من ينتهك عذرية الثورة ؟
الدكتور ماهر الجعبري
لم تتوقف جرائم القذافي عند حدود القمع والقتل ونهب ثروات ليبيا طيلة عقود من الزمان، ولا عند حد الاستخفاف بتاريخها وواقعها ومستقبلها، ولم يتوقف عند استخدام جيشه ضد شعبه، ولا عند استقدام مرتزفة لمحاربة رعاياه الآمنين! كل تلك الجرائم معلومة مشهودة في من نذر نفسه –وسخّر من تحته- لخدمة المصالح البريطانية والسياسة البريطانية.
لقد تمثّلت الجريمة الكبرى التي تسبب بها القذافي في تضييع "عذرية" الثورة عندما مهّد لدخول الأجنبي إلى حجرتها في بنغازي، وفتح له المجال ليسرح ويمرح تحت ذريعة حماية المدنيين، فيما هو ينتهك طهر الثورة، ويشتت جهودها، ويفرش بسطه للتسابق على اغتصابها، واحتضان ما يتمخض عن مخاضها.
لقد استباحت رجالات الاستخبارات الغربية مدينة بنغازي: بدأ الأمر عندما قبض الثوّار على مجموعة من البريطانيين في خبر كان غريبا، واختفى صداه سريعا، ثم بدأت وتيرة الاتصالات الغربية مع المجلس الثوري في ليبيا تعلو، وحط ممثلها في فرنسا، ثم صار عاديا وجود البريطانيين في بنغازي يتواصلون مع قادة المجلس الوطني، وفي الأيام الأخيرة، حلّ فريق من الاستخبارات الأمريكية في حجرة الثورة، في خبر سكتت عن نفيه الإدارة الأمريكية، وهي التي تجهد في عدم إثارة مشاعر الثوّار الذين يعلمون جيدا جرائم أمريكا في العراق وأفغانستان، وفي باكستان، بعدما كان بعض المحليين الأمريكان يوضحون أن إشكاليات الإدارة الأمريكية في ليبيا هي في عدم وجود اتصالات لها مع شخصيات ليبية.
إذًا، فالجريمة الكبرى هي في تمكين الغرب من الوصول إلى الثوّار، ومحاولة توجيههم حسب مصالحه، وبالتالي محاولة حرفهم عن التحرر الحقيقي بخلع نفوذه من جذوره، وهي أبشع جريمة يرتكبها القذافي، فيتورط فيها المجلس الوطني الليبي.
"تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها" .... وتموت الثورة ولا تستعين بالأجنبي، وخصوصا إذا كان رأسماليا محاربا للأمة، وهي التي تخوض هذه الثورة ضد خدّامه في بلاد المسلمين: كيف يمكن لبريطانيا التي سخّرت القذافي طيلة العقود الماضية أن ترعى ثورة ضده ؟ وكيف يمكن لحلف النيتو الذي يحارب "المقاومين" للوجود الغربي في أفغانستان أن يحمى ثورة ضد مثل هذا الوجود في ليبيا ؟ وكيف يمكن لأمريكا التي خطفت الثورة من أصحابها في مصر أن تحمي ثوّار ليبيا ؟
إن المصالح هي اللغة البليغة للسياسة، ولا يمكن أن يتدخل الغرب لتحرير الأمة من هيمنته ! فديمومة الهيمنة الغربية في بلاد المسلمين مصلحة حيوية للغرب، الذي يمنع نهضة الأمة على أساس حضارتها التي ترفض الخنوع والعبودية السياسية، وترفض الهزيمة الثقافية قبل الهزائم السياسية والعسكرية.
لقد قالها ابن خلدون على مرمى حجر من ليبيا، حيث كان يقطن، أن "المغلوب يقلّد الغالب"، وطالما أن هنالك مغلوبين بيننا، ومنهزمين أمام الغرب وثقافته، وطالما أن منهم من يدعونا إلى تقليده في سياسته وفي ديمقراطيته، فلن نفتك من آثار هزيمته الثقافية.
ولذلك من المؤسف ما يحاوله بعض "المعارضين" للقذافي، من الذين يدافعون عن الثوار إعلاميا، عندما يؤكدون، كلما ترددت تلك القوى الغربية في "دعم الثورة!" خوفا من عنفوان شبابها المخلصين، أنهم يريدون "دولة مدنية ديمقراطية".
لا شك أن من ينادي بتطبيق النماذج الغربية السياسية يقع تحت فخ إسقاط التاريخ الغربي الثقافي –إبان ثورته على ظلم وظلام العصور الوسطى- على مستقبل أمة لها تاريخها المشرق وثقافتها الراقية، ولها مصطلحاتها السياسية الخاصة بها. فكيف يتم استيراد مصطلحات نمت وترعرعت في بيئة ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة بعيدة كل البعد عن التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية ؟ أو كما تساءل المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري وهو يناقش دخول مفهوم المجتمع المدني: "بأي معنى، حتى لا نقول "بأي حق"، يمكن نقل هذا المفهوم إلى مجتمعات لم تعش هذه التطورات مثل المجتمع العربي" ؟
إن من ينادي بذلك يؤكد قبول ثقافة الغرب، وهو يتبنّى قيمه، وهو بالتالي يجهد في استصدار شهادة "حسن سلوك" من هذه القوى الغربية، ليستمر في المشهد السياسي والإعلامي، لأن الفضائيات تحذف من مشاهدها كل من "يغبّش" على هذا المشهد القابل للهزيمة الثقافية أمام الغرب.
وإن الثورة ضد الظلم كفاحية سياسية مباركة، ولكن مباركة هذه الثورة، لا تعني غض الطرف عن السقوط في وحل المكائد الغربية، ولا تعني مدح من يحاولون تجزئة الثورة إلى مجرد إسقاط حكام، مع البقاء ضمن حدود الهزيمة الثقافية أمام الغرب وحضارته.
وهنا تتجلى ضرورة الوعي السياسي، الذي يوجب على الثوّار أن ينظروا للأحداث التي تجتاح الأمة وأن يقوّموها من زاوية واحدة، وهي زاوية الأمة وعقيدتها وثقافتها، ولا يمكن أن يجتمع الوعي السياسي مع قبول التدخل الغربي في مناطق ورفضه في مناطق أخرى. ولا يمكن أن تنجح ثورة في الأمة إذا تبنت حضارة الغرب الذي استعبد الأمة منذ أن تآمر على إسقاط خلافتها التي جمعتها، وكانت بريطانيا هي رأس تلك المؤامرة.
والوعي السياسي سياج يحمي الثوار من الوقوع في المكيدة التي مررت باسم "الثورة الفلسطينية" حيث حملت ألقاب وأسماء مجالس شبيهة، ومن ثم تم تجيير "الثورة" إلى سلطة هزيلة تحارب "الثوّار" بعدما انغمست في أحضان أعداء الثورة، وبعدما تبنت برامجهم السياسية.
ليس ثمة شك أن قبول الحلول الفكرية الغربية هزيمة ثقافية، وقبول التدخل الأجنبي هزيمة سياسية، ولذلك لا بد من إعادة التفكير بمعادلة التغيير من جديد، والتي تجمعها ثلاثة كلمات مفتاحية: هي السياسة والفكر والعسكر، حيث تنجح الأمة اليوم في كفاحها السياسي وفي التمرد على الحكام، ويجب عليها أن تجمع مع ذلك الكفاح وضوح الفكر والتميّز الثقافي عن الغرب، ومن ثم تعمل على كسب العسكر في صفها حتى يحسم التغيير في خطفة عين، قبل أن يتمكن الحاكم من تسخير الجيش ومقدراته في حرب ضد الأمة.
إن طريقة التغيير هذه، هي التي تقطع الطريق على تدخل الأجنبي، كيف لا ؟ وهي التي استمدها المجتهدون من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء دولته الأولى، عندما خاض كفاحا سياسيا وصراعا فكريا، حتى حصل على نصرة أهل المدينة وضمنوا له منعتهم.
وخلاصة القول أن الاتصالات مع الحكومات الغربية هي تبعية سياسية، وقبول الحلول الفكرية الغربية هي هزيمة ثقافية، وتقرير هذه الحقيقة لا يخضع للمجاملة مع الثورة، وهو لا ينتقص من نشوة الثوار الأحرار الذين يقفون في وجه القذافي، ولا ينال من مشاعرهم، فتكبيراتهم ونطقهم للشهادة وهم يلفظون الأنفاس الأخيرة مشهودة معلومة. بل هي صرخة تحذيرية لمن يطلب شهادة حسن سلوك من الغرب، ومن يفتح له حجرة الثورة ليعبث بها.
وهي صرخة تحذيرية لكل ثورة تتولد، أو يتدفق الدم لإشعالها بقوة كما في سوريا: الحذر الحذر من الاتصالات الأوروبية والأمريكية، فهي قوى استعمار عتيق يتجدد، والحذر الحذر من تبتي حلوله الفكرية، فهي الضمانة لديمومة هيمنته، والحذر الحذر من التورط ضد العسكر فهم من الأمة ولها.
5-4-2011