العلمانية عدوة للإنسانية ومفسدة لحياتها

المهندس باهر صالح

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

إنّ الناظر إلى مسألة الأقليات وما تعاني منه في المجتمعات الغربية خاصة، وفي بلاد المسلمين التي تُطبق فيها العلمانية أيضا، يرى الظلم والجور ماثلا أمام عينيه، بؤس وفقر وتهميش لشرائح واسعة من المجتمع، في مقابل طبقة مرفهة متنعمة متغطرسة على باقي المجتمع، وهذا الظلم الذي يصل إلى درجة السحق أحيانا يبدو جليا ومقننا أحيانا  كثيرة حينما يتعلق الأمر بالأقليات الدينية أو العرقية أو الثقافية.

وهذا الأمر لا يعتبر طفرة تحدث في بعض المجتمعات الديمقراطية العلمانية، بل هي ظاهرة ولها جذورها الفكرية والعقدية لديهم، وغيابها أمر غير متوقع في تلك المجتمعات ومن يحذو حذوها. فالإنسان مهما سما بعقله وروحه لا يمكن أن يتجاوز حدوده وإمكانياته، فالإنسان إنما يصدر الأحكام على الأشياء والأفعال ضمن ما يدرك وما يحس، لا أكثر، ومهما حاول الإنسان أن يتخيل أو يتوقع حدوث مشكلات لإصدار معالجات لها، لا يمكنه أن يحيط بنتائج المعالجات السلبية والإيجابية لقصور عقله. فالإنسان إنما يصدر الأحكام ويتخذ المقاييس والقناعات بناء على قدرته العقلية التي فطرها الله لديه. وعندما يقرر الإنسان ظلما وعدوانا أن يجعل التشريع للعقل، كما فعلت العلمانية والديمقراطية حين قالت بضرورة فصل الدين عن الحياة، حينها يصبح المجتمع تحت رحمة المشرعين، الذين هم في أحسن أحوالهم أعجز وأضعف من أن يستطيعوا أن يشرعوا ما يصلح للإنسان، بفرديته ومجتمعه، لقصور المشرعين عن إدراك ما لا يقع تحت حسهم.

والواقع أنّ هذا الفشل في التشريع هو في أحسن أحواله يكون بسبب قصور العقل، ولكن في العادة هناك عامل أخر هو أدهى وأمر، وهو ما يسمى بالهوى، فالمشرعون ما هم إلا بشر بغرائزهم وحاجاتهم العضوية التي لا تعرف حدا ولا تتوقف عند مقام، وفي ظل غياب الوازع الديني والروح عند المشرعين، فإن الغرائز لا يوجد ما يضبطها أو يلجم طموحها، فتنطلق الشهوات وتتأجج العواطف، فيتحول المشرعون إلى أشبه بوحوش الغاب يريدون أن يشرعوا ما يأكلون به الأخضر واليابس، وهنا تبدأ المعاناة والمأساة للمجتمعات. فكل المجتمعات التي يسود فيها حكم البشر لا شك أن الظلم سيملؤها، والطغيان والاستبداد لا محالة سيجد طريقه المعبد إليها، حينها يتحول المجتمع إلى مزرعة خاصة للمشرعين وأصحاب القرار.

وهذا ما كان في المجتمعات الغربية، ففي العصور الوسطى عندما أطلق رجال الدين والملوك لأنفسهم العنان وشرعوا للناس نظام حياتهم ومعاشهم باسم الدين، ظهر الاستبداد والطغيان في المجتمع وأصبح الناس أشبه بعبيد لدى رجال الدين والملوك، حتى جاء من سموا بالفلاسفة الملحدين وثاروا على رجال الدين والقياصرة والملوك مطالبين بإلغاء دورهم في المجتمع، وتوصلوا إلى حل وسط بضرورة فصل الدين عن الحياة أو عن السياسة، وبذلك بدلا من أن ينهوا عهد الاستبداد والظلم بأن يرجعوا التشريع إلى خالق الكون والإنسان والحياة، بدؤوا عهدا جديدا من الاستبداد والظلم رواده هم الحكام والمشرعون، وبذلك أصبحت المجتمعات مزرعة للحكام وللرأسماليين تحت مسمى الديمقراطية وحكم الشعب.

فتحت ذريعة الديمقراطية وحكم الشعب تحكم الرأسماليون والحكام برقاب الناس، وبدؤوا بوضع القوانين والتشريعات التي تقنن لهم جشعهم وطمعهم اللامحدود، فانتشر البؤس والفقر والتهميش لشرائح واسعة من المجتمع، وخاصة ما يسمى بالأقليات الدينية أو العرقية أو الثقافية.

وهذا أمر طبيعي ومتوقع حصوله، إذ أنه عندما يُبنى المجتمع على أساس عقيدة باطلة فاسدة، لا يمكن أن ينشأ عنها أفكار صالحة ترعى المجتمع وتأخذ بيده إلى الرقي والسعادة، فعقيدة فصل الدين والحياة، عقيدة باطلة عقلا، لا تقنع العقل ولا توافق الفطرة، فالعقل يحتم أن يكون لهذا الكون خالق خلقه، ويسلم بحاجة الإنسان العاجز والمحتاج والناقص، إلى من يشرع له شرعة ومنهاج حياة تصلُح له وتصلِح له حياته ومعاشه، كما أنّ الفطرة تنطق بضرورة التجاء الإنسان واستناده إلى خالق خلق هذا الكون والإنسان والحياة، وأي عقيدة تنكر وجود هذا الخالق أو حاجة الإنسان إلى خالق يضع له نظاما ينظم به شئون حياته، هي عقيدة باطلة عقلا وفاسدة فطرة، فلا تقنع العقل ولا توافق الفطرة.

والحقيقة أنّ ما يترتب على السير على أي عقيدة باطلة هو كوارث اجتماعية وسياسية وأخلاقية واقتصادية و..، فعندما تبنى الغرب الديمقراطية بعقيدتها العلمانية ونظامها الاقتصادي الرأسمالي، اكتوى العالم بويلاتها وشرورها. فعلى الصعيد الإنساني، باتت المجتمعات الغربية أشبه بالغاب، القوي يأكل فيها الضعيف، والغني يستعبد فيها الفقير، وبات من الطبيعي أن ترى المجتمعات طبقات، والأحياء مستويات، والمدارس أنواع، والمطاعم درجات، ... الخ. هناك من يموت جوعا وفي الطرقات دون أن يكترث به أحد أو يسأل عنه، وهناك من يعتدي على حرمات الآخرين وأرواحهم دون أن تجد من يلومه أو يضع له حدا.

أما أخلاقيا، فالمجتمعات الغربية، باتت مجتمعات منحلة أخلاقيا، مجتمعات يسود فيها الجنس وتجارة الرقيق، والمصلحة والمنفعة المادية هي السائدة والمتحكمة في علاقات المجتمع، فالكذب والغدر والغش والخداع والنفاق والخيانة أخلاق مقبولة ورائجة في سبيل تحقيق المصلحة المادية. والمجتمع خال من القيم الإنسانية والأخلاقية والروحية في مقابل قيمة مادية طاغية متحكمة في علاقات المجتمع.

وأما اقتصاديا، ففي ظل الرأسمالية أصبح المجتمع قسمين، طفيلي جشع يعيش على دماء الشعوب، وأخر فقير يجاهد ويعاني الأمرين من أجل قوته وقوت عياله، ف5 بالمائة من المجتمع يملكون أكثر من 90 بالمائة من الثروة، في مقابل 95 بالمائة من المجتمع لا يملكون 10 بالمائة من الثروة. ففي أكثر المجتمعات ثراء وغنى تجد من يعيش في الشوارع ويقتات على ما يجده في حاوية النفايات، ولذلك ليس غريبا ما شاهدناه مؤخرا من مظاهرات في مئات المدن الغربية التي خرجت في نفس اليوم مطالبة بإنهاء الرأسمالية، واحتلال رموزها كما في أمريكا، احتلوا وول ستريت. ومن أجل المصالح الاقتصادية للطغمة الحاكمة استبيحت المحرمات، وارتكبت المحظورات، تجارة السلاح والمخدرات والجنس والرقيق، وتلويث البيئة، ومقامرة بأموال الناس ومحدودي الدخل فيما يسمى بسوق المال والبورصة.

أما سياسيا، فالقاعدة عند الغرب أنّ السياسة هي الكذب، وكفى بهذا الشعار ممثلا لما يمكن أن يكون الواقع السياسي في المجتمعات الغربية، كذب على الشعوب وخداعها، واحتلال واستعمار للبلاد الضعيفة من أجل مصالح الدول الكبرى، مص دماء الشعوب وسرقة أموالها واستباحة أراضيها من أجل منافع مادية.

هذه هي صورة الحياة في ظل العلمانية، بنظام حكمها الديمقراطية ونظامها الاقتصادي الرأسمالي، وهذا ما فعله حكام العرب والمسلمين بنا عندما تبنوا فكر الغرب وطبقوه في الحكم وسعوا لإيجاده في مجتمعاتنا، فالظلم الذي يتعرض له المسلمون لا يقل عن الظلم الذي يتعرض له أهل الذمة في بلاد المسلمين، بل في أحيان كثيرة، هو أضعاف ما يتعرض له أهل الذمة. فحكام المسلمين جمعوا ما بين شر العلمانية الفاسدة وما بين فساد شخوصهم وخيانتهم للأمة.

فما تعرض له أهل الذمة في بلاد المسلمين من ظلم أو حرمان أو تهميش مرجعه إلى الأنظمة والحكام، والأنظمة والحكام لا يمتون إلى الإسلام بصلة، فالأنظمة المطبقة في بلاد المسلمين هي أنظمة علمانية دكتاتورية أو ديمقراطية، والحكام هم عملاء أتباع للغرب، لا يسوسون الأمة إلا بما يريده الغرب الذي نصبهم فوق رؤوسنا.

لذلك فكما أنّ الغرب هو بحاجة إلى نظام بديل يخلصه من ظلم الحكام وبطلان المبدأ، فكذلك نحن المسلمين أشد حاجة إلى خليفة يطبق علينا نظام الإسلام، لنرى العدل والطمأنينة والحق، وكذلك أهل الذمة في بلاد المسلمين بحاجة إلى الإسلام ليعيد لهم الحقوق والمكان الذي رضيه لهم الإسلام، على قاعدة: لهم ما لنا من الانتصاف وعليهم ما علينا من الإنصاف.

وبغير الإسلام وخليفة المسلمين، فإنّ الظلم سيبقى سيد الموقف، سواء في حق أهل الذمة أو المسلمين. والإسلام القادم إن شاء الله، هو من سيعيد الأمور إلى نصابها، فيحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، وحينها سيتمنى أهل الذمة قبل المسلمين أن لو كان الإسلام وصل إلى الحكم مبكرا لأراحهم من ضنك الحياة وبؤس المعاش. وللآخرة خير وأبقى.  قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107

13/4/2013