د. مصعب أبو عرقوب*
انتقلت القضية الفلسطينية عبر عقود من الزمن من قضية أمة إسلامية احتلت مقدساتها ، وفقدت أولى قبلتيها وثالث حرميها ومسرى نبيها، إلى قضية عربية قومية قُزّمت إلى وطنية فلسطينية قُسّمت إلى فصائلية مصلحية.
وقد مهد لهذا الانتقال بين تلك الأبعاد هجمة على مفهوم الأمة وعلى كيانها السياسي الذي وحدها في دولة على مدى أربعة عشر قرنا، وتوازى القفز من بارجة الأمة إلى قوارب ضيقة هشة مع الهجمة على كل ما يوحد الأمة، فقُسمت بلادنا ورُسخت حدود سايكس-بيكو، واحتُلت الأرض مرة أخرى في العراق وأفغانستان ونزلت بها القواعد العسكرية والمطارات، وتقاتل الإخوة من أجل كرة قدم أو من أجل عيون المستعمرين.
وعلى وقع تلك الهجمة على الأمة وكيانها الفكري الموحد، ورغم ذلك الوهن والضعف الذي أصاب الأمة إلا أن القضية الفلسطينية لم تهدأ ولم تستطع الأنظمة الحاكمة أن تدفنها في الأرض المحتلة وتجعلها عهدة حصرية للفصائل الوطنية والإسلامية الإقليمية.
 ورغم تناقض أسس الدول الإقليمية الضيقة مع الارتباط بقضية لها هذا البعد على مستوى الأمة إلا أن الأنظمة ومن يقف وراءها من الغرب لم تستطع تجاوز هذه الحقيقة السياسية والفكرية.
 فمن القاهرة خاطب أوباما شعوب العالم الإسلامي بوصفها أمة واحدة، وجاءت تصريحات باتريوس في نفس السياق لتدلل على ارتباط الشعوب برابط قوي تحت مفهوم الأمة الواحدة، فالصراع بحسب باتريوس في فلسطين يهدد جنود الولايات المتحدة في كل مكان، ولولا وجود ارتباط عقدي ومعنوي يوحد العالم الإسلامي في نظرته لفلسطين والمقدسات لما خاف باتريوس على جنوده من تهديد عابر للحدود.
وقد يُفسر في هذا الإطار أيضا، المبادرات التي صيغت لتأخذ بعداً إقليميا في محاولة لزج الأمة بمجموعها في حل القضية الفلسطينية حسب الرؤية الأمريكية المتمثلة في حل الدولتين، وطفت على السطح المبادرة العربية كشكل من أشكال الحل الجماعي، في غياب لأي تجسيد لهذا التجمع أو الاتفاق في مجالات أخرى، مما يثير التساؤلات حول طبيعة الأنظمة الحاكمة ومدى خضوعها للإرادة السياسية الأمريكية، وتوحدها في تأمين مصالحها السلطوية عبر الخضوع للنظام العالمي الذي تفرضه الولايات المتحدة لتحقيق مصالحها في البلدان العربية والإسلامية، وهي تستخدم في تحقيق ذلك قوة كامنة وأسسَ وحدةٍ لا يمكن تجاهلها في أمةٍ مشتتة سياسياً عبر كيانات مصطنعة تتوحد أنظمتها وقياداتها لخدمة قرارات وحلول بعيدة كل البعد عن آمال الأمة وتطلعاتها.
ويدخل البعد الإسلامي في معادلة الأمة وقوتها، وقد كان من بعض تجليات ذلك البعد إعلاميا "أسطول الحرية" الذي قصد غزة المحاصرة يمخر عباب البحر بسفن تحمل التركي مع العربي في صورة تعيد للذاكرة وحدة الأمة الإسلامية ثقافيا وعقدياً.
لم يصل الأسطول إلى شواطئ غزة ... وقضى بعض الأتراك نحبهم في مياه الأطلسي، وانطلقت المظاهرات في اسطنبول وارتسمت وحدة المسلمين مرة أخرى في مراسم الجنازة والدفن وآيات القران واحترام الشهداء الذين خاضوا البحر من أجل عيون فلسطين، وتردد في شوارع تركيا التكبير باللغة العربية والمصطلحات الشرعية بلغة القرآن في مشهد يخترق الحدود ويختزل التاريخ ومئات الكتب والأبحاث ويسلط الضوء على فشل المؤامرات السياسية التي حاولت كسر هذه الروابط وتقسيم الأمة الإسلامية وإنهاءها من الوجود عبر تقطيعها إلى دول وممالك.
إلا أن هذا التوحد في مفهوم الأمة وفي المنظومة السلوكية والثقافية لها وفي تطلعاتها لتحرير المقدسات والأوطان لم ينعكس على الواقع السياسي الذي تعيشه الأمة، ولا زالت الأنظمة في الحالة العربية تحاول استغلال أسس الوحدة و تجذر مفهوم الأمة عند الشعوب لتمرير الحلول الأمريكية التي تضمن بقاء الاستعمار، وعلى تلك الخطى تسير الأنظمة في العالم الإسلامي كذلك مستغلة تطلعات أبناء الأمة الإسلامية للتغيير والخروج من واقع التبعية والتخلف ومحاولة لعب دور في قضايا الأمة المصيرية والتأثير في الموقف الدولي.
 إلا ان هذا التطلع وهذه التحركات الشعبية لا تنسجم مع واقع الأنظمة والحكومات القائمة في العالم الإسلامي التي ترتبط أصلا بالنظام العالمي المسيطر عليه أمريكيا، ولا تأتي تحركات الأنظمة في العالم الإسلامي إلا ضمن القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي تخدم الدول الكبرى وأطماعها في البلاد الإسلامية والعربية وثرواتها وخوفها من عودة الأمة الإسلامية موحدة في دولة واحدة، فلا قيمة لأي تحركٍ مقيد بتلك القرارات وبذلك المجتمع الدولي ولا يلتفت فيه إلى مصالح الأمة الإسلامية التي تتجسد في الانعتاق من الاستعمار والعيش في ظل دولة واحدة، والشعوب لم تعد تتعلق بظواهر صوتية وجعجعات إعلامية وهي ترى ثروات الأمة وطاقاتها تهدر تحت أقدام الاستعمار الجديد، وتحاصر غزة ومحيطها العربي والإسلامي قادر على تحرير الأرض وإنهاء الاحتلال وفك الحصار لكنه لا يحرك ساكنا على مستوى الأنظمة والحكومات.
فرفع الحصار عن غزة وتحرير المقدسات لن يأتي عبر حلف الناتو الذي كان الملجأ للحكومة التركية، ولا عبر الإدارة الأمريكية التي تتطلع إليها عيون الأنظمة للضغط على "إسرائيل" لتخفيف الحصار أو وقف الاستيطان، فقضايا الأمة المصيرية لا تحل إلا بسواعد شبابها، والارتماء في أحضان النظام العالمي لن يزيد المشاكل إلا تفاقماً ، وأمة من المغرب إلى اندونيسيا موحدة بأفكارها وتطلعات شعوبها وعقيدتها ودينها تستطيع وبلا أدنى شك ان تحتل مكانة عالية بين الأمم ان هي تخلصت من تبعات الارتباط بالغرب وأدواته.
إلا ان القضية وعبر "أسطول الحرية" ظهرت للعالم بعمق آخر، فركب الأسطول أناس من أمم أخرى وثقافات متباينة، جمعهم واستفز عقولهم رؤية مدى الظلم الواقع على أهل غزة، والذي أصبح تجسيدا واقعياً للظلم الواقع على البشرية من النظام الرأسمالي الظالم الذي تطبقه الدول الكبرى التي لا ترى سوى مصلحتها المادية ولا ترى أي قيمة للإنسان أو المكان إلا ضمن قيمته بالدولارات، فتسحق شعوباً بكاملها من أجل توفير النفط للرأسماليين وشركاتهم، وتسقط الدول في حروب أهلية لتأمين منابع النفط والمعادن الثمينة لمصانع الرأسماليين وسياراتهم ، وتحاصر غزة أو يفكر بتخفيف الحصار عنها خدمة لمصالحها ومشاريعها السياسية في منطقتنا الإسلامية المترابطة.
وحتى تعود للأمة مقدساتها وثرواتها وتحرر ما احتل من أرضها وتمتلك إرادتها السياسية لا بد لها من الانعتاق من النظام العالمي وأدواته ، والخروج على قواعد اللعبة الدولية التي تضمن تفوق الاستعمار، ولن يكون ذلك إلا بالتخلص من وكلاء الاستعمار الرأسمالي في البلدان العربية والإسلامية وإزالة الحدود المصطنعة بين أبناء الأمة الواحدة لتعيش الأمة في ظل دولة واحدة تخلق فضاءً واسعاً لأبناء الأمة، تتفجر فيه طاقاتهم وتتحقق فيه آمالهم وتطلعاتهم في عيشة كريمة عزيزة تعيدهم لدورهم الحضاري، يحملون رسالة نور للبشرية يخرجونها من ظلم الرأسمالية وتوحش النظام العالمي المادي إلى عدل النظام الإسلامي ، وروحانية التشريعات الربانية التي تكرم الإنسان،وتعالج مشاكله على أساس إنسانيته من خلال منظومة القيم الأخلاقية والروحية والإنسانية التي يضمنها تطبيق الإسلام كنظام عالمي.
فالأمة الإسلامية بذلك هي المرشحة الوحيدة لإنقاذ العالم من المادية التي يكابدها ومن الظلام الذي يغرق فيه ومن الحصار الذي يفرضه أصحاب الشركات الرأسمالية على عقول البشر وثروات الشعوب ومقدرات الأفراد.
 ومع تعطش الأمة الإسلامية المتزايد للعيش في ظل دولة واحدة ومع تغول النظام الرأسمالي وجشعه ، فإن التغيير حتمي وملامحه ترتسم في الآفاق، والبشرية على موعد مع تغيير أبعد من تركيا وأعمق من مياه الأطلسي.
28-6-2010
عضو المكتب الاعلامي لحزب التحرير - فلسطين