مشروع السلطتين الفلسطينيتين 8

مشروع ديتون الأمني يشق طريقه بين الفياضية والتفاوضية

الدكتور ماهر الجعبري

-عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

 

منذ الانشطار السلطوي، استمر التنافس على كعكة السلطة، و على الحضور الدولي، وخضعت قيادات حماس لمرحلة ترويض متتابعة، مع استمرار جعجعة الحوار الوطني متنقلا من محطة لأخرى، وظل مسار المفاوضات متعثرا، أمام رفض حكومة نتنياهو –كشأن حكومات الليكود عموما- التي ظلّت تتهرب وتنفّس أي محاولة أمريكية للضغط عليها بالتلويح بين الحين والآخر بضرب إيران.

 

واستمرت السلطة الفلسطينية في حالة استخذاء واستجداء لتحريك المسيرة السلمية بلا جدوى ضمن نهج "التفاوضية"، وفي حالة من التضليل السياسي المحلّي عبر دعوى بناء الدولة ضمن نهج "الفياضية". أما على المستوى الميداني، فقد نشطت السلطة ورجالاتها تعزيز المشروع الأمني:

 

إن فهم ما آلت إليه السلطة من دور أمني مفضوح يقتضي المراجعة السريعة لسجل منظمة التحرير في التأكيد على أمن الاحتلال والتزام متطلباته:

 

أصّلت المنظمة لذلك الدور قبل انطلاق السلطة في مقررات المجلس الوطني الذي عقد في الجزائر في تشرين الثاني 1988، بالحديث عن "ترتيبات الأمن والسلام لكل دول المنطقة" (الدورة التاسعة عشر)، ثم أسست اتفاقية أوسلو الثانية للتنسيق الأمني عندما فرضت على قوات الأمن الفلسطينية تحمّل "المسؤولية عن الأمن الشامل للإسرائيليين والمستوطنات"، وقررت "إنشاء لجنة مشتركة للتنسيق والتعاون بشأن أغراض الأمن المتبادل" (اوسلو (2) القاهرة 4/5/1994)، ثم جاءت اتفاقية الخليل في كانون ثاني 1997 برتيبات أمنية خاصة للمستوطنين فيها، ثم اتفاقية واي ريفر (في 23/10/1998) التي صعّدت وركزت الدور الأمني للسلطة ومواجهة ما أسمته "الإرهاب"، تحت إشراف المخابرات الأمريكية (CIA)، وقضت بتشكيل لجان أمنية مشتركة من الفلسطينيين واليهود والمخابرات الأميركية، (The Wye River Memorandum).  ثم جاءت اتفاقية شرم الشيخ في 4/9/1999 كنسخة معدَّلة عن اتفاقية واي ريفر، والتي أضافت تجريم ومحاصرة أعمال "التحريض" على الإرهاب (نص اتفاقية شرم الشيخ 7/9/1999). ومن ثم جسدت وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) رؤيتها الأمنية ضمن بنود خطة تنت التي كان التنسيق الأمني عنوانها الأبرز (موقع البي بي سي في 14/6/2001).

 

وهكذا تتابعت هذه الاتفاقيات تؤكد على أمن الاحتلال وعلى التنسيق الأمني معه، وعلى التدخل الأمريكي لتحقيق ذلك، لذلك كانت مهمة الجنرالات الأمريكيين الذين قادوا المشروع الأمني في فلسطين تجسيدا عمليا لذلك السجلّ الحافل من الاتفاقيات الأمينة التي رعتها أمريكا منذ أوسلو 2، وصولا إلى خارطة الطريق (عام 2002)، التي خصصت بندا أمنيا خاصا، ونصت على أن "يتم تنفيذ الخطة الأمريكية لإعادة البناء والتدريب واستئناف التعاون الأمني مع مجلس خارجي للإشراف ...".

 

ولكن تقدّم الدور الأمني الأمريكي كان قد تعثّر -بعد خارطة الطريق- خلال مراحل عرفات الأخيرة لما شهدته من أزمة قيادة على المقاس الأمريكي (مقال كارزاي فلسطين وأزمات القيادة).

 

وتعود البدايات الواضحة لمشوار التنسيق الأمني الميداني إلى العام 2005 مع تولي المنسق الأمني الأميركي الجنرال وليام وورد مسؤولية تنسيق الجهود الدولية الهادفة إلى تعزيز الأمن في السلطة الفلسطينية، وتزامن ذلك مع رحيل عرفات، ومع تمكّن أمريكا من فرض عباس مرشحا للرئاسة الفلسطينية، ومن ثم فوزه في 9/1/2005، وما رافق ذلك من انتعاش أجواء الاهتمام الدولي لإعادة تفعيل خارطة الطريق.

 

وكانت وزيرة الخارجية الأميركية رايس قد أعلنت عن مهمة المنسق الأمني الأول الجنرال وورد في شباط 2005. وحددت رايس في حينه دوره بالقول "سيساعد في تنسيق مبادرات الدول التي تريد المساهمة في تدريب وتزويد وإصلاح القوى الأمنية الفلسطينية" (موقع إيلاف في 14/3/2005). ولكنّ مهمة وورد تعطلت بعد الانسحاب الأحادي لشارون من غزة عام 2005.

 

وبعد الانشطار السلطوي، لمع نجم الجنرال الأمريكي ديتون بعد أن تسلم منصبه في العام 2007 (مقال "الالتحام الدموي والانشطار السلطوي")، وقد أعاد للأذهان الدور "التاريخي" للبريطاني كلوب باشا الذي تميّز بزيّه البدوي في الأردن منتصف القرن الماضي بينما كان يجسّد المصالح البريطانية، ولذلك أطلق البعض على ديتون تهكما "زعيم فلسطين".

 

إن السلسلة الطويلة من الالتزامات الأمنية الفلسطينية والمباشرة الميدانية للجنرالات الأمريكية قد أوصلت الفلسطينيين إلى المشهد الذي بثته القناة العاشرة في التلفزيون "الإسرائيلي" في 31/10/2008، ضمن تقرير صحفي من الخليل صوّر اقتحام ومداهمات الأجهزة الأمنية للبيوت الفلسطينية: تفاخر فيه أفرادها باعتقال الفلسطينيين وإطلاق النار عليهم، بينما تمجدّوا بالحرص على عدم الاشتباك مع المستوطنين، كما أكّد الضابط الفلسطيني -في الشريط الشهير- عندما قال "لا يمكن أن نطلق النار على مستوطنين أو الجنود... الأوامر واضحة"، وأكّد أفراد الأجهزة فيه أنهم يشاركون في اعتقال من تصدر الأوامر بحقه ولو كان أخا أو حتى أب، وأكّدوا التزامهم بالأوامر بالقول "قالوا اعتقل بنعتقل قالوا اقتل بنقتل".

 

(تسجيل التقرير: 

 

وجاءت محطة من محطات استعراض المنجزات الأمنية الأمريكية، فألقى ديتون خطابه الشهير من على منبر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط (خطاب ديتون في 7/5/2009)، شرح فيه مشروعه الأمني في فلسطين، وبيّن دوره في التنسيق الناجح بين أجهزة الأمن الفلسطينية والجيش "الإسرائيلي"، وبين فيه ربط عمل مكتب التنسيق الأمني بخارطة الطريق، وأكد الفلسفة الأمنية-السياسية "الإسرائيلية" في أكثر من موقع: فمثلا ربط نتائج فريقه الأمني بتلك الفلسفة بالقول "وهي على صلة وثيقة بعنوان حديثنا: السلام عبر الأمن"، بعدما أشار تلميحا إلى إمكانية ارتكاب الجرائم تحت سلطان أجهزته الأمنية؛ لأن منطق القانون والحق لا يصلح مع الفلسطينيين، وقال "إن القوانين السارية في لاس فيغاس لا يمكن العمل بها في الشرق الأوسط"، فجسّد بذلك عقلية كابوي مجرم.

 

وحرص ديتون على تجهيز جيل أمني جديد، لا يمكن أن يكون مبعث تهديد "لإسرائيل"، فقال "ما فعلناه هو بناء رجال جدد".  ولم يتردد في اقتباس كلمات ضابط فلسطيني كبير خاطب أفراد الأجهزة في حفل تخريج أمني: "لم تأتوا هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل". وعقّب ديتون على ذلك بالقول "جعل هذا التغيّر ضباطاً في الجيش الإسرائيلي يسألونني في أغلب الأحيان: كم من هؤلاء الرجال الجدد تستطيع أن تصنع؟"، وربما لم يدرك ديتون في حينه أن خطابه ذاك سينتشر خارج دائرة المركز الأمريكي ويشكّل فضيحة للأجهزة الأمنية.

 

وفي صيف 2009، برز حديث عن خطة جديدة أعدها ديتون لتطوير الأجهزة الأمنية العاملة في الضفة الغربية من 3 إلى 10 كتائب (الجزيرة نت 8/6/2009)، وأن ديتون توجه إلى واشنطن لطلب ميزانيات إضافية لأجهزة الأمن الفلسطينية لإجراء التدريبات اللازمة، ولتغطية تكاليف الخطة، وقد أكّد بذلك الدور الأمريكي في تمويل المشروع الأمني الفلسطيني لخدمة الاحتلال.  ونقلت الجزيرة نت في حينه عن ضابط "إسرائيلي كبير" قوله "زيادة عدد قوات الأمن الفلسطيني أمرٌ لا يهدد قوات الجيش الإسرائيلي ولا أمن الإسرائيليين."

 

وظلت كلمات ديتون ومنطقه الخارج على القانون والحق، تترجم على أرض الضفة الغربية، جرائم ودماء وشهداء، منها ما حصل من الإجرام الوحشي في قلقيلية شمال الضفة الغربية، عندما قتلت الأجهزة الأمنية فجر الأحد 31/5/2009 اثنين من كتائب القسّام، وسقط ثلاثة من أفرادها، وسقط آخرون بين قتيل وجريح.

 

وظلّت تلك الأجهزة الأمنية تتلقى الأوامر الأمريكية والفلسطينية لقمع كل صوت خارج سرب فتح ومشروعها السلطوي والأمني، ولذلك ظلت تمنع نشاطات حزب التحرير الجماهيرية، ومنها منع مؤتمر إحياء ذكرى هدم الخلافة الذي دعا له حزب التحرير في تموز 2009. ولم يكن كاتب المقال بعيدا عن وحشية تلك الأجهزة إذ أطلقت النار على سيارته عصر الاثنين 21/12/2009 بعد خروجه من عمله في جامعته التي يحاضر فيها، كتجسيد عملي لخطة ديتون في التصدي لكل صوت ضد السلطة الفلسطينية ومشروعها الأمني، وكتطبيق ميداني لما جاء في تقرير القناة العاشرة "الإسرائيلية" من أنهم يدركون على من يطلقون الرصاص!

 

وفي هذه السياقات، كانت ورقة المصالحة المصرية المعدة بإشراف أمريكي (ورقة المصالحة أيلول 2009) تجهّر لمتابعة الترتيبات الأمنية، حيث نصت على تشكيل قوة أمنية بإشراف مصري وعربي لإعادة تشكيل الأجهزة الأمنية على النهج الذي كان يجري في الضفة الغربية على أيدي ديتون.

 

ثم تتابعت إجراءات القمع للأجهزة الأمنية، وتتابعت اعتقالاتها للمقاومين، ولشباب حزب التحرير، وتغوّلت على الناس حتى وصل الأمر إلى تجسيد نماذج من الإرهاب السلطوي وكم الأفواه فاق أداء قوات الاحتلال في الإجرام، منها ما أقدمت عليه الأجهزة من إغلاق مسجد بيت كاحل في محافظة الخليل منعا لعقد محاضرة لحزب التحرير في 2/7/2010.

 

كل تلك الأعمال الإجرامية كانت ترجمة لتوجهات عباس وحرصه على أمن الاحتلال اليهودي وعلى طمأنة اليهود على ذلك كما قال (فيما نقلت عنه ذي صنداي تايمز في 19/9/2010) "أعرف أن هذه العقدة ملازمة لإسرائيل، ونحن نقولها علناً أعطونا دولة وسنضمن لكم أمناً لم تروه في حياتكم، وسنقوم بكل ما يلزم." بل تواقح في تلك التصريحات بالقول "أمن إسرائيل هو أمننا"، وكما أكّد في لقاء واشنطن في أيلول 2010 مع نتنياهو عندما خاطبه قائلا "لا نقبل من أحد أن يقوم بأي أعمال من شأنها الإساءة لأمنكم".

 

ورغم كل تلك الالتزامات وكل ذلك الانبطاح، ظلت العقلية اليهودية المسكونة بالنوازع الأمنية متوجسة من صحوة من يحمل السلاح (ولو الأمني الخفيف)، حتى ولو انخرط ضمن مشروع ديتون، تحسّبا من حالة من صحوة عقائدية، ولذلك فإن "مجموعة الأزمات الدولية" نشرت في آب 2010 تقريرا سياسيا-أمنيا بعنوان: "تربيع الدائرة: إصلاح الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحت الاحتلال"، مشيرة فيه إلى صناعة المستحيل، عندما استعارت "معضلة تربيع الدائرة الرياضية-الهندسية"، لتشبيه معضلة الساحة الفلسطينية في ظل تداخل المتغيّرات التي تضبط أداء الأجهزة الأمنية. وكأن التقرير كان يشير ما بين السطور إلى صعوبة نجاح الحل المفروض دوليا من خلال إيجاد سلطة وطنية تنفّذ مشروعا أمنيا يُعتبر أساس وجودها بحسب ما يشير التقرير: لأن قادة الجيش "الإسرائيلي" لن يثقوا بأبناء فلسطين، كما يستشهد التقرير بما حصل في الانتفاضة السابقة.

 

ومع ذلك، أكّد تقرير مجموعة الأزمات الدولية إقرار "إسرائيل والمسئولين الدوليين" بتحسّن القدرات الأمنية، وأوصى حكومة الاحتلال بتوسيع نطاق تحرّك الأجهزة الأمنية، وبتحديد اقتحامات الجيش "الإسرائيلي" ليتكفل الفلسطينيون بذلك الدور (الوسخ). وسرد التقرير الانتهاكات الصارخة بحق من تستهدفه تلك الأجهزة، ولذلك توجّه للراعي الأمريكي يطلب منه أن يصرّ على احترام حقوق الإنسان ودعم قطاع القضاء والعدل.

 

ومع أن التقرير مدح إنجازات مشروع ديتون، وما قدمه من الدعم المالي والفني، فقد أشار إلى الإحراج الذي سببه الحضور الحي لديتون في المشروع الأمني، وهو ما شكّل وصمة عار للمسئولين في السلطة في صورتهم أمام الناس، ولذلك يشير تقرير الأزمات الدولية إلى تخفيض ديتون لمستوى حضوره الإعلامي، بعد ذلك الخطاب الفضيحة، وبعد إثارة تلك الحساسيات.

 

ومن بعد ذلك، أدركت أمريكا مستوى توسيخ صورة عملائها من خلال حضور ديتون، واستبدلت به الجنرال مولر (مفكرة الإسلام في 11/10/2010)، ولم يُسمع عن حضور إعلامي له، وكأن الدرس الناجم عن فضيحة خطاب ديتون قد تم تعلمه جيدا.

 

ثم حاول الناطق باسم الأجهزة الأمنية الضميري التقليل من مستوى الحرج، مما دفعه للوقاحة السياسية عندما قال إن "الجانب الفلسطيني لا يخجل من موضوع التنسيق مع الجانب الإسرائيلي"، مضللا بأن ذلك التنسيق يمثّل "تنسيق السجين مع السجان" (صحيفة القدس في 27/10/2010)

 

وفي السياق نفسه، وعلى الجانب الآخر في غزة، مارست حكومة حماس القمع والمنع لمن يخالفها: فقتلت –في آب 2009- قائد جماعة "جند أنصار الله" الطبيب عبد اللطيف موسى مع أحد مرافقيه، في محيط منزل تحصنا به في مدينة رفح، بعدما قتلت عددا من أتباعه، وصفتهم بأنهم "عناصر تكفيرية" وأنهم "يتبنون أفكاراً منحرفة وضالة"، وبعدما قصفت مسجد ابن تيمية الذي تحصنوا فيه (صحيفة القدس 15/8/2009).  وكانت قد اعتقلت في حزيران 2009 عددا من شباب حزب التحرير عندما وزّعوا بيانا سياسيا ينتقد تصريحات لمشعل حول قبول دولة فلسطينية في حدود 1967، ومنعت عددا من نشاطات حزب التحرير: منها أن أجهزتها الأمنية اعتدت بالضرب على جماهير الحزب وأنصاره لدى توجههم إلى مكان انعقاد مهرجان في ذكرى هدم الخلافة بتاريخ 13/7/2010، رغم استيفاء الشروط القانونية لعقد النشاط.

 

وهكذا، كانت الهواجس الأمنية عنوان المرحلة عند الجميع، عند كيان الاحتلال اليهودي، وعند سلطة رام الله، وعند سلطة غزة، وتميّز المشروع الأمني في الضفة الغربية بصياغته الأمريكية ضمن سلسلة من الاتفاقيات، وبتنفيذه ميدانيا من قبل مجموعة من الجنرالات الأمريكيين، وجسّد فيهم ديتون منطق الكابوي الخارج على القانون الغربي، ففتح المجال لارتكاب جرائم شرسة بحق الفلسطينيين.

 

أما خاتمة العام 2010، فقد كانت عاصفة على المستوى الإقليمي إذ بدت آفاق تغيرات جوهرية في المشهد السياسي العربي، وبدأ زمن الثورات، وتلبدت سماء الأنظمة بالغيوم، وتغيرت الأولويات.

 

14-1-2013