بسم الله الرحمن الرحيم

جواب سؤال

أبعاد حملة حفتر على الجنوب الليبي

 

السؤال: لماذا يقوم حفتر عميل أمريكا في ليبيا بتشتيت قواته في الجنوب الليبي الواسع، ولا يقوم بتركيز جهوده ضد الغرب الليبي الموالي للأوروبيين وحسم ليبيا لصالحه؟ فالنفوذ والثقل كله في الشمال غربه وشرقه، وليس في الجنوب، أم أن هناك أهدافاً أخرى لحملته على الجنوب؟

 

الجواب: نستعرض الأمور التالية لكي يتضح الجواب:

 

أولاً: بعد أن سيطر حفتر عميل أمريكا على مدينة بنغازي فقد أصبح يسيطر على الشرق الليبي، وبحسمه الصراع لصالحه في مدينة درنة منتصف 2018 فقد أحكم حفتر قبضته على شرق ليبيا تماماً، وبانتقال المعارك إلى منطقة الهلال النفطي فقد زادت سخونة الصراع في ليبيا بين عملاء أمريكا بقيادة حفتر وعملاء الأوروبيين بقيادة السراج في طرابلس، وبتمكنه من بسط السيطرة على الهلال النفطي فإن كفته العسكرية قد باتت ترجح على حكومة السراج. لكن قوته العسكرية المدعومة من عميل أمريكا السيسي ليست حاسمة تماماً لتمكنه من أخذ غرب ليبيا، حيث تصده الدول الأوروبية نفسها عن غرب ليبيا، وكذلك قرب تلك المنطقة من الجزائر الموالية للأوروبيين. وهذا الخوف من الجزائر وتدخلها ظاهر غير خفي في تصريحات حفتر (تبرأ وزير الخارجية الليبي طاهر سيالة الاثنين من "التصريحات غير المسؤولة" للمشير خليفة حفتر والتي هدد فيها بـ"نقل الحرب الليبية إلى الجزائر في لحظات..." وكان حفتر قد أعلن أن الجزائر "تستغل الأوضاع الأمنية في ليبيا" وأن "جنودا جزائريين تجاوزوا الحدود الليبية... فرانس 24، 10/9/2018).

 

ثانياً: وهذا الواقع من دعم مصر السيسي ومن ورائها أمريكا لحفتر والذي جعله يسيطر على شرق ليبيا ومنطقة الهلال النفطي، والواقع المقابل الذي تمثله حكومة السراج واستعداد الجزائر للدفاع عنها بحكم القرب الجغرافي، والأوروبيون الذين يقفون خلفها... هذا الواقع والواقع المقابل أوجد نوعاً من التعادل وإن كانت الكفة العسكرية تتجه للميل نحو حفتر بسبب الدعم الأمريكي الكبير الذي يتناسب مع رؤيتها للحل في ليبيا، أي فتح المفاوضات بعد أن يصبح وضع حفتر حاسماً أو شبه حاسم. لكن ومن زاوية الوسط السياسي فإن الكفة لا تزال تميل لصالح السراج، فالنفوذ الأوروبي يضمن له السيطرة على طرابلس العاصمة، وما فيها من ثقل للوسط السياسي التابع لأوروبا. وبهذا فلا يستطيع حفتر التقدم وأخذ العاصمة ولا يستطيع فتح المفاوضات الجدية مع حكومة السراج ليظهرا كطرفين متساويين... وهذان المأزقان لطرفي الصراع في ليبيا قد أوجدا حالة من الجمود لا تمكن أياً من الطرفين من الحسم، لذلك كان الانتقال بالمعارك إلى جنوب ليبيا يشكل مخرجاً لحفتر حتى يتمكن من زيادة رقعة سيطرته العسكرية ومن ثم يجري الحل بتأثير أمريكي أقوى من تأثير أوروبا. وهذا ما كان، فـ(أطلقت قوات المشير خليفة حفتر الأربعاء عملية عسكرية واسعة في جنوب البلاد بهدف "تطهيرها" من الجماعات المسلحة بما في ذلك عناصر تنظيم "الدولة الإسلامية" المتطرف، والعصابات الإجرامية، بحسب ما أعلن متحدث باسم الجيش الوطني الليبي... فرانس 24، 17/1/2019)، فتحت عناوين (الإرهاب والعصابات الإجرامية) تدفع أمريكا بعميلها حفتر نحو الجنوب الليبي لتحقيق أغراض كثيرة محلية وإقليمية لتعزيز نفوذها والقضم من نفوذ الدول الأوروبية.

 

ثالثاً: وبالتدقيق نجد أن حملة حفتر على جنوب ليبيا تحقق له، وللنفوذ الأمريكي هدفين على صعيد الصراع داخل ليبيا، وتحقق لأمريكا كذلك هدفين آخرين ضد أوروبا وضد نفوذها في أفريقيا، وتفصيل ذلك على النحو التالي:

 

1- أما الهدفان على صعيد الصراع داخل ليبيا فهما:

 

أ- السيطرة على مساحة كبيرة، فإذا تمكن حفتر من بسط سيطرته العسكرية على تلك المساحات الشاسعة جنوبي ليبيا فإن ذلك سيوفر له الكفة الأرجح في المفاوضات أيضاً، ففضلاً عن الأهمية العسكرية الداخلية للسيطرة على مدن كمدينة سبها وغيرها من بلدات الجنوب فإن ذلك سيمكنه من اكتساب المزيد من "الشرعية" باعتباره الطرف الممسك بالقدر الأكبر من الأراضي الليبية، وما لذلك من آثار في الحلول السياسية، وإن كان اقترابه من الحدود الجزائرية من جهة الجنوب يشكل خطراً عليه، لكنه ربما يطمح بتوطيد ذلك والجزائر منشغلة بالانتخابات الرئاسية.

 

ب- السيطرة على الاقتصاد الليبي، وذلك أنه بعد كر وفر فقد أحكمت قوات حفتر قبضتها على الهلال النفطي منتصف 2018، ونقلت عائداتها إلى فرع المؤسسة الوطنية للنفط في بنغازي بدلاً من طرابلس، وبذلك فقد حرمت حكومة السراج من نفط منطقة الهلال النفطي من ناحية، وأصبح حفتر يتهيأ لتصديره لصالحه من ناحية أخرى، لتنتقل المعركة بعد ذلك إلى موانئ النفط، أي لمنع حفتر من تصديره، فسيطرت مليشيات الجضران على مينائي السدرة ورأس لانوف، وكانت حكومة السراج في طرابلس تعتبره (الجضران) آمرا شرعيا لحرس منشآت النفط، لكن هذا لم يثبت لحكومة السراج (ثم اندلعت بعدها اشتباكات عنيفة مع قوات الجيش الليبي، وبعد ذلك أعلنت القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، يوم 21 حزيران/يونيو الجاري، عن السيطرة على منطقة رأس لانوف والسدرة بالكامل... سبوتنيك الروسية 7/7/2018)، فسيطر حفتر على الهلال النفطي بما في ذلك موانئ التصدير. ومنذ ذلك التاريخ فإن جهود حكومة الوفاق برئاسة السراج كانت ولا تزال تركز على منع الدول من استيراد النفط الليبي من منطقة الهلال النفطي الذي تسيطر عليه قوات حفتر، فانخفضت الطاقة التصديرية من ليبيا بشكل كبير، وظلت حكومة السراج تصدر النفط المستخرج من صحراء مرزوق، خاصة حقلي "الشرارة 300 ألف برميل يومياً، والفيل 125 ألف برميل"... وبانتقال المعارك غير الساخنة كثيراً إلى الجنوب، وبسيطرة قوات حفتر على حقل الشرارة النفطي بالقرب من مدينة سبها (قال متحدث باسم قوات شرق ليبيا اليوم الاثنين على تويتر "القوات المسلحة استكملت بسط سيطرتها الكاملة على حقل الشرارة بكامل منشآته الرئيسية سلمياً دون أي اشتباك وتقوم الآن بتأمينه بالتنسيق مع إدارة الحقل"... اليوم السابع 11/2/2019)، فإن ذلك يضيف قوة نفوذ اقتصادية لحفتر. وهذا الحقل النفطي الكبير الذي كانت يمكن أن تصل إنتاجيته لـ400 ألف برميل يومياً ومملوك لشركة إسبانية هو محل صراع كبير بين عميل أمريكا حفتر وعملاء أوروبا في طرابلس... وبهذا التطور، أي سيطرة حفتر عليه، والتي تتيح له السيطرة بسهولة على ما خلفه من حقول إلى أقصى الجنوب خاصة حقل الفيل فإن حكومة السراج تكون قد فقدت شريانها الاقتصادي، وبقيت تعتمد على المظلة الدولية لأوروبا لمنع حفتر من تصدير النفط، وإجباره على التصدير من خلال مؤسسات طرابلس النفطية، ومع ذلك فهو يسيطر على المنابع، ويترك مسألة التصدير عبر الموانئ وخطوط الأنابيب التي لا يسيطر عليها إلى مفاوضات يحقق من خلالها أغراضه المالية بما يمكنه من ضخ الأموال في شرايين قواته العسكرية...

 

2- وأما الهدفان ضد أوروبا وضد نفوذها في أفريقيا فهما:

أ- إبقاء الهجرة من أفريقيا صداعاً لأوروبا... وهذا هدف أمريكي ضد أوروبا يتمثل بمنعها من إنشاء قواعد عسكرية في ليبيا بحجة وقف الهجرة الأفريقية إليها. فسيطرة عميل أمريكا حفتر على المنشآت العسكرية في العمق الليبي، ومعظمها مطارات ومهابط تحرم الدول الأوروبية من استخدامها سواء لنفوذها في ليبيا أم لأهداف إقليمية في أفريقيا. إذ وبحجة وقف الهجرة الأفريقية إلى أوروبا تقوم الدول الأوروبية ببناء موطئ قدم لها في تلك المنشآت، الأمر الذي ترفضه أمريكا وعميلها حفتر (حذر اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر من سعي أطراف دولية إلى إنشاء وجود عسكري لها في بعض مناطق الجنوب الليبي. وقال حفتر إنه في الوقت الذي تحرص فيه القيادة العامة على إنشاء علاقات دافئة وشراكات استراتيجية متوازية مع كل الأطراف الدولية، ترد معلومات عن رغبة بعض الأطراف الدولية في إنشاء وجود عسكري لها في الجنوب الليبي... وذكرت مصادر ليبية أن وفدا أمنيا وعسكريا إيطاليّا زار مدينة غات "أقصى جنوب غربي ليبيا" أمس الخميس، بهدف إنشاء نقطة ارتكاز عسكرية ومدنية إيطالية، بتمويل أوروبي، لضبط حركة الهجرة غير الشرعية... الجزيرة نت 29/6/2018)، وبسيطرة حفتر على مناطق مهمة في الجنوب فإنه يحرم الأوروبيين من التمركز وبناء قواعد عسكرية جنوبي ليبيا (وأعلنت غرفة عمليات القوات الجوية التابعة للقيادة العامة للجيش الليبي، حظر الهبوط والإقلاع من وإلى مطارات ومهابط المنطقة الجنوبية إلا بعد موافقتها، محذرة أي طائرة من الهبوط في مجال المنطقة الجنوبية إذا حلقت بدون تصريح من قيادة الجيش الليبي... اليوم السابع 8/2/2019)، وهكذا فإن أمريكا وبدفع حفتر إلى الجنوب تكون قد قيّدت التحركات الأوروبية في الجنوب الليبي، وأبقت مشكلة المهاجرين الأفارقة عصا صداع يؤرق أوروبا.

 

ب- العمل ضد النفوذ الأوروبي في منطقة الصحراء حيث لا تقتصر أهداف حملة حفتر في الجنوب الليبي على تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، فأمريكا تخطط، بل وآخذة مباشرةً في تنفيذ هدف إقليمي لزعزعة النفوذ الفرنسي في منطقة الصحراء... فبسبب ضعف الحكومة المركزية في طرابلس فإن حالة الفراغ التي آل إليها جنوب ليبيا قد خلقت بيئة مناسبة للنشاط المسلح لجماعات المعارضة الأفريقية في جنوبي ليبيا. فنمت جماعات المعارضة التشادية والنيجرية والسودانية وترعرعت، بل وأصبحت عنصراً في معادلة القوة الداخلية في ليبيا، وهي قوات معتبرة لا يستهان بها، فقد (قالت جريدة "الوحدة" التشادية الصادرة باللغة الفرنسية، اليوم الأربعاء، إن حوالي 11 ألفاً من عناصر المعارضة التشادية منتشرون حالياً في جنوب ليبيا... بوابة الوسط 4/4/2018)، وبوجود ذريعة "الإرهاب" التي تبرر أمريكا تدخلاتها بها، وتوحي لعملائها بركوب موجتها تتقدم أمريكا علناً للتدخل في ليبيا (قال مسؤول ليبي إن قوات أمريكية وليبية نفذت غارة مشتركة على موقع يتمركز به عدد من أنصار تنظيم القاعدة بضواحي مدينة أوباري يوم الأربعاء... يورو نيوز عربي 14/1/2019)، وذريعة الإرهاب الأمريكية تلك هي نفسها التي يستخدمها حفتر "لتطهير المنطقة من الجماعات الإرهابية والمسلحة".

 

والجماعات ذات الثقل العسكري جنوبي ليبيا هي الحركات التشادية، (وأطلق الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر في كانون الثاني/يناير الماضي حملة عسكرية في جنوب غربي البلاد ضد مجموعات مسلحة أكبرها تابعة للمعارضة التشادية... آر تي 12/2/2019)، وقال "الجيش الوطني الليبي" الذي أعلنه حفتر، في بيان مقتضب، إن ("مقاتلات سلاح الجو العربي الليبي تناوبت على دك ثلاثة تجمعات للعصابات التشادية وحلفائها في جنوبنا الحبيب"... العربية نت 8/2/2019)

 

ج- ومن هذا يتضح تماماً بأن حملة حفتر جنوبي ليبيا تقوم بعملية طرد منظمة لتلك الجماعات من ليبيا، أي دفعها خارجها لتكون لها مهمة أخرى في تشاد، وهي إيجاد القلاقل للنفوذ الفرنسي فيه، وهو الأمر الذي حدث فوراً ودون تأخير، فقد (قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان يوم الثلاثاء إن القوات الفرنسية قصفت قافلة للمتمردين في تشاد لمنع حدوث انقلاب ضد الرئيس إدريس ديبي. واستجابة لطلب من ديبي قصفت طائرات حربية فرنسية قافلة مدججة بالسلاح للمتمردين

 

عبرت الأسبوع الماضي من ليبيا وتوغلت في الأراضي التشادية. وقال لو دريان لأعضاء البرلمان "شنت مجموعة متمردة جاءت من جنوب ليبيا هجوما... للاستيلاء على السلطة بالقوة في نجامينا. الرئيس ديبي طلب منا كتابة التدخل لمنع وقوع انقلاب وحماية بلاده" رويترز 12/2/2019). ولأن هذه الأخطار التي يدفع بها عميل أمريكا حفتر باتجاه تشاد حقيقية فإن فرنسا تنشر قوة كبيرة في العاصمة التشادية للدفاع عن عميلها إدريس ديبي (وتنشر فرنسا 4500 جندي في العاصمة التشادية نجامينا في إطار عملية تعرف باسم قوة برخان لمكافحة الإرهاب). المصدر السابق.

 

د- وبهذا كله يتبين بأن أمريكا ومع تغلغلها في ليبيا، ورغم عدم قدرة عميلها على حسم الموقف في مناطق غرب ليبيا لصالحه بسبب الدعم الأوروبي لحكومة السراج فإنها، أي أمريكا، قد انتقلت لزعزعة النفوذ الفرنسي في تشاد، وما حصل من تقدم معارضي إدريس ديبي داخل الأراضي التشادية قادمين من جنوب ليبيا يمكن أن يكون مقدمة لما هو قادم، أي أن تستعر المعارك في تشاد وربما بعدها النيجر ضد النفوذ الفرنسي، وضد هيمنة الشركات الفرنسية خاصة على مناجم اليورانيوم في تلك المنطقة.

 

رابعاً: والخلاصة هي أن حفتر وبالدعم العسكري الكبير الذي توفره أمريكا له، خاصة عبر مصر، فإنه قد تمكن من شق ليبيا إلى شطرين، سيطر بالكامل على الشق الشرقي، وسيطر على الهلال النفطي عصب اقتصاد ليبيا، وتمكن من إحداث اختراق في الشق الغربي، وها هي توجهه إلى الجنوب لمزيد من السيطرة العسكرية والاقتصادية. وهكذا فإنه في ظل حالة من الجمود الناتج عن استعصاء غرب ليبيا بسبب الخوف من الجزائر والدعم الأوروبي الكبير لحكومة السراج، فإن أمريكا تدفع حفتر لتحقيق أهداف أخرى لها، تزيد بها من إرهاق الدول الأوروبية في مسألة الهجرة، وتهاجم من زاوية أخرى النفوذ الفرنسي في الدول المجاورة بدءاً من تشاد...

 

هذه هي أبعاد حملة حفتر على الجنوب الليبي، ومنها يتضح بأن دول الكفر تعيث في ليبيا فساداً من أجل مصالحها ونفوذها، ويقاتل من أجل ذلك أطراف من المسلمين دون أن يرعوا لله حرمة في قتل إخوانهم وفي إهدار خيرات بلادهم النفطية. ولن يقضي على هؤلاء العملاء ومن ورائهم دول الكفر، وعلى الشر الذي ينشرونه في ديار الإسلام إلا أن يهب المسلمون هبة جد لا هزل فيها، فيقيموا شرع الله ويعلنوا خلافتهم التي ستعيد الأمور إلى نصابها، وتجعل آمال دول الكفر بالبلاد الإسلامية كوابيس مرعبة لهم...

 

﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾

15 جمادى الآخرة 1440هـ

الموافق 20/2/2019م

للمزيد من التفاصيل