قراءة لتطورات المشهد السوري
عصام الشيخ غانم
كانت التحليلات السياسية التي رافقت انطلاقة الانتفاضة السورية تشير بوضوح إلى أنّ هذه الانتفاضة تختلف كثيرا عن باقي الانتفاضات العربية. فمن حيث الجغرافيا السياسية تعتبر سوريا من دول المواجهة مع كيان يهود، وكذلك تعتبر قلعة قوية في محور ما يسمى "بالممانعة"، وشكلياً تعتبر حاضنةً للكثير من الحركات الاسلامية الفلسطينية. فكان كثير من المحللين الذين يحلو لهم خلط الأوراق عكسياً يتصورون تطور السيناريو السوري إلى فقدان حركات المقاومة الفلسطينية لملاذ قادتها، وفقدان حزب الله الاتصال بالسند وبإيران، وسقوط قلعة الممانعة والمواجهة التي مثلها النظام السوري عبر عقود كمسرحية لم يصدقها إلا الأطفال.
وكان الكثير من هؤلاء المحللين يغفلون عن أنّ النظام السوري يحافظ على هدوء مطبق لجبهة الجولان، وأنّ هذا النظام قد عمل على تعميق قوة الردع لكيان يهود عبر الهجمات الكثيرة التي كالها كيان يهود لسوريا في لبنان وداخل سوريا، وكان النظام السوري يعلن بأنّه سيرد في المكان والزمان المناسبين، فعمق بذلك من خوف المؤمنين به من قوة الجيش اليهودي. فلم يكن من سوريا "الممانعة" إلا الكلام والخطابات الرنانة التي زادت الطين بلَة وساهمت في تفريغ المنطقة العربية من أي قوة يمكنها أن تجابه التحديات. لكن النظام السوري كان ينكشف في الأزمات الخطيرة مثل احتلال العراق للكويت فاضطرت أمريكا للاستعانة علناً بهذا النظام الذي تنسق معه الكثير من سياساتها، لكن من وراء حجاب حتى تتمكن عن طريق خطاباته وصورته الممانعة من احتواء الحركات الثورية سابقاً والاسلامية لاحقاً كحزب الله وحماس والجهاد وغيرها.
نعم، على الرغم من وضوح تلك الصورة التي تنطق بالوقائع بزيف الممانعة والوطنية في النظام السوري الغارق في الفساد والعمالة حتى أذنيه، إلا أنّ التحليلات السياسية كانت تشير كلها إلى خطورة التحولات الممكنة في سوريا، وربما نلتمس لهؤلاء المحللين بعض العذر الذي سببه غموض في الشعب السوري، ذلك الغموض الذي كان مبعثه شدة القهر وضراوة الظلم وضنك الأوضاع السياسية داخل سوريا. فهذا صحيح.
اندفعت الانتفاضة السورية بعنفوان تصاعدي انطلق من مدينة درعا في الجنوب، وكان قد سبق ذلك بيانات شديدة التحريض ضد النظام السوري أصدرها حزب التحرير في سوريا، فكانت مع عنفوان الروح الثورية التي تجتاح المنطقة العربية بمثابة الشرارة التي أشعلت الأحداث في سوريا. منع النظام السوري أي اتصال إعلامي داخل سوريا، وأراد من ذلك حجب الصوت والصورة عن السوريين والعرب والعالم، ونجح في ذلك بشكل كبير وإن لم يكن كلياً، لكن ذلك قد عمل من حيث لم يحتسب على زيادة صلابة الانتفاضة السورية أمام الدماء التي غرقت بها شوارع درعا وبانياس وحمص واللاذقية وتلكخ وتلبيسة ودوما وحماة وأخيراً جسر الشغور ومعرة النعمان، فعملت الدماء الزكية التي سالت على دفع المزيد من الناس إلى الشوارع بغض النظر عن التغطية الإعلامية، ومن ناحية أهم فقد ساهم ذلك بقوة في حماية الانتفاضة السورية من التلويث الذي تفرضه وسائل الاعلام التي تتصل بالثوار وتسهل لهم الاتصالات مع الخارج فتفتح لهم أبواب جهنم من حيث لا يحتسبون، كما هو حاصل الآن في ليبيا واليمن. وبهذا فإن الانتفاضة السورية قد تميزت بنقائها، وظهر هذا النقاء في أنّ الشعارات التي رفعت كانت كلها شعارات إسلامية تنادي بالله أكبر، "على الجنة رايحين ... شهداء بالملايين" وغير ذلك من الشعارات التي أماطت اللثام عن بعض الغموض لدى الشعب السوري الذي أراد نظامه أن يظهره بشكل متحرر من القيم الاسلامية.
ولعل ما يذكره النظام من "مندسين" و "سلفيين" و "جماعات إرهابية" أي إسلامية وفق المفاهيم السائدة في وسائل الإعلام، ما يؤكد بوضوح لا لبس فيه توجه انتفاضة الشعب السوري، وإن كان النظام يبحث من وراء ذلك عن ذريعة يكذبها كل شرفاء سوريا لسفك الدماء، ويعبر للرأي العام الغربي بصورة شبيهة كتلك التي عبر عنها القذافي بـ "إمارات إسلامية على المتوسط" و"القاعدة"، مع أننا نجزم بأنّه يتحدث علناً مع دوائر الغرب السياسية والاستخباراتية عن خطورة إقامة خلافة إسلامية في سوريا إذا انهار نظامه، أو جعل سوريا منطلقاً للجهاد ضد كيان يهود فيما لو أدت الأحداث الى اضعافه داخلياً.
تترافق انتفاضة الشعب السوري مع ظروف دولية غير عادية، فالغرب عموماً والذي تتعمق لدية حالة الضعف أصلاً، غير قادر على التدخل الحاسم في سوريا، وضعف الأداء الغربي في ليبيا وإن كانت خلفه صفحات من الصراع الأوروبي الأمريكي إلا أنه يكشف عن ضعف ارادة كبير لدى طرفي الأطلسي، وهذا مفهوم بسبب عقدة الفشل في العراق وأفغانستان ومحاولاتهم الخروج من مستنقع التدخل المباشر في العالم الإسلامي عموماً. والأهم من ذلك أنّ دوائر الاستخبارات الغربية كانت تتوقع انفجار الشرق الوسط بحلول 2020 فسبقتها الانتفاضات التونسية والمصرية واليمنية والليبية بعقد كامل، بل وشكل النمط الذي بدأ به انفجار الشرق الأوسط "الانتفاضات الشعبية" صفعة كبرى لكبار مفكري الاستخبارات الأمريكية والأوروبية وكذلك عند اليهود، إذ كانت تشير السيناريوهات التي يرسمونها إلى ثورات مسلحة تقوم بها جماعات جهادية. وقد أربكت تلك الصفعة المواقف الغربية من انتفاضة الشعوب العربية، فأخذت المواقف الغربية دور ردات الفعل بعد عقود من الأفعال والتخطيط والاستباق، ومن ناحية أخرى فإن تركيز الخوف الأمريكي في الإسلام في باكستان وسياسات الاستباق التي تقوم بتنفيذها عبر تفجيرات المدن الباكستانية لإرباك أي تغيير في باكستان، يضاف إلى ذلك تزامن كل ذلك مع إدارة أوباما التي خطط لها أن تمحو الصلف الأمريكي الذي رسخته حقبتا بوش الابن من أذهان العالم، كل ذلك قد حمل أمريكا إلى الارتجال في التعامل مع الانتفاضات العربية، فعجزت عن المواكبة والتركيز حتى اعترفت بفقدانها دورها المعهود في الشرق الأوسط، فعلى الرغم من تصريحات أوباما للأمريكيين بأنّ الكثير من مستقبل أمريكا يرتبط بالشرق الأوسط، وهذا غير جديد، إلا أنّ وزيرة خارجيته قد صرحت علناً بأنّ "أمريكا بحاجة إلى أدوات مبتكرة ومبدعة لدور جديد في الشرق الأوسط " في ظل الغليان الشعبي ضد الحكام والذي خرج إلى السطح وبزخم كبير وللمرة الأولى مهدداً النفوذ الأمريكي وغير الأمريكي في المنطقة.
بل إنّ صحيفة الواشنطن بوست قد صرحت في تعليقها على الأحداث السورية بأنّ الساسة الأمريكان قد أصابهم إعياء شديد في متابعة الثورات العربية. وفعلاً كيف يتصرف المخططون في رسم الدور الأمريكي للحفاظ على قلعة نفوذ أمريكا في الشرق الأوسط "مصر" بعد زوال مبارك، وكيف يمكنها رسم الطريق لبقايا النظام المصري "المجلس العسكري الحاكم" كي يمكن توليد نظام جديد يخفف من الخسائر الأمريكية في مصر ويمكنه البقاء في ظل استمرار الثورة المصرية بعد "النصر". فهؤلاء المخططون القابعون في واشنطن وفي سفارات أمريكا في المنطقة العربية يواجهون شارعاً عربياً مستنفراً ضد الحكام الجدد وغير واثق بهم، ومستعد للاستمرار بالثورة حتى تحقيق أهدافها في التخلص من التبعية والاستقلال.
هذا هو الظرف الدولي غير الاعتيادي الذي واكب الانتفاضة السورية، وعنوانه يأس أمريكا والغرب من المنطقة العربية وحالة الاعياء التي تكبلهم عن التدخل المنتج سواء المباشر أو غير المباشر، وهكذا آل علاج الانتفاضة السورية إلى ماهر الأسد، فكانت الطريقة الوحشية التي دفع بها بالفرقة الرابعة إلى درعا وما بعد درعا قد أججت مشاعر الشعب السوري فكسر حجاب الخوف ونادى بها مدويةً "الشعب يريد إسقاط النظام" وأجج وهو الأخطر مشاعر الضباط السوريين الذين أخذوا بالانشقاق عن الجيش فرادى وجماعات.  
إنّ الناظر في كل تلك الظروف الأحداث ودلالاتها يستطيع رؤية الصورة التي يغيبها النظام السوري ووسائل الاعلام الكبرى والصغرى والتي أوحي اليها أصحابها بالابتعاد عن تأجيج الثورة في سوريا، فكانت مواكباتها ضعيفة لدرجة أفقدت الناس الثقة في وسائل الاعلام تلك، بل وفي كل وسائل الاعلام التي تابعث نهر الدماء في سوريا ببرودة غير معهودة.   
أخذت الانتفاضة السورية مداها، وعمت سوريا برمتها اللهم أنّ الزخم العارم في المدن السورية لم يدخل حلب ودمشق بعد. والواضح أنّ أمريكا لا يوجد لها بديل عن الأسد ورفاقه المنبوذين بالكلية من الشعب السوري، ولا يوجد أي أمل لأنّ يصغي الشعب السوري لأصحاب المؤتمرات الذين تجمعوا في تركيا وباريس. فمن تجمع في تركيا قد دفعت لهم مؤسسة "فورد فاونديشن" الأمريكية تذاكر سفرهم وأجرة فنادقهم واقامتهم في تركيا، وكذلك فعلت فرنسا بسوريي المعارضة في باريس. وغفل هؤلاء أنّ الشعب السوري الجريح لا يثق في كل هذه المؤتمرات وتساوره شكوك عريضة في رجالاتها الذين يتعاطى الكثير منهم مع دوائر الاستخبارات الأمريكية والفرنسية والبريطانية. والنتيجة أنّ هذه المؤتمرات فشلت في ايجاد القيادة البديلة لنظام الأسد والتي يمكن للغرب فيما لو سقط الأسد أن يعتمد عليها. فعادت أمريكا أمام هذا الفشل تدافع عن النظام السوري الذي تطالبة بالاصلاح وتبعد عنه ضرر بعض المشاريع الأوروبية لادانته في مجلس الأمن عن طريق ايحائها لروسيا بالفيتو، وإلا فمتى كانت روسيا قادرة على التلويح بالفيتو في مجلس الأمن؟ لماذا لم تلوح به روسيا عندما أصرت إدارة بوش الابن على استصدار قرار من مجلس الأمن ضد العراق سنة 2003؟ لذلك فكل ما تقوم به روسيا في مجلس الأمن هو سياسة أمريكية مفضوحة لمن يتابع.
وأمام كل هذه الظروف الدولية والاقليمية وزيادة المخاوف من انفلات سوريا لم يبق للسياسات الغربية إلا التلويح بتركيا التي أعلن رئيسها بأنها أي تركيا تراقب سوريا عن طريق تقارير استخباراتية يومية وهي جاهزة مدنياً وعسكرياً للتعامل مع الانفجار السوري والذي يتوقع أن يكون مدوياً، وما عملية المصالحة الفلسطينية والتنازلات التي يقدمها أتباع أمريكا على طاولة المصالحة إلا لتسوية أوضاع اقليمية لحرمان المولود القادم من بين دماء السوريين لاستخدامه، والذي يشير الى خطورة التوقعات الغربية لما يمكن أن تتطور اليه الأحداث في سوريا تلك المناوات غير الاعتيادية التي يقوم بها جيش اليهود في الجولان.
وأما الطريقة التي تتشكل بها الانتفاضة السورية فباتت واضحةً، فمنذ أسابيع حاولت قطاعات من الفرقة الخامسة في الجيش السوري حماية درعا وجعلها منطلقاً تتوجه اليها تطلعات الشعب السوري المنتفض، فأجهضتها الفرقة الرابعة التي يقودها المجرم ماهر الأسد، وقصفت درعا بالأسلحة الثقيلة حسب الرواية الرسمية للنظام السوري لمنع بيعة أمير في درعا. فعادت قطاعات أخرى من الجيش السوري وتجمعت في محافظة إدلب شمال سوريا، وأعلن النظام السوري صراحة بأنه قد فقد السيطرة على معظم مناطق إدلب وإن كان يقول عصابات مسلحة تمتلك من الأسلحة ما لا يمتلكه الجيش السوري، وكانت ولا تزال كل وسائل الإعلام تتغاضى هذه الحقيقة، والواضح أنّ شرفاء سوريا يحاولون إيجاد نقطة انطلاق للتمدد وإعلان القيادة البديلة فيما لو استطاعوا الصمود ودعوة الأمة في سوريا لبيعة القائد الجديد. وكانت أحداث إدلب بالغة السخونة، وحشد لها ماهر الأسد 15000 جندي من أتباعه، وهذا رقم كبير يشير الى تعاظم الجبهة المقابلة. تمكنت ألوية ماهر الأسد من دخول مدينة جسر الشغور وها هي تحاول في معرة النعمان في محافظة إدلب، لكنها لم تنتصر لأن القطاعات المقابلة قد تفرقت دون مواجهة أو هزيمة وانسحبت الى مناطق أبعد.
والذي أراه الآن أنّ قطاعات العسكر الأوفياء لماهر الأسد يصيبهم إعياء ويأس في التنقل من درعا في أقصى الجنوب الى أقصى الشمال دون التمكن من الحسم في ظل تعاظم ارادة الشعب السوري المنادية باسقاط النظام، وفي ظل تصاعد عمليات انشقاق الجيش رغم التعتيم الاعلامي. والذي يشير الى ذلك أيضاً اختفاء المسؤولين السوريين الكبار عن الساحة حتى أنّ بشار الأسد لا يرد على الكثير من اتصالات القادة الدوليين أمثال بان كي مون، وهذا ليس مؤشراً على الحرج فقط، إنما يدل على شديد انشغال في كيفية البقاء في ظل نزيف ولاء الجيش عنه وتساقط أوراق سلطته. وبما أنّ الأوضاع السورية قد انتقلت الى التأجج اليومي فإنّها قد حرمت النظام من التفكير خلال الاسبوع في علاج أوضاع الجمعة، وبما أنّ الأوضاع تسير إلى مزيد من الاندفاع شعبياً للتظاهر لإسقاط النظام، وأنّ هذه السخونة قد أخذت طريقها نحو دمشق، وبما أن المزيد من ضباط الجيش قد أخذوا يتحللون من النظام وينادون زملاءهم للانشقاق فإنّ طريق الانتفاضة السورية للتخلص من النظام قد أخذت مدىً يبشر بقرب تحقيق الهدف. وبما أنّ الأوضاع كافة قد ساهمت في الحفاظ على نقاوة الانتفاضة الشعبية في سوريا، فإن مولوداً فريداً ستنتجه سوريا، حينها ستصدق النتائج التي خلص اليها الكثير من المحللين عن الوضع الخاص والخطير لسوريا والذي لا يشبه مصر أو تونس أو غيرها، لكن مخاض الانتفاضة السورية سيكون بإذن الله مغايراً لما يريدون، فقد تصحو الأمة الاسلامية على نداءآت الشام لتسمع الأنغام الدمشقية تنشد:
طلع البدر علينا ............... من ثنيات الوداع، وجب الشكر علينا ...... ما دعا لله داع....... جئت شرفت المدينة .... جئت بالأمر المطاع.
وإذا تأخرت هذه الأنغام بعد انهيار نظام الأسد فإنّ الأمة في سوريا والقوى المخلصة فيها تكون قد بذرت هذا النشيد ليتأخر قطافه ما شاء الله له أن يتأخر، لكنه قادم قريباً في ظل الأوضاع الجديدة التي ترسم بدم أبناء الأمة في بلدان الإسلام كافة، وسيخرج من سوريا أو من غير سوريا صرخةً مدويةً كبرى "خلافة على منهاج النبوة" يعم خيرها العالم بأسره.
 17/6/2011