الدكتور مصعب أبو عرقوب-عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
"شر البلاد بلاد لا أمير بها.. "، تابع أكثم بن صيفي حديثه بباب كسرى ليأسر الألباب ويغير الصورة التي كان يحملها كسرى عن العرب، فما كان من كسرى إلا أن علّق مادحا: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى.
وقد ترأس أكثم رهطا من العرب، لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم، وعقولهم وآدابهم، ابتعثهم النعمان بن المنذر لكسرى ليعلم أن العرب على غير ما ظن بهم من وحشية وصغر همة، ولخوف النعمان من أن يتخذ كسرى العرب "خولاً كبعض طماطمته في تأديتهم الخراج إليه، كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله".
ومع أن الواقع السياسي للعرب في الجاهلية لم يكن ليسمح بمقارعة الدول الكبرى في ذلك الزمان فلا وجود لدولة مبدئية تجمعهم تحت لواء واحد ولم يعتقدوا الإسلام حينها كنظام ورسالة عالمية، إلا أنهم على الأقل حازوا على الاحترام والتقدير، وأبى ملكهم النعمان بن المنذر أن يعامل العرب بإهانة فيدفعوا الخراج لكسرى.
وقد تعوز حكمة العرب البعض عند الوقوف على الواقع السياسي المرير الذي نعيش، فبعد اعتراف الجميع بفشل المفاوضات غير المباشرة، واعتبار نتائجها "صفراً كبيراً" و "فشلاً ذريعاً لجهود السلام"، جاءت لجنة المتابعة العربية لتحض على المفاوضات المباشرة وتلقي الكرة في ملعب السلطة الفلسطينية لتستعين الأخيرة بالمجلس الثوري واللجنة التنفيذية علّها تتبنى الذهاب إلى المفاوضات المباشرة، فالكل يلقى بكرة اللهب تلك للآخرين تنصلاً من وزر البدء بالمفاوضات المباشرة، في مسلسل درامي معقد، تلتبس فيه الأدوار وتتداخل الصلاحيات فلا تكاد تميز بين الرئيس والرعية في تلقي الأوامر، وبين التنفيذية والعربية في الصلاحيات، وبين الثوري والتشريعي في البعد عن التأثير في الأحداث، فلا قرار واضح يتخذ حيال المفاوضات التي أقر الكل بفشلها عبر مسيرتها الطويلة ولا يظهر في الأفق مسئول أو هيئة تستطيع البت في تلك القضية، ويصبح المسلسل عصي على الفهم أكثر إذا نسيت حكمة العرب "شر البلاد بلاد لا أمير بها".
فقد كان واضحاً بعد اجتماع اللجنة العربية أن كل شيء قد تم قبل الاجتماع في كواليس فندق الـ(فور سيزون) في القاهرة الذي كان يرابط فيه ديفيد هيل كبير مساعدي مبعوث السلام الأميركي جورج ميتشل، فقد كان التناقض والارتباك سيد الموقف في المؤتمر الصحافي الذي عقد بعد الاجتماع وتناقضت فيه الأقوال بين الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ورئيس اللجنة الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني. فموسى قال إن المفاوضات تحتاج لمتطلبات وشروط، بينما تحدث الشيخ حمد عن خلق البيئة وإطلاق يد الرئيس أبو مازن في عملية السلام، مما يعني تهرباً من المسؤولية وإلقاء الكرة في ملاعب الآخرين، وتوالت الأحداث في قضية هامة للأمة الإسلامية لتكشف حقيقة الشر الذي تعيشه في ظل غياب الأمير وتشعر بهذا الشر يلامس جلدها، فلا يستطيع أحد أن يتخذ قراراً حتى وان كان يتنافى مع مصالح الأمة، حتى جاءت وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون لتقطع قول كل خطيب وتعلن بدء المفاوضات المباشرة وتحدد مراسيم الاحتفال بها وقائمة الحضور.
ولا يجادل أحد في أن عدم اتخاذ القرارات يدلل على التبعية والارتهان للغرب، وفقدان السيادة، وإن جاء كل ذلك تحت عنوان الضغوط الكبيرة وغير المسبوقة فما هي إلا مصطلحات تجميلية تدلل على فقدان السيادة والتبعية للدولة الأولى في العالم، وتفتقر تلك المصطلحات لحكمة العرب وبساطة بلاغتهم وصدق تعبيراتهم، فالواقع يشير إلى أننا نعيش في شر البلاد إذ لا أمير بها ولا سيادة.
إلا أن اللافت في الأمر أن الإدارة الأمريكية لم تعد تبذل جهدا في إخفاء تلك الحقيقة عن الشعوب، وباتت تتصرف غير آبهة بمصير حلفائها وصورتهم أمام شعوبهم، فأصبحت أوامرها واضحة جلية غير مغلفة بتمنع بعض الأنظمة وعنتريات البعض الآخر فالكل أمام الأوامر الأمريكية سواء، فالإدارة الأمريكية لا تريد أن تعود للوراء لتقاتل في حصون سقطت وأصبح من العسير عليها استعادتها في معركة العقول والقلوب، ففي ذلك مضيعة للوقت والجهد في زمن الأزمات والمستنقعات، فحقيقة الأنظمة وتبعيتها للغرب وانسلاخها عن الأمة رسختها الإحداث والمصائب تتراً في عقول وقلوب الأمة عبر عقود من العيش في شر البلاد والوقوع فريسة لانعدام الوزن وفقدان السيادة وتكسر الأحلام.
فالإرادة السياسية المستقلة ذات السيادة تنتج تصرفات وسلوكاً سياسياً ملبياً لمجموعة الأفكار والمعتقدات ومتماشياً مع المنظومة الفكرية التي تعتقدها الأمة ومع آمالها وطموحاتها، وما دون ذلك يأتي تحت تحقيق مصالح الأعداء والدفاع عنهم وفقدان الاستقلالية والتردي في مستنقعات التبعية، فأرض فلسطين أرض مباركة في عقيدة الأمة وفكرها ومسرى الرسول وأولى القبلتين، ولن تهدأ الأمة حتى ترى القدس وفلسطين محررة مطهرة، وما دون ذلك لا يتناسب مع فكر الأمة وآمالها، وسيان عند الأمة بعد تلك الحقائق إن ضاعت الأرض المباركة مباشرة بأوامر الغرب أو عبر وسطاء قد يسمون أمراء.
فلا قادة ولا مجالس ولا هيئات ولا وزارات ولا جامعة عربية أو إسلامية لها وزن، إذا فقدت الإرادة والسيادة ولم تأت القرارات منسجمة مع عقيدة الأمة وآمالها، وما تعيشه الأمة من فقدان الرعاية في المجالات السياسية والاجتماعية والصحية والتعليمية والاقتصادية وغيرها من النواحي يجسد حقيقة غياب الأمير أو الحكم الرشيد ويرسخ الحكمة العربية في شر البلاد التي نعيش.
وللخروج من هذه الأزمة لا بد للأمة ان تعيد الحكم والأمير ليحكم الأمة بما تعتقد من نظام إسلامي يحقق لها السيادة والرعاية ويعيدها خير أمة أخرجت للناس، ولا تحتاج إلى اجتماعات وتوصيات ولجان متابعة لإحقاق الحقوق وإرجاع المقدسات فبوجود الأمير تكفي منه رسالة يكتب فيها: الرد ما تراه لا ما تسمعه.
21-8-2010م