعلنت يوم 18/4/2021 أن "جماعات مسلحة غير حكومية شمالي تشاد تحركت نحو الجنوب باتجاه إنجامينا، ونظرا لقربها من العاصمة واحتمال اندلاع أعمال عنف في المدينة صدرت أوامر لموظفي الولايات المتحدة غير الأساسيين بمغادرة تشاد على متن رحلة طيران تجارية"... الجزيرة 18/4/2021) وبعد مصرع الرئيس التشادي أعلنت على لسان المتحدث باسم خارجيتها نيد برايس يوم 20/4/2021 أن "واشنطن تريد أن ترى انتقالا للسلطة في تشاد يتوافق مع دستورها بعد مقتل الرئيس ديبي يوم الإثنين"، وقال "إن سفارة الولايات المتحدة في تشاد لا تزال في حالة المغادرة المفروضة اعتبارا من 17 نيسان" (رويترز 20/4/2021). وفي اليوم التالي قال المتحدث باسم وزارة الخارجية: "إن واشنطن منزعجة للغاية من العنف في تشاد في أعقاب وفاة الرئيس ديبي وتشعر بالقلق من أي شيء يعترض الانتقال الديمقراطي للسطلة هناك.. وإن واشنطن تراقب من كثب الوضع السياسي في تشاد"... فرانس برس 21/4/2021). وهكذا فإن أمريكا تعمل لتقريب موعد الانتخابات وتسمي ذلك بالانتقال الديمقراطي للانتخابات لتهيئة الأجواء لتوصيل المعارضة للحكم وإنهاء النفوذ الفرنسي.

 

8- لقد أشارت وسائل إعلام عديدة عن علاقة المتمردين التشاديين بقوات حفتر عميل أمريكا، وهي ليست جديدة بل هي من قبل، فقد نقلت رويترز في 12/2/2019 عن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان قوله: (واستجابة لطلب من ديبي قصفت طائرات حربية فرنسية قافلة مدججة بالسلاح للمتمردين عبرت الأسبوع الماضي من ليبيا وتوغلت في الأراضي التشادية. وقال لو دريان لأعضاء البرلمان "الرئيس ديبي طلب منا كتابة التدخل لمنع وقوع انقلاب وحماية بلاده"). ولأن هذه الأخطار التي يدفع بها عميل أمريكا حفتر باتجاه تشاد حقيقية فإن فرنسا تنشر قوة كبيرة في العاصمة التشادية للدفاع عن عميلها إدريس ديبي ناهزت خمسة آلاف! ونقلت الجزيرة يوم 22/4/2021 عن مصدر أن "المعارضة المسلحة نقلت معظم معسكراتها من الحدود مع ليبيا إلى داخل تشاد وأن فصائل معارضة من ضمنها المجلس القيادي لإنقاذ الجمهورية التشادية تستعد لمغاردة مواقعها في الأراضي الليبية والانتقال إلى داخل الأراضي التشادية بعد ساعات".

 

9- ومن هنا يتضح أن تشاد مرشحة إلى احتدام الصراع بين قوات النظام والقوات المتمردة، إذ إن الطرفين مرتبطان بقوى أجنبية استعمارية متنافسة وهما فرنسا وأمريكا، فالممسكون بالسلطة ليس بالسهولة أن يتنازلوا وهم يرون أن مصيرهم مهدد وأن وراءهم دولة استعمارية كفرنسا تدعمهم من أجل المحافظة على نفوذها واستعمارها في بلادهم، فهي عامل مساعد لهم للدفاع عنهم في سبيل خدمتهم لمصالحها الاستعمارية في وسط وغرب أفريقيا، بينما المتمردون الطامعون في الوصول إلى السلطة تدعمهم دولة استعمارية كأمريكا تسعى لبسط نفوذها في تشاد والمنطقة. فبلاد المسلمين ساحة صراع بين المستعمرين، وأبناؤهم وقود لنار هذا الصراع، وثرواتهم تذهب للمستعمر، ويبقون يعانون الفقر والحرمان وتفشي الأمراض. ولا خلاص للمسلمين في تشاد الذين يكتوون بنار الصراع الدولي على بلادهم، إلا بتحرك المسلمين في شمال أفريقيا والسودان لإقامة حكم الإسلام في بلادهم وتوحيدها ومن ثم التحرك نحو بلاد أفريقيا الأخرى لتحريرها بلدا بلدا من ربقة المستعمر. فوجب على المسلمين نصرة العاملين من أبنائهم المخلصين الواعين والساعين لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.

 

في الثالث عشر من رمضان 1442هـ

25/4/2021م