الحج في موسم الثورات

د.مصعب أبو عرقوب

"تواضعت ‏الجبال...لدعوة ‏الخليل ‏إبراهيم ‏عليه ‏السلام ‏حين ‏انتهى ‏من ‏بناء ‏البيت ‏العتيق ‏ونادى ‏الناس ‏لحج ‏بيت ‏الله ‏الحرام‏، حتى ‏بلغ ‏الصوت ‏أرجاء ‏الأرض فأسمع ‏نداؤه ‏من ‏في ‏الأصلاب ‏والأرحام ‏فأجابوا ‏النداء ‏‏"‏لبيك ‏اللهم ‏لبيك"، ليتقاطر الناس إلى مكة المكرمة من كل فج عميق في "استجابة الروح لله الذي نفخها من روحه فصار الإنسان إنسانا. وهو المعنى الذي يليق بالأناسي أن يتجمعوا عليه, وأن يتوافدوا كل عام إلى المكان المقدس الذي انبعث منه النداء للتجمع على هذا المعنى الكريم".

فالإسلام يجمع البشرية على عقيدة واحدة تحررها من كل عبودية لغير الله، وعقيدة التوحيد إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، وثورة عالمية على العبودية لغير الله، وتحرير للإنسان من كل عبودية لغيره من بني الإنسان، وتحريره من الخضوع للجهل والشعوذة وتسلط "رجال الدين- حسب تسمية أهل الديانات الأخرى"، وإغواء الشهوات، وكسر لكل قيود الهرطقات والتمتمات، وإطلاق لطاقات البشر ليسيحوا في الأرض إعمارا واكتشافا لقوانين الخالق ونواميسه في الكون.

فالثورة التي أعلنها الإسلام وجمع عليها البشرية، ثورة على كل أنظمة الحكم والدساتير التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر، وعبودية الإنسان للإنسان، هدفها ابتداءً إزالة كل تلك الأنظمة والدساتير والعصابات الحاكمة، ليحكم البشر بنظام تكون قاعدته العبودية لله في ظل تطبيق شرعه، وبعد إزالة تلك المعيقات والقيود التي تكبل البشر وتقيدهم،،، يصبح البشر أحرارا بالفعل في اختيار عقائدهم بعيدا عن تأثير الرأسمالية ووحشية جيوشها وجشع شركاتها التي أغرقت الشعوب الفقيرة في عالم من العبودية.

عبودية.. جاء الإسلام بأفكاره ومشروعه الحضاري ليحررهم ويخرجهم منها إلى عدل أنظمته وروحانيتها، فَََنَظّمَ الإسلام العلاقات بين بني البشر على أساس بشريتهم، لا فضل لأعجمي على عربي إلا بالتقوى، الغني والفقير سواء أمام الأحكام الشرعية، الوزير والغفير سواسية أمام القضاء، الكل سواسية أمام الدستور، ولا اعتبار لعرق أو طائفة أو اعتقاد، فالكل أمام أحكام الشرع المطبقة في دولة الاسلام  "رعايا" يحملون التابعية بغض النظر عن دينهم أو عرقهم فالكل سواء.

سواسية لا فرق بينهم... وهو المعنى الذي يجسده الحج، فترتسم في مناسكه لوحة تليق بالبشرية، فالكل في الحج متحررون إلا من الخضوع لأنظمة دقيقة فرضها الخالق، وبينها رسول هذه الأمة عليه أفضل الصلاة والتسليم، يجتمعون رغم كل  الفروقات في اللغة والعرق والمظهر ليشكلوا هوية راقية تبتعد عن وحول العنصرية والطائفية والمادية والمصلحة التي تعمي القلوب وتسحق الشعوب، هوية تتجاوز حدود الجغرافيا وتقسيمات سايكس بيكو ونفوذ الأجانب في بلادنا... هوية تعيد كل عام للأمة ذاكرتها... وتلهب في موسم الحج من جديد ثورتها، وتحدد معالم ربيعها المنشود.

فالربيع "العربي" أعاد مفهوم الأمة الإسلامية لموقع الصدارة الجدير بها، فالربيع لم توقفه حدود سايس بيكو اللعينة، وتنقل بين بلدان الأمة الإسلامية لينظم شعوبها في ثورة تغييرية تناولت نفس الشعارات، وأطلقت ذات الآهات والأنات، وخرجت تلك الشعوب لتعبر عن ذات الألم والأمل في التحرير و الإنعتاق من هيمنة المستعمر وأتباعه، خرجت لتتنفس عبق المجد المسلوب والانتصارات الموروثة، خرجت تنشد عدل الفاروق وعزة هارون الرشيد في مراسلته لأعداء الأمة، خرجت باحثة عن صلاح الدين في ميادين التحرير، في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا، خرجت تبحث عن مصدر قوتها وعزتها وانتصاراتها... خرجت لتعيد حضارتها إلى حيز الوجود... خرجت لتعيد أمجاد الأمة.

فالأمة الإسلامية وعبر عقود من التجزئة والتفكيك ومحاولات التذويب في سوائل الإقليمية والطائفية المائعة، عادت لتستشعر وحدتها وارتباط أعضائها ببعض، وكان الحج دوما يحمل تلك الرسالة ويجسدها لكل شعوب الأمة الإسلامية في مؤتمره السنوي الحاشد، ليؤكد على أنّ حالة التفكك والتشرذم التي تعيشها الأمة الإسلامية حالة غير طبيعية لأمة عريقة حكمت العالم ونشرت عدل مبدئها بين شعوب الأرض، فغياب دولة الخلافة الجامعة للأمة يعد استثناءً قبيحاً في تاريخها المليء بالانتصارات والتقدم والتربع على عرش الحضارات والأمم، والحج إذ يعيد لكل مسلم هذه المعاني السياسية الراقية... يصبح موسما للوخز بالإبر لكل من يحمل طرحا وطنيا إقليميا ضيقا لشعوب الأمة الإسلامية.

فلا يجد أصحاب الأطروحات الوطنية المفصلة على مقاس حدود سايكس بيكو الاستعمارية لهم مكانا في موسم الحج، ولا تجد دعوتهم في "إعادة تشكيل الهوية الوطنية للشعوب بعد الثورات" أي صدى لدى أمة بعثت كل قرية صغيرة نائية فيها ممثلا أو أكثر عنها إلى مؤتمر الحج الأعظم، ليعود ويقص بشوق وحرقة ما شاهده من اجتماع المسلمين من كل الأجناس والأعراق، ويعبر ببساطة شديدة عن ضرورة اتحاد هذه الأمة في كيان واحد يجمعها، فكل الحجيج تعود بالدعاء بالوحدة والتمكين للأمة، وتضع المفارقات والتناقضات في ميزان بسيط، لتخرج بنتيجة مفادها... أنّ الحل لمشاكل الأمة فقط يكمن في الوحدة ولم الشمل في دولة للمسلمين واحدة، يحكمون فيها بشرع الله .

وبذلك التصور الذي يجسده الحج كل عام تدخل الأمة في طور جديد من ثورتها، لتسقط كل الأطروحات الإقليمية والوطنية الضيقة التي ثارت عليها الأمة، والتي شكلت حاجزا منيعا لعقود أمام الأمة وأمام انبعاثها من جديد، فالأنظمة المهترئة وما خلع من قياداتها كانت دوما الحارس الأمين لمصالح المستعمرين وأطماعهم في بلادنا، وكانت حدود تلك الأنظمة هي السياج الذي يمنع الأمة من التوحد والوقوف أمام المستعمر، والقيود التي تمنع الأمة من التحرر وتفعيل مشروعها الحضاري المتمثل في إقامة دولة الخلافة.

فالمشروع الحضاري للأمة الإسلامية لا بد له من إزالة تلك الحدود الاستعمارية التي تقيد الأمة وشبابها وتنهب ثرواتهم وتمزق طاقاتهم، فلا نهضة لمصر بدون السودان، ولا أمن لسوريا بدون تركيا، ولا عزة للجزائر بدون المغرب، ولا غنى للحجاز عن اليمن، ولا تحرير لفلسطين بدون الأمة الإسلامية، ولا صون لحضارة المسلمين ومقدساتهم وأعراضهم إلا بوجود كيان واحد يجمعهم... في دولة الخلافة، وبذلك لا يبقى مكان لدعاة الوطنية والإقليمية الضيقة بين دعاة النهضة والتغيير والثورة على الاستعمار والتبعية.

والثورة على الاستعمار والسعي للتحرر نقيض التبعية والتقيد بما أفرزه الاستعمار وفصّله على مقاسه ومصالحه في بلادنا، ولا منطق يبرر التشبث بحدود رسمها المستعمر  إمعانا في تقسيم الأمة وتجزئتها... إلا رغبة فلول الأنظمة المهترئة في تكريس وجود الاستعمار وتثبيت أركانه في بلادنا، والإصرار المفضوح على التبعية والدونية أمام المستعمرين من قبل "المعتدلين"، ليكتمل المشهد بإعلان الفلول والمعتدلين الحرب على كل الثائرين في ميادين التحرير،  وتجريم كل من يتخطى بتفكيره ومشروعه تلك الحدود المصطنعة ليشير إلى مشروع الأمة الوحدوي المتمثل في إقامة دولة الخلافة، وبذلك دخل "أصحاب الطرح الوطني الإقليمي الضيق" ومن شايعهم من "الزعماء الجدد " في تناقض مكشوف مع  أبسط معاني الثورة.

فالثورة في أصدق تجلياتها لا تعني إلا التحرر من كل القيود القديمة التي كبلت الأمة ومنعت نهضتها وكرست تبعيتها وعبودية قادتها للغرب، فدعاة إعادة تشكيل الهويات الوطنية للشعوب الثائرة يطرحون تكبيل الأمة الثائرة من جديد بتلك الحدود "الوطنية" التي أنتجها المستعمر وحافظت عليها مافيا العصابات الحاكمة في عالمنا الإسلامي، وهو طرح يتوافق مع مصالح المستعمرين الذين باتوا يلمسون صحوة الأمة وشوقها لاستعادة وحدتها ومكانتها بين الأمم، ويتعارض ذلك الطرح مع ثوار الأمة وحجيجها... وكل ما تعتقده الأمة من معتقدات.

فالحج ركن الإسلام الخامس... في كل عام ينعقد ذلك المؤتمر المليوني في أطهر بقاع الأرض وفي أفضل الأزمنة، ليضم المسلمين بين جناحيه، يذكرهم... ويرفع من هممهم، ينظمهم في سلسلة حضارية تخترق العقول والقلوب ولا تقف أمامها الحدود والأسيجة، لتعلن لكل أولئك المضبوعين بالثقافة الغربية والوطنية الإقليمية... لتعلن لهم أنّ أمة الإسلام أمة واحدة من دون الأمم، وأنّ انتظامها في الحج فريضة،،، وانتظام عقدها في دولة واحدة... دولة الخلافة فريضة أيضا... وإلى أن تعيد الأمة تفعيل مشروعها الحضاري وتعيش في تلك الدولة التي تحكم فيها بالإسلام وأنظمته... إلى... أن تعلن إقامة الخلافة، إلى أن يكون ذلك... سيبقى الحج في موسم الثورات، وسيكون لزاما على الثورة أن تستمر.

د.مصعب أبو عرقوب

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

29-10-2012