د. محمود محمد
 
خالد الترك، صلاح الدين، محمد الفاتح، عبد الحميد الثالث، الفارس المغوار، السلطان العثماني القادم... ومن قبل العثمانيون الجدد...! بهذا السيل من عبارات المديح وتوزيع الألقاب، تعج الصحف والصفحات الإلكترونية، واصفة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وذلك على إثر مذبحة السفن التي اقترفتها أيدي يهود المجرمة في عرض البحر الأبيض المتوسط.
ألقاب مملكة في غير موضعها     كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
 
ومظاهرات المديح هذه إن دلت على شيء، فإنما تدل على تآكل ما يسمى بالثورة العربية الكبرى، وهي أيضاً تسحب البساط من تحت أرجل الحكام الذين توارثوا السلطة. تلك السلطة التي بنيت على أنقاض ما تهدم من الدولة العثمانية. وكانت نتيجة طبيعة لاستحقاقات تلك الثورة البغيضة، وبهذا فهم قد فقدوا مسوغاً آخر من مسوغات وجودهم، ذلك أن الأمة قد لفظت مخلفات هذه الثورة. ناهيك عن مسألة كونهم جاءونا على ظهور دبابات الكفار، جاءوا من فوق، من قِبَل الكافر المستعمر، ولم يصلوا للحكم كما يجب، من بين صفوف الأمة. والأمة اليوم تلعنهم صباح مساء.
 
والقضية هي أن مناهج التعليم لا تزال تعج بوصف تركيا العثمانية بالمستعمرة، وبأن سلاطين بني عثمان هم ظالمون محتلون لأرض العرب غاصبين لحقوقهم. وهذا ما ترسخ في أذهان الكثيرين من أبناء المسلمين، خصوصاً العرب منهم.
 
إن سيل المديح هذا قد غيب وإلى الأبد -إن شاء الله تعالى- هذا المفهوم لدى أمة الإسلام، فتركيا العثمانية تحت إمرة سلاطين بني عثمان، كانت دولة إسلامية واجبة الطاعة من قبل كل أبناء المسلمين في شتى أصقاع هذه الدولة الفتية، ودولة بني عثمان -الخلافة العثمانية الإسلامية- نشرت الإسلام في ربوع الأرض، ودكت بجحافل جيوشها المجاهدة قلب أوروبا، حتى بات جيشها يعرف بالجيش الذي لا يهزم، كما أن ضرباته الموجعة أوجدت ما يسمى بالمسألة الشرقية والتي عنت في حينها وقوف العالم النصراني في وجه زحف المارد الإسلامي.
 
 كما وأن الخلافة العثمانية الإسلامية، ممثلة في الخليفة عبد الحميد الثاني، هي التي حافظت على فلسطين ومنعت يهود من أن تطأها أقدامهم، ووقفت سداً منيعاً أمام أطماعهم، ضاربة بعرض الحائط كل المغريات التي قدموها، وألفاظ الذلة التي أراقوها على أعتاب الخليفة، ولكن هيهات هيهات لمن يعرف قدر فلسطين وقدر الإسلام الذي ربطها بعقيدته أن يفرط بشبر منها ولو قطع جسده إرباً إربا.
 
إذن، لم يعد وجود لمسألة أن الدولة العثمانية دولة محتلة أو مستعمرة، بل عادت الأمة تتغنى بأمجاد السلاطين العثمانيين وتفتخر بإنجازاتهم. ولم تعد لمناهج التعليم قيمة تُذكر لما تذكُره من تضليل حول حقيقة الخلافة الإسلامية العثمانية.
 
ثم أمر آخر، إن سيل المديح هذا قد أكد للمرة الألف بعد المليون، وبشكل واضح لا لُبس فيه، أن الأمة مشتاقة إلى مواقف العزة والكرامة أيما اشتياق، وهذا ما يدفعها أن تتعلق بالحبال الذائبة. فالأمة قد سئمت حياة الإنبطاح الفكري والسياسي والعسكري أمام الكفار، خصوصاً ونحن خير منهم، فنحن من (خير أمة أخرجت للناس)، ومبدؤنا هو المبدأ الوحيد الصحيح، الذي يقنع العقل ويوافق الفطرة، فمن أخذ به ملأ الله تعالى قلبه طمأنينة. وحضارتنا خير من حضارتهم. إذن إلى متى نظل نعطي الدنية في ديننا؟
 
لقد أورثَنا الحكام هذه الدنية في الدين، فقد هدم الكفار دولتنا، دولة الخلافة العثمانية، ومزقونا كل ممزق، وأزاحوا القرآن عن سدة الحكم، ومنعونا الوحدة، ونصبوا حكاماً عملاء علينا ساروا على ذات الطريق وما زالوا، فقيدونا ليقتلنا عدونا متى شاء، وثاروا علينا إذا انتصر منّا أحد لدينه أو عرضه أو نفسه أو أمته. سرقوا أموال المسلمين وثرواتهم، وجعلونا لا نجد لقمة سائغة، في حين جعلوا الكفار يرفلون ويتنعمون بأموالنا.
 
فالأمة ركلت هؤلاء الحكام، وهي تنتظر ساعة الفكاك منهم، ولذلك تجدها تتعلق بكل من يمثل أدوار البطولة ويرفع شعارات العزة والكرامة، وهو يضحك على الذقون، يريد أن يمرر على ظهر هذه الأمة مشروعاً جديداً لأسياده الكفار المستعمرين. ولذلك قلت أنها تتعلق بالحبال الذائبة.
 
أما أنها حبال ذائبة، فلأن هؤلاء الحكام يولولون ولولة النساء ولا يقومون بأفعال الرجال، "فالسلطان العثماني القادم" (أردوغان)، الذي يحافظ على إرث مصطفى كمال، لعنه الله تعالى، ويسهر على أحكام الكفر وهي تطبق في بلده، هو من الحبال الذائبة، لأنه مخلص لمن أجلسه على كرسي الحكم، وليس مخلصاً لأمته التي تتوق ليوم ترى فيه الجبابرة صاغرين.
 
وهو يسير فيما رسم له، وهو أن يكون نجماً في سماء أمتنا له يد عند حكام قطاع غزة، و له يد عند يهود الذين لم يفكر ولن يفكر في إزالتهم، وأكثر ما يمكن أن يخطر بباله هو تخفيض العلاقات بينه وبين يهود لا أكثر، فهو لن يقطعها. فقد كرر في حديث لقناة (ان.تي.في) التركية "نحن جادون بشأن هذا الأمر. نعتزم خفض علاقاتنا مع (إسرائيل) إلى الحد الأدنى، لكن افتراض إنهاء كل العلاقات مع دولة أخرى على الفور، والقول إننا حذفنا اسمكم تماماً، فإن ذلك ليس من عادات بلدنا". وذكر موقع الشروق أون لاين بتاريخ 04/06/2010م خبراً جاء فيه:"...وعلى المستوى الرسمي، أعلن بولند ارينج، نائب أردوغان أن تركيا ستخفض علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، لكن التعاون الثنائي لن يجمد بالكامل".
 
وأضاف: "لا يمكنني أن أقبل وصف حماس بأنها منظمة إرهابية، وقد قلت ذلك لمسؤولي الإدارة الأميركية، وأؤكده اليوم مرة أخرى، وأؤكد من جديد أن الإسرائيليين كاذبون ويعرفون جيداً كيف يقتلون الأطفال والنساء والعجائز والأبرياء".
 
إذن سيبقي على علاقات بلاده مع (إسرائيل) وقد حصل على ثقة حكام القطاع، بقي أن يسير في المصالحة وإعادة اللحمة إلى "جناحي الوطن!" ليعود يغرد وينشد من جديد "نشيد السلام" ولكن بشكل جماعي.
 
ففي خبر نشرته وكالة أمد للإعلام بتاريخ 07/06/2010م جاء فيه:(أمد/ أكد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اليوم، في اسطنبول أن تركيا مستعدة لأداء دور نشط للتوصل إلى مصالحة بين حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين. وقال أردوغان خلال مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس السوري بشار الأسد: إن إصلاح الخلاف بين حركة فتح بزعامة الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحركة المقاومة الإسلامية حماس التي تسيطر على غزة "أمر واجب" مضيفا أن حماس رحبت بان تؤدي أنقرة دور الوسيط. ..وقال:"يجب أن لا تستمر الانقسامات في ظل الأوضاع الحالية ... واعتقد أننا يمكن أن نحقق السلام".
 
فالدور المرسوم له وبكل اختصار، هو أن يُتِمَ المصالحة ويسير من بعدها في عملية السلام بين أهل فلسطين ويهود.
 
ولم يبق لي إلا أن أنبّه حكام القطاع مما يدبر لهم. ولا يسعني إلا أن أشفق على أمتي من تعلقها كل مرة بحبل ذائب، فما هكذا تورد الإبل ولا هكذا تكون رعاية شؤون المسلمين. أسأل الله تعالى أن يعجل لنا باليوم الذي تتعلق فيه الأمة ببيعة خليفة يحكمنا بكتاب الله وسنة رسوله، يرينا في أعدائنا يوماً عبوساً أسوداً، فيشفي صدور قوم مؤمنين، لطالما تألمت لحال أمتها.
 
08/06/2010م