استفتاء سويسرا القشة التي قصمت "حرية العقيدة"
علاء أبو صالح/عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
لا زالت الأفكار الغربية تتداعى فكرة تلو الأخرى ويتكشف للعالم بأسره مدى خطأ وزيف الفكر الرأسمالي الذي طالما تشدق به الغرب ومن ضبع بثقافته، وليس آخرها تداعي فكرة حرية العقيدة.
لقد زعم المبدأ الرأسمالي بأنه يدعو إلى حرية العقيدة بجانب دعوته إلى الحرية الشخصية وحرية التملك وحرية الرأي، وطوال العقود المنصرمة بقي الغرب يروج لهذه الفكرة باعتبارها هي الفكرة التي تطلق العنان للمرء ليختار الدين الذي يقتنع به، وتنأى بالإنسان عن دائرة التسيير وتبقيه في دائرة التخيير، كما شن الغرب هجوماً عنيفاً على الإسلام باعتباره لا يقبل من المسلم سوى الإسلام ديناً، وهاجم عقوبة المرتد عبر اعتباره هذه العقوبة تخالف حقوق الإنسان الطبيعية وتتنافى مع حرية الاعتقاد، وانساق وراء هذه الهجمة جمهرة من العلماء الذين انبروا للدفاع عن الإسلام فرضوا بأن يكون الإسلام متهماً ورضوا بأن تكون الثقافة الغربية هي مقياس الصحة والخطأ للأحكام الشرعية، كما أنهم قاموا بلي أعناق النصوص بقصد أو بغير قصد لتتلاءم مع الدعاوى الغربية في حرية الاعتقاد، فقالوا إن في الإسلام حرية اعتقاد فالله عز وجل يقول (لا إكراه في الدين) وتجرأ بعضهم على دين الله فعطّل عقوبة قتل المرتد وترك للمرء الخيار بين الارتداد أو البقاء في حظيرة الإسلام.
لكن تعاقب السنين وتقلب الحوادث كان كفيلاً بكشف خطأ وزيف الأفكار الغربية حتى لضعاف النظر، برغم أن من كان له عقل ويحاكم الأفكار محاكمة صحيحة موضوعية وفق معايير عقلية ثابتة، كان قادراً على إدراك فساد المبدأ الرأسمالي وما انبثق عنه من أفكار كفكرة الحريات ومنها حرية الاعتقاد منذ اللحظة الأولى لولادة هذا المبدأ.
 لقد فضح استفتاء سويسرا الأخير على حظر بناء مآذن للمساجد هناك ومن قبله منع الحجاب في فرنسا ما تستر به الغرب من دعاويه الكاذبة، ودل على أن فكرة حرية العقيدة هي فكرة كاذبة وفارغة المضمون، وأن الغرب حتى في تطبيق أفكاره يطبقها انتقائياً ووفق أجندات صراع الحضارات.
لقد روج الغرب لفكرة حرية الاعتقاد في بلاد المسلمين في محاولة منه لثني المسلمين عن دينهم وصدهم عن عقيدتهم، عبر تشجيعه للكتّاب والمؤلفين الذي حاربوا الإسلام وكتبوا كتابات ساذجة ضد الإسلام وعقيدته فجعل منهم أدباء ومنحهم الجوائز والألقاب، وعبر الحكام النواطير الذين شجعوا كل توجه يطعن في الإسلام وأحكامه، ولكن الحق أبلج وأقوى، وقوة مبدأ الإسلام الفكرية-برغم ضياع سلطانه- كانت كفيلةً بالتصدي لهذه الهجمة، بل إن الإسلام وعبر حركات وأحزاب وأفراد كان قادراً على أن يرد هذه الهجمة إلى عقر دار الدول الغربية.
 ولما ارتد الأمر ليصل بلاد الغرب وبات المبدأ الرأسمالي في مهب الريح حتى في ظل عدم وجود دولة ذات مبدأ وحضارة تجابهه، وأصبحت أعداد من يعتنقون الإسلام من الدول الأوروبية مثار جدل ودافع خوف وهلع لدى الحكومات الغربية خضعت فكرة حرية الاعتقاد للنفي والتبديل. وكذلك صنعت العديد من الحكومات الغربية نفس الصنيع في حرية الرأي، ففكر حزب التحرير مثلاً يُحارب من قبل الحكومات الغربية –كالحكومة الألمانية والبريطانية والروسية- بدعوى أنه فكر متطرف برغم أن تلك الحكومات تعترف بأن حزب التحرير لا يقوم بأعمال مادية ونهجه نهج فكري سياسي، ولكنها تكيل له التهم جزافاً لأنه لا يسير وفق منظمومة الأفكار التي تحاول تلك الحكومات فرضها على الجالية الإسلامية هناك باسم الاندماج، وهي في الحقيقة تسعى لفرض الأفكار الرأسمالية على المسلمين فرضاً وتهدد كل من تسول له نفسه بمخالفة تلك الأفكار بأنه سيلاقي نفس المصير فستكال له التهم وسيوصف بالإرهاب والتطرف سعياً لإسكاته، إذ أن أفكارهم لا تقوى على مجابهة الفكر الإسلامي، الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، فتلجأ تلك الحكومات إلى القمع والتهديد حالها كحال الأنظمة الدكتاتورية القائمة في بلاد المسلمين بل كحال الأنظمة الشيوعية البائدة.
بينما من ينعم النظر في مبدأ الإسلام يرى عدالة دعوته وإنصاف أحكامه، برغم أن الكثير من أحكامه الشرعية التفصيلية ليست معللة وعقل الإنسان يقف قاصراً عن إدراك فوائد تلك الأحكام لأنها صدرت من حكيم خبير فوق إدراك عقول البشر. فالإسلام في جانب الاعتقاد دعا البشر لاعتناقه بالدليل العقلي وخاطب عقولهم بالحجة والبرهان ولم يجبر أحداً على اعتناقه، وآيات القرآن الكريم تزخر بالخطابات الموجهة للعقول المفكرة والمستنيرة، كما لم يجبر الإسلام أحداً من أهل الذمة ممن يعيشون في كنف الدولة الإسلامية ولا يدينون بدين الإسلام على اعتناقه بل سنّ لهم أحكاماً حفظت لهم خصوصياتهم، فلهم الحق أن يُتركوا وما يعتقدون ويعبدون، ولكنه خاطبهم بالحكمة والموعظة الحسنة ودعاهم للإسلام لما يمثله من هداية لهم وانعتاق من عبودية الأديان المحرفة والمبادئ الخاطئة إلى عبودية رب العالمين، فمن آمن بالإسلام آمن به عن عقل وبينة، ومن ارتد عنه حُق عليه حكم الله في المرتد، وليس في ذلك ظلماً أو حجراً على عقل الإنسان، فالإسلام لم يلامس قلب الإنسان إلا بعد الاقتناع بالحجة والبرهان ولمن شك في الإسلام ولو بعد حين أن يناقش في صحته فتقام عليه الحجة والدليل، وهذا مغزى الاستتابة التي تسبق حكم قتل المرتد، ومن قامت عليه الحجة والدليل وأراد البغي والفساد شرع للدولة أن تطبق عليه حكم الله في المرتد، فالفكر الصحيح بحاجة إلى مثل هذه العقوبات الرادعة ليُحفظ من عبث العابثين والمفسدين، ولنا في قصة اليهود في زمن الرسول عليه السلام خير مثال على ذلك، فالله عز وجل قد حكى لنا حكاية إفسادهم وعبثهم بقوله سبحانه: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
إن أحكام الإسلام هي أحكام شرعية وليست بحاجة لعقولنا القاصرة لندرك صحتها فهي منزلة من حكيم خبير، وهذه الأحكام عندما طبقت في ظل الخلافة جلبت الخير للبشرية جميعاً حتى أن أهل الذمة قد عاشوا في كنفها آمنين مطمئنين.
إن المبدأ الرأسمالي مبدأ باطل منذ نشأته فهو لم يقم على أساس فكري صحيح بل كانت فكرة فصل الدين عن الحياة مجرد حل لإشكالية وقعت بين رجال الدين والفلاسفة الملحدين لا نتيجة بحث عقلي في الكون والإنسان والحياة، وكل ما بني على هذا الأساس كان باطلاً، ولكن تحكّم الدول الرأسمالية في العالم اليوم وغياب الحكم بالإسلام مكن هؤلاء أن يصولوا ويجولوا ويروجوا بأساليبهم الخبيثة ووسائل إعلامهم الكاذبة لكل من يطعن في الإسلام ويعلي شأن الفكر الغربي، بيد أن فألهم قد خاب وسهمهم قد طاش، فوعي المسلمين المتنامي على أفكار الإسلام وتسارع الأيام والسنين والحوادث كان كفيلاً ليكشف لكل من كان له عقل حقيقة هذا المبدأ الواهن والمتداعي ويكشف أن الغرب إنما يسعى لفرض الرأسمالية على العالم وبالأخص على المسلمين فرضاً ولكنه يتلاعب بالإعلام وبالعقول فيظن الرائي لفكره المتداعي أن في جعبته الماء الزلال وهو في الحقيقة محض سراب.
إن مبدأً يسخر البشر تسخير العبيد لخدمة طبقة رأسمالية قليلة تتحكم في ثروات وموارد البشر ويسخر القوانين والأفكار والعقائد للحفاظ على مصالحهم جدير بالبشر أن يسارعوا في التخلص منه ومن كوارثه، وجدير بالبشر أن يبحثوا عن ملاذ لهم ينير لهم الدرب ويحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم ولن يكون ذلك إلا الإسلام.