قضية فلسطين 3- الحروب اليهودية: أدوات تآمر وعداء مستفحل

ضمن سلسلة "قضية فلسطين"، يتناول هذا المقال عرضا موجزا للحروب العسكرية التي حصلت ضمن العقدين الأولين من نشأة الكيان اليهودي، بما يكشف عن مؤامرة تسليم فلسطين من قبل الأنظمة العربية، ويوضح سياق تلك الحروب في شبكة المصالح الرأسمالية، واتخاذها أداة لتنفيذ الخطط الاستعمارية، ويسحب البساط من تحت أقدام اللاهثين خلف تلك الأنظمة ومبادراتها بعدما تمرست في التآمر على القضية.

تبلور فيما سبق أن قضية فلسطين ارتبطت بصراع سياسي وحضاري بين الأمة الإسلامية والغرب الرأسمالي المحرَّك بمشاعر صليبية كامنة في الأعماق، ونشأت قضية فلسطين حين التقت المصالح الرأسمالية النفعية مع تطلعات اليهود لإنشاء "وطن قومي"، وتبنّت القوى الغربية "دولة اليهود" كأداة استعمارية، بعدما كانت رؤيتها الاستعمارية تقوم أساسا على تدويل فلسطين.

وفيما ظلّت تتنافس على الساحة الدولية رؤيتان "للحل": رؤية بريطانية قائمة على حل الدولة الواحدة التي تجمع العرب واليهود، تكوّنت بذرتها مع إصدار بريطانيا للكتاب الأبيض لسنة 1939، وترسّخت مع الأحداث، وصولا إلى مشروع بورقيبه. وهي تصاعدت في سياق عرقلة تقدّم المشروع الأمريكي للحل، والقائم على حل الدولتين (مع تدويل القدس). ويعتبر قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1947 ممهدا لتلك الرؤية الأمريكية، التي تبلورت بوضوح مع منتصف القرن الماضي، عندما خرجت أمريكا من عزلتها، ثم قررت أن تتفرد بمعالجة الملفات الساخنة، حسب توصيات دبلوماسييها في الشرق الأوسط خلال مؤتمرهم في استانبول عام 1950. وبعد تبلور "مبدأ إيزنهاور" (وغايته ملء الفراغ الذي تركه زوال نفوذ بريطانيا وفرنسا من الشرق الأوسط)، بدأت خطوات أمريكا العملية لمحاولة تنفيذ الحل أواخر حكم أيزنهاور (1959-1960)، عندما تبنّى الرئيس الأمريكي آيزنهاور توصيات مؤتمر استانبول.

واستمر الصراع السياسي الرأسمالي على المصالح وعلى النفوذ، وكان لكل طرف رجالاته وعرّابوه من الحكام ومَن دار بفلكهم من الرجالات والتنظيمات، وقامت إستراتيجية أمريكا نحو القضية الفلسطينية على حصرها بين "عرب فلسطين" واليهود. وضمن ذلك الصراع، ظلّت القضية على الساحة الدولية تتمحور حول إقامة قاعدة ضد المسلمين تحول دون إعادة الخلافة، ولمنع تواصل بلاد المسلمين الجغرافي، وذلك في إطار الصراع الحضاري مع الإسلام.

وعلى مذبح ذلك الصراع، ظل أهل فلسطين وقودا لناره الحارقة طيلة عقود طويلة، حيث تحركّت ماكينة الإجرام اليهودية مشحونة بطاقة الغرب الصليبي، وأراقت عصاباتها المجرمة دماء المسلمين في مذابح متكررة، كانت تفرش أرض فلسطين بجماجم المسلمين تمهيدا لنشأة الكيان اليهودي، وذلك في ظل تقاعس حكام وقادة العرب الذين تسلّموا مقاليد الأمور من جنرالات استعمار نصّبهم يحرسون مصالحه بعد رحيل قواته، وظلّت جامعة الدول العربية شاهدة زور على تلك الجرائم السياسية والعسكرية بحق فلسطين وأهلها، ومشاركة في التآمر عليها:

قبل الحرب الأولى المسماة "بالنكبة"، كانت قيادات العصابات اليهودية قد أعدت الخطط العسكرية منذ مطلع عام 1945، ورسمت عصابات الهاجانا خطة سُمّيت خطة أيار 1946. وبدأت المذابح قبل الحرب عام 1947، منها ما تمثّل في أعمال تفجيرية للحافلات، كما حصل في حيفا ورام الله في 12/1/1947، ومنها ما تمثل في تفجير قنابل، كما حصل في مقهى بوابة دمشق في القدس في 29/12/1948، ومنها هجوم عصابات الهاجانا وغيرها على القرى والمدن الفلسطينية، مثل مذبحة قرية الشيخ في قضاء حيفا في 31/1/1947 التي استشهد فيها أكثر من 600 من الأطفال والشيوخ والنساء، ومذبحة يازور في 22/1/1948، ومذبحة دير ياسين غربي القدس في 9/4/1948، ومذبحة حيفا في 22/4/1948 (مذابح في فلسطين)، وهدفت تلك الجرائم والاعتداءات إلى بثّ الرعب والخوف في أهل فلسطين، من أجل دفعهم على هجرة قراهم ومدنهم، لتسهيل إقامة الدولة اليهودية على أنقاضهم.

 

وقبل الحرب شكّلت جامعة الدول العربية جيش الإنقاذ الفلسطيني وربطته بالحاج أمين الحسيني (!)، كخداع للأمة للركون إليه. وكانت الجامعة العربية قد شكّلت "اللجنة العسكرية الفنية" في أيلول من العام 1947 لتقويم الوضع القتالي، فخرجت بنتيجة تبرز قوة العصابات اليهودية (!)، وتحدّث رئيس اللجنة اللواء إسماعيل صفوت (صفوة) قبل الحرب (محذرا أو مخذّلا!) أنه لا يمكن التغلّب على اليهود بقوات غير نظامية، ويُنقل عنه قوله "أنه ليس باستطاعة الدول العربية أن تتحمل حربا طويلة"، مما يدلل على أن جامعة الدول العربية كانت مستعدة للهزيمة، وتهيئ الناس لها، وقررت في ظل تلك النتيجة يوم 12-4-1948 تحريك الجيوش العربية إلى فلسطين للإخراج المسرحي. وبعدما قررت الحكومة البريطانية إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين منتصف الليل بين يومي 14 و15 من أيار 1948، أعلن المجلس اليهودي عصر يوم 14 من أيار في تل أبيب قيام "دولة إسرائيل" ليصبح ساري المفعول في منتصف الليل، وبدأت الحرب عقب ذلك الإعلان (النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود).

 

وبالطبع لا تعدم الأمة الجنود المخلصين والأبطال، فاحتدمت المعارك في البداية واستمرت بما يهزم عزيمة اليهود، فتدخلت القوى الدولية (أمريكا وبريطانيا) عبر مجلس الأمن،  وفرضت الهدنة الأولى في 11/6/1948 لمدة أربعة أسابيع، وقد تضمنت حظر تزويد أي طرف بالأسلحة، فيما كانت الغاية منها تمكين العصابات اليهودية من الحصول على السلاح من بريطانيا والولايات المتحدة، وهذا ما تم بالفعل (حرب 1948)، وهو ما تأكد مع استئناف المعارك من جديد في 8/7/1948، حيث "كان للجيش الإسرائيلي اليد العليا واتخذت المعارك مسارا مختلفا وتعرضت القوات العربية لسلسلة من الهزائم" (بدء الهدنة الأولى في فلسطين، النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود).

وانتهى القتال في 7/1/1949، وتمكنت العصابات والمليشيات اليهودية المسلحة، التي تشكلت على أرض فلسطين من المهاجرين مثل البلماخ والإرجون والهاجانا والشتيرن إضافة للمتطوعين اليهود، من هزيمة سبعة جيوش (من مصر والأردن، والعراق، وسويا، ولبنان، والسعودية إضافة للمقاتلين الفلسطينيين)، على نحو فاضح. وقد كان إيقاع الهزائم الفظيعة مقصودا لقتل الروح المعنوية عند الأمة، وينقل صاحب كتاب (النكبة الفلسطينية والفردوس المفقود) حديثا لوزير الدولة البريطاني (هيكتور نيل) يؤكد ذلك، حيث قال بعد الهدنة الأولى: "لا بد من استئناف القتال وإراقة الدماء في فلسطين ليُسلم العرب بالأمر الواقع ويعترفون بكيان دولة إسرائيل".

وبعد التوقيع على أربعة اتفاقيات متتابعة للهدنة ما بين شباط وحتى تموز من العام 1949، وتحديد الخط الأخضر  في 7/3/1949، أصبحت لليهود دولة قائمة على الأرض، وصارت رأس حربة للاستعمار الغربي، وصارت تشارك في حملة العداء على الأمة الإسلامية، كما حصل في العدوان الثلاثي على مصر عام  1956، حيث دفعت بريطانيا وفرنسا دولة اليهود لمهاجمة مصر، وشارك جيش اليهود مع كل من الجيش البريطاني والجيش الفرنسي في الحرب عليها، مما يكشف عن أن إسرائيل نشأت وظلت كأداة استعمارية لضرب الأمة الإسلامية وتحقيق مصالح الدول الغربية: كان هدف بريطانيا وفرنسا من تلك الحرب حل مشكلة قناة السويس، وتأكيد الجاهزية لحماية دولة اليهود في كل حرب مع المسلمين. وفيما كانت أمريكا تعارض ذلك الهجوم حماية لمصالحها وعميلها (لدرجة أن الموقف عرّض الحلف الأطلسي للتصدع)، إلا أن دولة اليهود نفّذته، مستغلة ظرف انشغال أمريكا بالانتخابات. وكانت الدولة اليهودية تستهدف من بعد تلك الحرب إجبار مصر على الصلح منفردة عن الدول العربية. (العدوان الثلاثي من بيان حزب التحرير بتاريخ 10/11/1956)

وفي سنة 1963، كانت دولة اليهود تصرّ على تحويل مجرى نهر الأردن (حيث كانت قضية المياه من القضايا الاستراتيجية لذلك الكيان، وظلت كذلك حتى اليوم)، فصارت سوريا تهدد بإشعال حرب شاملة, وتوافقت مع العراق على ذلك، وبينما استعدت الدولتان للهجوم في حالة تحويل مجرى نهر الأردن، سعت أمريكا لمنع حدوث تلك الحرب جريا خلف مصالحها، فحركت جمال عبد الناصر ليعالج الموقف، عبر عقد مؤتمر القمة العربي الأول: ونشطت أمريكا من خلال مؤتمرات الحكام العرب لإحباط التوجه نحو حرب جديدة، وأكد الحكام العرب في مؤتمراتهم (1964 و1965) عدم النيّة للحرب: إذ تضمن مؤتمر القمة العربي العادي الثالث الذي عُقد في الدار البيضاء في المغرب في أيلول 1965 "تأييد نزع السلاح وحل المشاكل الدولية بالطرق السلمية" (تاريخ القمم العربية)، كما أكّد جمال عبد الناصر ضمن خطابه المشهور في المؤتمر الفلسطيني عام 1965 أنه لا يريد أن يحارب (التعليق السياسي لحزب التحرير بتاريخ 7/11/1966).

وكانت دولة اليهود تخطط لمهاجمة سوريا، لتفرض عليها معاهدة عدم اعتداء في العام 1965، ولكي ترفع الروح المعنوية لليهود، لكنّ الخطة لم تتم في حينها، حيث أرسلت أمريكا مبعوثا خاصا لمنعها من الحرب ومحاولة إرضائها، كي تُبقي أمريكا على دفع مشروعها لفلسطين ضمن طريقه المرسوم، فاستجابت "إسرائيل" بتأجيل الحرب لا بإلغاء خطتها بشأنها (التعليق السياسي-حزب التحرير بتاريخ 18/9/1965).

وضمن الأجواء التنافسية بين أمريكا وبريطانيا حول قضية فلسطين، ظهرت بوادر حرب مصطنعة جديدة -خططت لها بريطانيا- قبل عام من حدوثها، بعدما ظلت أمريكا تدفع باتجاه الحل حسب رؤيتها بحل الدولتين، فيما حاولت بريطانيا عرقلة الحل والدفع نحو رؤيتها بحل الدول الواحدة (كما جددتها في مشروع بورقيبة عام 1965)، وفي ظل الحالة السياسية "الدفاعية" من بريطانيا، خططت بريطانيا للحرب للتخلص من الضغوط السياسية بحيث يقوم الأردن بتسليم الضفة الغربية، ومن أجل جرّ مصر نحو الحرب ليتورط جمال عبد الناصر في هزيمة تزلزله، وخصوصا أنه كان يدفع في اتجاه إنشاء الكيان الفلسطيني حسب المشروع الأمريكي، فكان لا بد من إضعاف شعبيته بين الناس.

وقد أخذ حزب التحرير يحذّر من تلك المؤامرة ومن عواقبها ضمن مجموعة من إصدارته في العامين 1966 و1967: ففي تعليق سياسي أصدره بتاريخ 13/7/1966، وضّح فيه سياق المهرجانات الضخمة التي أقيمت في الأردن لتأييد الملك حسين في مقابل الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وبدت في تصريحات الملك حسين مؤشرات تراجعه عن تأييد إنشاء منظمة التحرير، وذلك تحت شعار الحرص على وحدة الضفتين الشرقية والغربية، وتمجيدها، وصار يبيّن أن الشقيري (ومَن وراءه، ويعني جمال عبد الناصر) يريد فصل الضفة الغربية. وفيما كان الأردن يحذّر من فصل الضفة الغربية لأجل مشروع الكيان الفلسطيني، كان على الحقيقة يخطط لتسليمها في سياق العمل لمشروع بورقيبة وإنشاء كيان موحد حسب رؤية بريطانيا، ولذلك فُهمت تلك المهرجانات أنها لخلق الأجواء التي تبرر تسليم الضفة الغربية لليهود، وأدرك الواعون وجود "محاولات من الأردن للاتفاق مع إسرائيل لاصطناع هجوم على الضفة الغربية لجر عبد الناصر للحرب فيها من أجل ضرب الجيش المصري وتسليم الضفة الغربية لإسرائيل"، وأن تلك الخطابات والمهرجانات كانت مؤشرا على بدأ الخطوات الأولية لتنفيذ هذا الاتفاق.

وبيّن حزب التحرير –قبل الحرب- أن الكيفيّة التي سيتم فيها تسليم الضفة الغربية لليهود هي القيام بعملية حرب مصطنعة تتم فيها هزيمة الجيش الأردني واحتلال "إسرائيل" للضفة الغربية أولا، كرهان لتحويل القضية لهيئة الأمم المتحدة، ومن ثم من أجل إعادة النظر في قضية فلسطين. وكرر حزب التحرير كشف المخطط البريطاني في إشعال الحرب، وأوضح سياقات أعمال أمريكا لإحباطه، في أكثر من إصدار مع نهاية العام 1966، كما حصل مثلا في تعليقه السياسي على اعتداء اليهود على بلدة السموع الصادر في 23-11-1966، وفي تعليقه السياسي الذي صدر بتاريخ 27/11/1966، على حالة التوتر الشديد والمظاهرات الصاخبة التي اجتاحت الأردن بعد حادث السموع والتي سقط فيها عدد من القتلى والجرحى، حيث طغى على أذهان الناس أن ذلك العدوان اليهودي كان مقدمة لعدوان اكبر لتسليم الضفة الغربية لتنفيذ مشروع بورقيبة، ثم أكّد ذلك قبل شهر من الحرب في تعليقه السياسي بتاريخ 7/5/1967.

وفيما تمخض عن "النكبة" قيام دولة اليهود، جاءت "النكسة" في حرب 1967 فرسّخت ذلك الكيان، وأحدثت تغييرا في الأجواء السياسية وفي مجريات الأحداث من بعدها، وشنّ اليهود عدوانا على مصر والأردن وسوريا في 5/6/1967، ونتج عنه احتلال اليهود للضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان، مع تحطيم معنويات الجيوش العربية وأسلحتها، وتمكن اليهود من إعادة رسم مشهد القوة بالانتصار على ثلاثة جيوش عربية خلال ستة أيام، وبالتالي ترويج دعوى "إسرائيل التي لا تقهر". فيما كانت الهزيمة في الحقيقة نتيجة تآمر الحكام: وقد نقلت صحيفة اليوم السابع عن وزير الحربية المصري الأسبق أمين هويدي الذي ألف كتاب "حرب يونيو 67 أسرار وخفايا"، قوله أن الجيوش العربية المفترى عليها كانت ضحية لقيادتها قبل أن تكون ضحية لعدو واجهته، الأمر الذي يجعلنا نؤكد والكلام هنا لهويدي، أن "إسرائيل" لم تُواجه حتى اليوم بالقدرة العربية الحقيقية، فالقدرة موجودة ومتوافرة، ولكن استخدامها بالطريقة الصحيحة وفى الوقت الصحيح غائب، سواء عن قصد أو جهل.

وضمن تحليل أسباب الهزيمة تحدث بعض المحللين عن ضعف الجاهزية والإعداد لدى مصر، التي باغتها الجيش اليهودي بضربات جوية استباقية استهدفت القواعد الجوية المصرية ودمرت الجزء الأكبر من السلاح الجوي المصري (مما اعتبره البعض السبب المباشر في الهزيمة)، لكن الحقيقة المرّة أن جمال عبد الناصر أصدر قرارا مبكرا لوقف الحرب، فيما استمرت قيادات الجيش فيها، وكذلك تم صدور القرار بانسحاب الجيش الأردني مبكرا من المعركة، وذلك بعد اليوم الثاني للحرب. وتخاذلت القيادة السياسية السورية، وتم الكشف عن تآمرها، حيث أعلن وزير الدفاع السوري حافظ أسد آنذاك في البلاغ رقم 66 سقوط مدينة القنيطرة صباح اليوم السادس، وتم صدور أوامر إلى الجيش السوري بالانسحاب، فيما ظل تصدي الجنود السوريين للتقدم "الإسرائيلي" مستمرا، وخاضوا معارك عنيفة خلال نهار ذلك اليوم (حرب 1967).

وأدت تلك الهزيمة إلى تغيير جوهري في سياق القضية الفلسطينية، وصدر عن مجلس الأمن القرار رقم 242 في تشرين الثاني عام 1967، وهو يدعو "إسرائيل" -بصياغة ملتوية- إلى الانسحاب من "أراض" احتلتها في تلك الحرب، وعودة اللاجئين إلى ديارهم. ومن ثم سيطرت على الحديث السياسي نغمة "الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967" مما صار خطابا سياسيا متصاعدا، حتى صار اليوم "مشروعا وطنيا"، وتطور الخطاب نحو اللغة القانونية، وأخذ يبعد عن أية إشارات كقضية عسكرية للجيوش:

وتمحور مؤتمر القمة العربية الرابع في آب 1967، الذي عقد بعد "النكبة" حول "إزالة آثار العدوان من الأرض العربية"، وصار الحديث عن "الحقوق" لا عن "الحروب"! إذ تضمن البيان الختامي لذلك المؤتمر "ضرورة مواصلة العمل العربي الموحد من اجل صيانة الحق المقدس لشعب فلسطين في وطنه"، وكشف المؤتمر عن توجّه مبكر من قبل الحكام العرب لتسليم قضية فلسطين للفلسطينيين، وحصر دور الدول العربية بالعمل (السياسي) على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الحرب الأخيرة. وصارت القضية سياسية لا عسكرية، إذ قرر المؤتمر توحيد الجهود "في العمل السياسي على الصعيد الدولي والدبلوماسي لإزالة آثار العدوان وتأمين انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي العربية".

ومع أن مؤتمر الخرطوم أكّد على "المبادئ الأساسية التي تلتزمها الدول العربية وهي عدم الصلح مع إسرائيل أو الاعتراف بها وعدم التفاوض معها"، مما صار يعرف باللاءات الثلاثة، إلا أن الحقيقة أن مبدأ "اللاءات الثلاثة" كان موجها ضد الملك حسين لمنعه من تنفيذ معاهدة صلح سرية مع اليهود تسربت الأخبار حولها في ذلك الوقت، ومنعه من أن يعمل منفردا في قضية فلسطين، إذ طفت أخبار مفاوضات الملك حسين مع اليهود عبر محافظ القدس في حينه، وقد سرّب التلفزيون البريطاني في نشرته الإخبارية في 26/9 عن مراسله في القدس أنه "في نبأ عاجل من القدس أن مفاوضات سرية محاطة بجو من الكتمان الشديد تجرى الآن ما بين الحكومة الإسرائيلية وبين الحكومة الأردنية منفردة عن باقي الدول العربية وذلك عن طريق صديق شخصي للأسرة المالكة الأردنية".

وعلى الرغم من علو الخطاب السياسي لدى الأنظمة العربية تجاه الكيان اليهودي بلغة الحقوق لا الحروب، ظلّت بريطانيا مصرة على أن حل قضية فلسطين –وقضايا المنطقة- يجب أن يتم من خلال الحرب، على غرار العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وحرب 1967، بينما رسمت أمريكا مصالحها الاستعمارية على أساس القوة الناعمة دون الحرب، ولذلك ظلت أمريكا تعمل على تجنب إشعال حرب، من أجل مصالحها الاستعمارية.

وعلى الرغم من الرعاية المبكرة من قبل أمريكا للكيان اليهودي إلا أن قادته ظلوا على ارتباط قوي ببريطانيا، ولذلك ظل الكيان اليهودي مصدر توتر أمني وإشعال للحرب –في سياق التوجه البريطاني- وتكررت الاعتداءات اليهودية في العام 1968 على الأردن، تحت ذريعة إحباط الفدائيين الفلسطينيين، واستخدمت أمريكا القوى الناعمة والضغط على قادة اليهود لعرقلة المخطط البريطاني، ولذلك ظلت إشارات بوادر الحرب تعلو وتنخفض. وفي هذا السياق حصلت معركة الكرامة في آذار من العام 1968 بعد تقدّم اليهود نحو الأردن، وتصدى الفدائيون والجيش الأردني لهم ببسالة مما اضطرهم للانسحاب الكامل من أرض المعركة تاركين وراءهم -ولأول مرة- خسائرهم وقتلاهم دون أن يتمكنوا من سحبها معهم.

وفي ظل التوجه البريطاني لإشعال المنطقة بحرب جديدة، ومع حصول تحركات عسكرية بريطانية في البحر الأبيض المتوسط، تكاثفت المناورات السياسية من قبل أمريكا تُسخّر فيها عملاءها من أجل مصالحها الاستعمارية لا حفظا للدماء، فعملت على تحريك أعمال سياسية دولية نحو الحلول السلمية، التي تحرك جمال عبد الناصر كعرّاب دولي لها، فزار موسكو في تموز من العام 1968، ومن ثم زار يوغوسلافيا للاجتماع برئيسها تيتو (الذي سبق أن تحرك بمبادرة نحو حل القضية حسب المشروع الأمريكي)، وتم تغطية الزيارة تحت عنوان التزود بالسلاح.

وكرر عبد الناصر زيارته لموسكو من أجل نفس غاية الحل السلمي الذي كان يقوم على اعتراف مصر بالدولة اليهودية وفتح قناة السويس أمام الملاحة "الإسرائيلية"، فيما يتم إرجاع قطاع غزة لمصر، وأن تتسلم الحدود قوات دولية ترابط في الجانب المصري، وأن تكون سيناء كلها حتى حدود القناة الشرقية منزوعة السلاح، مع تسليم قضية فلسطين للمجلس الوطني الفلسطيني، في سياق تخلي الأنظمة العربية عن القضية.

وتحت تأثير القوة الناعمة لأمريكا وافق قادة يهود على الحلول المطروحة، مع إصرارهم على أمريكا من أجل التراجع عن تدويل القدس، فوافقت أمريكا في حينه بحيث تبقى القدس موحدة سياسيا وعسكريا وأمنيا تحت سلطة "إسرائيل" فيما تكون الإدارة المدينة والاقتصادية والدينية للأردن.

وهكذا ظلت الأعمال العسكرية فيما يتعلّق بقضية فلسطين منذ نشأتها وسيلة لتنفيذ مخططات الدول الاستعمارية في رؤاها للحل على أساس دولة فلسطينية و-أو "دولة إسرائيلية".

وأمام هذه المراجعة التاريخية للحروب اليهودية، لا بد من إبراز النقاط التالية:

•        اليهود كانوا وظلوا يتصرفون كعصابات إرهابية، تلطخت أيديهم بأعمال القتل والتفجير، ونشأ كيانهم بتلك الأعمال الإجرامية، وهم يدّعون "إرهاب المسلمين" فيما يختبئون خلف تاريخ بشع من الإرهاب.

•        كان اليهود سباقون في تنفيذ عمليات "إرهابية" ضد المسلمين في فلسطين، ولكن الغرب في عقليته المنحازة ضد المسلمين يتعامى عن ذلك التاريخ الأسود لليهود، ويكيل التهم لمن يمارس الجهاد ضد اليهود.

•        إن العداء ضد المسلمين مستفحل في عقول وقلوب اليهود، ولذلك فهم لا يترددون في إراقة دماء المسلمين، وكانوا دائما جاهزين ليكونوا أداة استعمارية لضرب المسلمين.

•        إن الحروب التي خاضتها دولة اليهود ضد الأنظمة العربية لم تكن حروبا حقيقية، ولذلك فإن الكيان اليهودي هو أصغر من أن تحسب له الأمة الإسلامية حسابا في معادلة حروبها، عندما تُخلص القيادة السياسية فيها.

•        ظلّت بريطانيا تتخذ من الحروب ومن إراقة دماء المسلمين أداة لتنفيذ مخططاتها الاستعمارية، وضمن صراعها على النفوذ، وهي من الخبث الدائم بحيث لا يمكن لأمة واعية (ولا لسياسيين مخلصين) أن تمد معها جسور التواصل السياسي.

•        ظلّت أمريكا تتآمر على فلسطين وعلى أهلها حتى وهي تحاول تجنب الحرب، وكانت تستخدم القوى الناعمة لتحقيق رؤيتها الاستعمارية.

•        تم خوض تلك الحروب الهزيلة ضمن ساحة الصراع على حل الدولة الواحدة وحل الدولتين، ولم تكن في حقيقتها حروب تحرير واجتثاث الكيان اليهودي من جذوره، ولذلك فإن الأمة لم تخض بعد "حرب تحرير فلسطين".

•        لقد تقّصد المستعمرون إيقاع الهزائم وإراقة دماء المسلمين من أجل تسهيل زرع الكيان السرطاني اليهودي في صدر الأمة، وتيئيسهم من التحرير بالجهاد.

•        مهدت تلك الحروب لمؤامرة التخلي عن القضية الفلسطينية وتسليمها للفلسطينيين، وأسست لخطاب سياسي-قانوني للأنظمة العربية بعيدا عن العسكرة والحروب.

 

18-02-2012