بسم الله الرحمن الرحيم

 جواب سؤال

عودة الصلاة لآيا صوفيا وارتفاع الأصوات المطالبة بعودة الخلافة!

 

السؤال:

نعلم أن محمداً الفاتح - رحمه الله - عندما فتح القسطنطينية اتخذ كنيسة آيا صوفيا مسجداً... ونعلم كذلك أن مصطفى كمال - لعنه الله - قد أزال صفة المسجد عن آيا صوفيا وجعلها متحفاً... وفي سنة 2013م، رفض أردوغان طلباً من المسلمين بإعادة آيا صوفيا مسجداً... ثم في هذا العام، وبناء على أوامر أردوغان، أصدرت المحكمة قراراً بإعادة آيا صوفيا مسجداً... وأن الصلاة أقيمت فيه يوم الجمعة 24/7/2020م، وأن الرسومات النصرانية التي على الجدران ستغطى فقط خلال الصلاة، فهل يؤثر هذا في صحة الصلاة؟ ثم من أين جاءت هذه الرسومات وآيا صوفيا كانت مسجداً نظيفاً طاهراً منذ نحو 500 عام؟!

 

لقد أصبح عندنا شيء من الاضطراب في الحكم الشرعي بالنسبة لآيا صوفيا عند فتح محمد الفاتح لها، والذي نرجوه، ونكون لكم من الشاكرين، هو بيان الحكم الشرعي في معابد الكفار في البلاد المفتوحة، لتطمئن بالجواب قلوبنا، ولكم الشكر والتقدير.

 

الجواب:

لكي يتضح الجواب عن هذه التساؤلات، نستعرض الأمور ذات العلاقة ومتعلقاتها، مع بيان الرأي الشرعي فيها، فنقول وبالله التوفيق:

 

أولاً: لقد سبق أن جاء في كلمتنا في السابع من جمادى الأولى 1441هـ - 02/01/2020م بمناسبة ذكرى فتح القسطنطينية سنة 857هـ-1453م ما يلي: [...لقد بدأ الفاتح غزو القسطنطينية ومحاصرتها اعتباراً من السادس والعشرين من ربيع الأول حتى تم فتحها فجر الثلاثاء العشرين من مثل هذا الشهر جمادى الأولى 857هـ، أي أن الحصار استمر نحو شهرين، ولما دخل محمد الفاتح المدينة ظافراً ترجل عن فرسه، وسجد لله شكراً على هذا الظفر والنجاح، ثم توجه إلى كنيسة "آيا صوفيا"، حيث احتشد فيها الشعب البيزنطي ورهبانه، فمنحهم الأمان، وأمر بتحويل كنيسة "آيا صوفيا" إلى مسجد، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل "أبي أيوب الأنصاري"، حيث كان ضمن صفوف الحملة الأولى لغزو القسطنطينية، وتوفي هناك رحمه الله ورضي عنه... وقرر الفاتح الذي لُقِّب بهذا اللقب بعد الفتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته بعد أن كانت سابقاً أدرنه، وأطلق على القسطنطينية بعد فتحها اسم "إسلام بول" أي مدينة الإسلام "دار الإسلام"، واشتهرت بـ"إستانبول"، ثم دخل الفاتح المدينة وتوجه إلى "آيا صوفيا" وصلى فيها وأصبحت مسجدا بفضل الله ونعمته وحمده... وهكذا تحققت بشرى رسول الله ﷺ في حديثه الشريف عن عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن العاص قال: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مِدينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ»، رواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وقال عنه "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وعلق عليه الذهبي في التلخيص قائلاً: "على شرط البخاري ومسلم". وكذلك في الحديث الشريف عن عَبْد اللَّهِ بْن بِشْرٍ الْخَثْعَمِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ» قَالَ: فَدَعَانِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَسَأَلَنِي فَحَدَّثْتُهُ فَغَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، رواه أحمد، وجاء في مجمع الزوائد في التعليق عليه "رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله ثقات"... فتحققت هذه البشرى على يدي هذا الشاب محمدٍ الفاتح الذي لم يتجاوز الحادية والعشرين، ولكنه كان قد أُعِدَّ إعداداً مستقيماً منذ طفولته، فقد اهتم والده السلطان مراد الثاني به، فجعله يتتلمذ على يد خيرة أساتذة عصره... ومنهم الشيخ "آق شمس الدين سنقر" الذي كان أول من زرع في ذهنه منذ صغره حديث رسول الله ﷺ عن "فتح القسطنطينية"، وكبر الفتى وهو يصبو إلى تحقيق ذلك الفتح على يديه... وقد أكرمه الله بمنه وفضله، فحقَّ له مدح رسول الله ﷺ فقد كان الفاتح نِعم القائد...].

 

ثانياً: ومنذ ذلك الوقت أصبحت آيا صوفيا جامعاً إسلامياً عظيماً يحظى برمزية كبيرة لدى المسلمين، وقام محمد الفاتح وأصحاب الاختصاص في عهده بإزالة الرسوم المخالفة للإسلام من على الجدران وطمس الرسوم التي يستعصي إزالتها بالدهان أو نحو ذلك، فأصبح مسجداً طاهراً نظيفاً مشرقاً يؤدي المسلمون الصلاة فيه حامدين الله على ذلك النصر والفتح المبين... واستمر ذلك إلى أن منع مجرم العصر مصطفى كمال الصلاة في هذا المسجد وتحويله إلى متحف بقراره المشئوم يوم 24/11/1934م... وكان قبل ذلك قد قام لعنه الله بإغلاق المسجد منذ 1930م نحو أربع سنوات: (جرى إغلاق آيا صوفيا أمام المصلين ما بين 1930-1935م بسبب أعمال الترميم، التي جرى تنفيذها بأمر من مصطفى كمال مؤسس الجمهورية التركية. خلال أعمال الترميم، جرى تنفيذ عمليات ترميم مختلفة... أعقب ذلك قرار لمجلس الوزراء بتاريخ 24/11/ 1934م بتحويل آيا صوفيا إلى متحف. "aa.com.tr/ar/190 وكالة الأناضول 11/07/2020م") أي بقي المسجد مغلقا هذه المدة من الزمن، وفي هذه المدة لا يُستبعد أنه حضر من بلاد الغرب من يرسم تلك الرسومات ومن ثم فتح آيا صوفيا متحفاً عام 1935م بعد قراره المذكور ليُظهر للناس أن هناك آثاراً نصرانية ورسومات...! وكان من قبل قد اقترف مصطفى كمال جريمته الكبرى في إلغاء الخلافة الإسلامية 1342هـ-1924م. وكما حارب مصطفى كمال بوحشية كل دعوة لإعادة الخلافة فكذلك فعل بالنسبة لكل دعوة إلى إعادة آيا صوفيا مسجداً... ومع ذلك فقد استمر المسلمون في شوق إلى إعادة آيا صوفيا مسجداً كما كانت، جاء في موقع المدن 26/03/2019م: [ما زال كثير من الأتراك يتطلعون إلى اليوم الذي يرجع فيه "متحف آيا صوفيا" مجدداً مسجداً للمسلمين. (ففي يوم 27/5/2012 أدى آلافُ المسلمين الصلاة أمام مبناه احتجاجاً على قانون حظر إقامة الشعائر الدينية فيه، وذلك بمناسبة الذكرى الـ 559 لانتصار السلطان محمد الفاتح وفتحه القسطنطينية. وهتف المحتجون: "اكسروا السلاسل... وافتحوا مسجد آيا صوفيا... المسجد الأسير") ولم تفتر عزائمهم بالمطالبة بفتحه مسجدا [لكن أردوغان رد على هؤلاء المطالبين حين كان رئيساً للوزراء العام 2013م بأنه لن يفكر في تغيير وضع آيا صوفيا... موقع المدن نفسه].

 

ثالثاً: لكن نظرة أردوغان تغيرت خلال الحملة الدعائية لانتخابات البرلمان التي جرت في تركيا الأحد 31/3/2020م حيث لاحظ هبوط أسهمه وكأنه رأى أن (الدقّ) على وتر تحويل آيا صوفيا إلى مسجد سيرفع من أسهمه الانتخابية البرلمانية فنادى بذلك في قمة الحملة الانتخابية: (قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الجمعة، إنه ينبغي إعادة تسمية "آيا صوفيا" في إسطنبول إلى مسجد بدلاً من متحف بعد انتخابات يوم الأحد. وتُجرى غداً في تركيا الانتخابات البلدية؛ ويتطلع "حزب العدالة والتنمية" إلى تحقيق الفوز، على غرار ما حدث عام 2014... الجزيرة نت السبت 30 آذار/مارس 2019م) ولكن المسلمين يدركون أن عودة آيا صوفيا مسجدا كما كان هو أمر مرتبط بالإسلام، بدولة الإسلام، بالخلافة، فقد كان آيا صوفيا المسجد المشرق لدولة الخلافة، عنوان النصر والفتح المبين، وتحقيق بشرى رسول الله الصادق الأمين... هكذا يريده المؤمنون الصادقون: أن يعود مستظلاً براية الخلافة، راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا أن يستظل براية العلمانية والأنظمة الوضعية! ولذلك فلم تحقق حملة أردوغان الانتخابية البرلمانية لإعادة آيا صوفيا مسجداً، لم تحقق غايتها فخسر إسطنبول وأنقرة أي أعظم مدينتين في تركيا! وخسر أمام من؟ أمام حزب الشعب، من توابِع مصطفى كمال الذي حول آيا صوفيا إلى متحف!! وذلك لأن الناس لم يجدوا فرقاً كبيراً بين هذه الأحزاب ما دام أي منها لا يريد لآيا صوفيا أن يستظل براية الخلافة!

 

رابعاً: لم يدرك أردوغان أن عودة آيا صوفيا مسجدا كما كان لا تؤتي ثمارها ولا تسنده شعبياً إلا إذا اقترنت بعودة الخلافة، ومع أنه رأى ذلك رأي العين في نتائج الانتخابات إلا أنه استمر في النهج نفسه! وهكذا، فبناء على أمره ورغبته، أصدرت المحكمة العليا التركية حكما يوم 10/7/2020م لتحويل متحف "آيا صوفيا" في مدينة إسطنبول إلى مسجد دون أي ذكر لاقتران ذلك بعودة الخلافة، ومن ثم أقيمت صلاة الجمعة به في 24/7/2020م مع بقاء النظام العلماني والقوانين الوضعية ترفرف فوق مسجد آيا صوفيا!!

 

لقد كشفت الصلاة كم هو شوق المسلمين لعودة الخلافة وعودة آيا صوفيا مسجداً كما كان طوال 500 عام، وقد اتضح ذلك في ابتهاج غالب الناس بما قاله خطيب الجمعة علي أرباش رئيس الشئون الدينية التركية في الثالث من ذي الحجة 1441هـ يوم 24/7/2020م في مسجد آيا صوفيا عند عودة الصلاة فيه بعد 90 عاماً من إغلاقه... وبخاصة عندما قال: (إن عظيم الحمد والشكر لربنا عز وجل الذي جعلنا نلتقي ونجتمع في مثلِ هذا اليوم التاريخي الفضيلِ. والصلاة والسلام على رسولنا الأَكرم ﷺ الّذي بشر بالفتح بقوله، «لَتُفتَحَنَّ القُسْطَنْطينيَّةُ؛ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»... والسلام على الصَّحابة الكرام الذين خرجوا في سبِيل اللَّه طالبين نيل هذه البِشارة وفي مقدّمتهِم أبو أَيُّوب الأَنصاري رضي اللَّه عنه الذي يعتبر الباني المعنوي لإسطنبول، وعلى من اقتفى أثرهم وعلى كل شهدائنا ومحاربينا ممَّن جعلوا من الأَناضول وطَنا لنا وحماها واستأمننا عليها.

 

والسلام على "آق شمس الدين" صاحب العلم والحكمة الذي نقش في قلب السلطان محمد الفاتح حب الفتح، وأمّ المصلين في أول صلاة جمعة بجامع آيا صوفيا في 1 حزيران/يونيو 1453م. والسلامُ على ذلك الأمير الشاب الفطن والسلطان الفاتح محمد خان... والذي تمكن بفضل اللَّه عز وجل وعنايته من فتح إسطنبول... والسلام أيضا على الحرفي الكبير، معمار سنان، الذي زيّن آيا صوفيا بالمآذن...

 

إن آيا صوفيا سمة الفتح، وأمانة الفاتح. أوقف السلطان الفاتح محمد خان ذلك المكان، وجعل منه وقفا بصفته مسجدا إلى يوم القيامة، وتركه في عهدة المؤمنين. في معتقدنا، لا يمكن المساس بالأملاك الوقفية؛ ولا غنى عن شرط الطرف الذي أوقف هذه الملكية، وأن منتهكها يتعرض للعنة. ولذلك فإن آيا صوفيا منذ ذلك الوقت إلى يومنا ليس من مقدسات بلادنا فحسب؛ بل أيضاً من مقدسات أمة محمد ﷺ... aa.com.tr/ar/192 24/07/2020 إسطنبول/ الأناضول).

 

خامساً: لقد تحركت مفاهيم الإسلام في قلوب المسلمين، وبخاصة عندما سمعوا بشرى رسول الله ﷺ بفتح القسطنطينية، وأدركوا أن حكم الإسلام هو الذي فتح القسطنطينية، وهو الذي جعل آيا صوفيا مسجداً، واستمرت إسطنبول ومسجدها آيا صوفيا مركز الخلافة العثمانية نحن خمسمائة سنة، لذلك تحركت مفاهيم الخلافة في قلوبهم، بل وأُعلنت في بعض وسائل الإعلام كما جاء في مجلة (جيرشيك حياة - الحياة الحقيقية) فقد ذكرت الشرق الأوسط: الثلاثاء - 7 ذو الحجة 1441 هـ - 28 تموز/يوليو 2020م: [(في غضون ذلك، دعت مجلة (غيرشيك حياة-الحياة الحقيقية) في عددها الجديد، الصادر أول من أمس، بصورة مباشرة إلى إعلان الخلافة في تركيا. ونشرت المجلة على غلافها عبارة باللغة العربية تقول: (إذا ليس الآن فمتى؟)]. وقد كان الواجب أن يستجيب أردوغان لا أن يصرح المتحدث باسم حزبه ضد ذلك: [أنقرة (زمان التركية) - استنكر المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، عمرو شاليك، حالة الجدل التي انطلقت عقب افتتاح مسجد آيا صوفيا على إثر الدعوات لإعلان الخلافة. وكانت مجلة (غيرشيك حياة - الحياة الحقيقية)، صدرت اليوم بعدد منشور على غلافه عبارات تدعو لإحياء الخلافة الإسلامية مجدداً. وأوضح شاليك أن تركيا دولة قانون ديمقراطية وعلمانية واجتماعية، مفيدا أنه من الخطأ افتعال استقطاب سياسي بشأن النظام السياسي لتركيا... ثم استمر قائلا: (أدعو بالرحمة لقائد حرب الاستقلال ومؤسس الجمهورية وأول رؤسائها، مصطفى كمال (أتاتورك)، وجميع قادة حرب الاستقلال. سنصل بخطوات سليمة وراسخة إلى رغبات شعبنا بالقيادة الماهرة لرئيسنا. دعواتنا مع شعبنا وهدفنا هو بلد موحد. فلتحيا الجمهورية التركية)... زمان التركية 27/07/2020م]. وهكذا يكشف الناطق باسم الحزب الحاكم أن الأمر ليس لله بل لغرض دنيوي زائل!

 

فما هكذا يا رئيس الجمهورية التركية تورد الإبل! فمع أن كل مسلم صادق في إسلامه ينشرح قلبه بعودة آيا صوفيا مسجداً إلا أن كل مسلم صادق في إسلامه كذلك يريدها كما بدأها محمد الفاتح عنوان النصر والفتح المبين، شعلة مضيئة في تاريخ الخلافة العثمانية، الخلافة الإسلامية، تحقيق بشرى رسول الله ﷺ...هكذا يريدها كل مسلم صادق في إسلامه، مسجداً مشرقاً تخفق فوقه راية الإسلام، راية حكم الإسلام، راية الخلافة التي استظل بظلها نحو 500 عام، لا أن تكون عودة آيا صوفيا مسجداً غرضاً انتخابياً زائلاً، بلدياً أو برلمانيا! تستظل براية العلمانية والقوانين الوضعية التي تخدم مصالح الكفار المستعمرين وليس مصالح الإسلام والمسلمين!

 

سادساً: أما ما جاء في آخر السؤال (لقد أصبح عندنا شيء من الاضطراب في الحكم الشرعي بالنسبة لآيا صوفيا عند فتح محمد الفاتح لها، والذي نرجوه، ونكون لكم من الشاكرين، هو بيان الحكم الشرعي في معابد الكفار في البلاد المفتوحة، لتطمئن بالجواب قلوبنا...)

 

يا أخي لا يصح أن يكون هناك اضطراب في الحكم الشرعي، وحتى لو كانت هناك آراء مختلفة في بعض الفروع عند الفقهاء المسلمين فهي وفق ما يغلب على ظنهم بناء على فهمهم الراجح للأدلة الشرعية التي يصح الاحتجاج بها عندهم، ولذلك فلا اضطراب...

 

أما هذه المسألة فهي ليست جديدة بل بحثها الفقهاء من قبل وبتدبرها على وجهها يتبين ما يلي:

 

 إن البلاد المفتوحة لا تخرج عن إحدى هذه الحالات:

 

1- ما اختطه المسلمون وأنشأوه كالكوفة والبصرة وواسط وأمثالها، فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعة، ولا يُمَكَّنُ أهل الذمة لو دخلوه لبيع أو شراء ...إلخ من شرب الخمر واتخاذ الخنازير فهو دار إسلام أنشأه المسلمون... لقول النَّبِيِّ ﷺ: «لا تُبْنىَ بيعةٌ في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها»، أخرجه علاء الدين البرهان فوري (المتوفى: 975هـ)، في (كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال) عن ابن عساكر عن عمر، وكذلك أخرجه السيوطي في (الجامع الكبير). وقال ابن عباس برواية عكرمة عنه: «أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِنَاءً، أَوْ قَالَ: بِيعَةً»، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه.

 

2- ما فتحه المسلمون صلحاً، فالحكم في الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ على ما يقع عليه الصلح معهم، وَالأَوْلَى أَن يصالحهم على ما صالحهم عليه الخليفة عمر رضي الله عنه سنة 15هـ-638م في العهدة العمرية لأهل إيلياء (القدس) عندما فتحها المسلمون.

 

3- ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز إحداث شيء من ذلك فيه لأنه صار ملكاً للمسلمين، وما كان فيه من ذلك قبل الفتح ففيه وجهان:

 

أحدهما أنها بالفتح عنوة أصبحت بلاداً مملوكة للمسلمين، دار إسلام، فلم يجز أن تكون فيها بيعة أو كنيسة كالبلاد التي اختطها المسلمون.

 

والثاني يجوز بقاء دور عبادتهم لأن في حديث ابن عباس الذي أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: «أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ يَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ وَنَزَلُوا يَعْنِي عَلَى حُكْمِهِمْ فَلِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ...».

 

وبذلك فالأمر يعود للفاتح الذي فتح البلد عنوة حسب ما يراه من مصلحة الإسلام والمسلمين ورعاية شئون الرعية من مسلمين وأهل ذمة...

 

ولأن موضوع القسطنطينية يدخل في باب (الفتح عنوة) فسأنقل آراء لبعض الفقهاء لمزيد من الاطمئنان:

أ- جاء في (مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج) لمحمد الشربيني المتوفى 977هـ في شرح متن منهاج الطالبين للنووي المتوفى 676 هـ:

[(ونمنعهم إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، وَمَا فُتِحَ عَنْوَةَ لا يُحْدِثُونَهَا فِيهِ، وَلا يُقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ فِي الْأَصَحِّ، أَوْ صُلْحاً بِشَرْطِ الْأَرْضِ لَنَا، وَشَرْطِ إسْكَانِهِمْ، وَإِبْقَاءِ الْكَنَائِسِ جَازَ، وَإِنْ أُطْلِقَ فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ، أَوْ لَهُمْ قُرِّرَتْ، وَلَهُمْ الْإِحْدَاثُ فِي الْأَصَحِّ).

 

الشرح: (وَنَمْنَعُهُمْ) وُجُوباً (إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ) وَبَيْعَةٍ وَصَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ، وَبَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ (فِي بَلَدٍ أَحْدَثْنَاهُ)... (أَوْ) بَلَدٍ (أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْه)... (وَمَا) أَيْ وَالْبَلَدُ الَّذِي (فُتِحَ عَنْوَةَ) كَمِصْرِ وَأَصْبَهَانَ وَبِلادِ الْمَغْرِبِ (لا يُحْدِثُونَهَا فِيهِ)؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلاءِ فَيُمْتَنَعُ جَعْلُهَا كَنِيسَةً، وَكَمَا لا يَجُوزُ إحْدَاثُهَا لا يَجُوزُ إعَادَتُهَا إذَا انْهَدَمَتْ (وَلا يُقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ فِي الْأَصَحِّ) لِمَا مَرَّ... وَالثَّانِي يُقَرُّونَ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَمَحَلُّ الْخِلافِ فِي الْقَائِمَةِ عِنْدَ الْفَتْحِ...].

 

ب- جاء في فتح القدير لكمال الدين محمد المعروف بابن الهمام (المتوفى: 861هـ) (الفقه الحنفي):

(وَثَانِيهَا مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً فَلا يَجُوزُ فِيهَا إحْدَاثُ شَيْءٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَجِبُ. وَعِنْدَنَا جَعْلُهُمْ ذِمَّةً أَمْرُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كَنَائِسَهُمْ مَسَاكِنَ، وَيُمْنَعُ مِنْ صَلاتِهِمْ فِيهَا وَلَكِنْ لا تُهْدَمُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عن أَحمد لأن الصَّحَابَةَ فَتَحُوا كَثِيراً من البلاد عَنْوةً، ولم يهدموا كنيسة، ولا ديراً، ولم يُنقل ذلك قطُّ).

 

ج- جاء في المغني لابن قدامة المتوفى 620هـ:

(الْقِسْمُ الثَّانِي، مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً، فَلا يَجُوزُ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ؛ لأنهَا صَارَتْ مِلْكاً لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا، يَجِبُ هَدْمُهُ، وَتَحْرُمُ تَبْقِيَتُهُ لأنهَا بِلادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ، كَالْبِلادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ.

 

وَالثَّانِي يَجُوزُ؛ لأن فِي حَدِيثِ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ، فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ، فَنَزَلُوهُ، فَإِنَّ لِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ.)

 

سابعاً: وعليه فإن أجوبة التساؤلات الواردة في السؤال هي باختصار كما يلي:

1- إذا فتحت البلاد صلحاً فهي على حسب شروط الصلح، والأَوْلى كما جاء في العهدة العمرية عند فتح بيت المقدس...

 

2- وإذا فتحت البلاد عنوة، فيعود الأمر إلى الحاكم المسلم الفاتح أن يبقيها لعبادتهم أو لا يبقيها لعبادتهم، وفق ما يتبناه من باب مصلحة الإسلام والمسلمين ومن باب رعاية شئون الرعية مسلمين وأهل ذمة.

 

3- ولذلك فما فعله محمد الفاتح، رحمه الله ورضي عنه، بتحويل آيا صوفيا مسجداً هو من صلاحياته، لأن البلد فتحت عنوة.

 

4- هناك روايات تفيد أن محمداً الفاتح دفع إلى بابا الروم الأرثوذوكس ثمن شراء آيا صوفيا، من باب حسن المعاملة مع أهل الذمة، أي النصارى في إسطنبول، وبعض الوثائق التاريخية حسب تلك الروايات تؤكد أن السلطان (محمد الثاني) المعروف بـ (محمد الفاتح) دفع ثمن الشراء المذكور [من أمواله وليس أموال الدولة، وسجله بصك ملكية خاص باسمه، وتم توثيق الأمر من خلال عقد بيع وتنازل عن الملكية، وإثبات تسديد المبلغ بسندات دفع، وذلك بعد فتح مدينة القسطنطينية خلال فترة حكمه للدولة العثمانية. ثم قام بتطويب العقار لمصلحة جمعية كوقف باسم (أبو الفتح السلطان محمد)...]، وسواء أصحت هذه الروايات أم كان فيها مقال من حيث الشراء، فإن الحاكم الذي يحكم بالإسلام إذا فتح بلاد الكفار عنوة، فيجوز له أن يُبقي معابدهم ويجوز أن لا يبقيها كما بيناه أعلاه...

 

5- أما عن صحة الصلاة مع وجود تلك الرسوم على الجدران والاكتفاء بتغطيتها وقت الصلاة، فما دامت مغطاة فالصلاة صحيحة... ولكن لا يجوز كشفها بعد الصلاة والدولة تأثم بذلك إثماً كبيراً، فالحكم الشرعي هو تحريم الصور على جدران المسجد أو أي مكان فيه، وإن وجدت فيجب إزالتها وإن تعذر ذلك لسبب ما فيجب أن تطمس بشكل نهائي بوسيلة مناسبة لا أن تعود فتكشف. ومن الأدلة:

 

- أخرج البخاري عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ "يعني الكعبة" لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ...» وأخرجه كذلك ابن حبان في صحيحه.

 

- أخرج أحمد في مسنده عن جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ نَهَى عَنِ الصُّوَرِ في الْبَيْتِ وَنَهَى الرَّجُلَ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ وَأَنَّ النَّبِىَّ ﷺ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ زَمَنَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ أَنْ يَأْتِي الْكَعْبَةَ فَيَمْحُوَ كُلَّ صُورَةٍ فِيهَا وَلَمْ يَدْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى مُحِيَتْ كُلُّ صُورَةٍ فِيهِ» وأخرجه كذلك البيهقي في السنن الكبرى.

 

وعليه فيحرم وضع الصور في المسجد أو المصلى في جميع الأوقات، لا أن تُغطّى فقط وقت الصلاة ثم تُكشف بعدها، وتأثم السلطة بخلاف ذلك.

 

وفي الختام فإني أسأل الله سبحانه أن يعجل بإقامة الخلافة على أيدي العاملين لها من المسلمين فيتحقق على أيديها كل ما بشرنا به رسول الله ﷺ: تحرير الأرض المباركة من رجس يهود، وأن تفتح روما بعد أن فتحت سابقتها القسطنطينية، ومن ثم تشرق الأرض بعز الإسلام من جديد، وتخفق راية الإسلام فوق ما سواها من رايات ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.

 

يوم عرفة 1441هـ

2020/07/30م

للمزيد من التفاصيل