د.محمود محمد
تطل علينا من بين ركام الهزائم بين الفينة والأخرى، مصطلحات جوفاء، هدفها التضليل، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. ومن هذه المصطلحات فلسفة المقاطعة، مقاطعة بضائع العدو وشركاته. فما هي حقيقة هذه الفكرة؟ ولماذا يطلب من الشعب أن يقاطع البضائع وغيرها ولا يطلب ذلك من الدول والحكام؟ أليسوا هم من يسمح بدخول هذه البضائع إلى البلاد وهم يسمحون للشركات بالعمل على أرضنا؟ ولماذا يطلب مقاطعة البضائع والشركات ولا يطلب منع التعامل مع العدو بتاتاً في شتى المجالات؟ لماذا نقاطع المستوطنات وبضائعها، علماً بأني لا أقول بالتعامل معها، ولا نقاطع دولة يهود؟ بل نستجدي منهم أن يتصدقوا علينا بفتات من حقنا المسلوب؟ لماذا نضغط على الشعب الذي تتمرغ كرامته كل يوم على الحواجز آلاف المرات أن يقاطع البضائع القادمة من المستوطنات، ولا مانع أن يشتري البضائع القادمة من حيفا ويافا واللد وصفد وتل أبيب؟ هل "معاليه أدوميم" مستوطنة وأما تل أبيب فلا، أهي أرض يهودية خالصة؟ لماذا يجب على الشعب أن يقاطع منتجات المستوطنين ويحق (للقادة!) و(علية القوم!) أن يلتقوا بقيادات العدو في مفاوضات عقيمة لم تحبل ولن تجد إلى الميلاد سبيلاً ولو حتى بعملية قيصرية؟ أم أنه حرام على بلابله الدوح، حلال على الطير من كل جنس؟
فهل مقاطعة البضائع هي سبيل التحرير؟ هل ستتحرر فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير وغيرها من بلاد المسلمين المحتلة إذا قاطعنا بضائع أمريكا وحلفائها وشركاتها وبضائع يهود؟ لا أظن أن أحداً يعطي جواباً بصيغة "نعم". ومنهم من ذهب إلى القول أن مقاطعة منتجات المستوطنات مثلاً، جاءت حتى تخضع حكومة الاحتلال (الإسرائيلي) لتغير من سياستها، وأن تحدث تغييرات حقيقية على الأرض، وأن تنصاع لقرارات الشرعية الدولية، وإلى الأعراف و المواثيق و المعاهدات الدولية والإنسانية كافة. أقول: لا يجوز أن نضغط على يهود لينصاعوا لشرعة الطاغوت المسماة بالشرعة الدولية، التي من رحمها خرجت دولة بني يهود، بل يجب مناصبة هذه الشرعية العداء، ويجب هدم الكيانات التي تمثلها، ولا بد من تحرير كامل فلسطين ودحر يهود من كل ذرة من ذرات فلسطين.
ثم ألم تُنشئ جامعة الدول العربية في عام 1951جهاز المقاطعة الاقتصادية (لإسرائيل) الذي عمل بدون فائدة، فتم تشكيل لجنة دائمة للمقاطعة بدلا من اللجنة المؤقتة لمتابعة تنفيذ قرارات المقاطعة، وما زال هذا المكتب يعمل حتى الآن، ولكن ماذا حقق في حربه الضروس ضد يهود؟ بل تجد أن بعض الدول قد اخترقت قرارات المقاطعة هذه ووقعت اتفاقيات تبادل تجارية كمصر في عام 1981م، والأردن في عام1995، ثم عمان وقطر، وتم فتح مكاتب تجارية (إسرائلية) فيها سنة 1996م، وكذلك المغرب وتونس، والتي بدأت علاقاتها التجارية مع يهود سنة 1992م.  
ثم إني لم أجد من يقول نحن قادرون على التخلي عن البضائع الأجنبية، ويطرح مشروعاً عملياً متكاملاً وبدون مشاركة الحكومات وتبنيها لهذه المشاريع. حتى أن صاحب الـ 60 طريقة الجديدة في مقاطعة البضائع الأمريكية وحلفائها، لم تسعفه قريحته أن يخط ولو سطراً واحداً عن دور الحكام في هذه المقاطعة.
أما كوبا فهي تقاطع الشركات الأمريكية منذ 40 عاماً، ولا تسمح لهم بالعمل على أراضيها، إن هذه المقاطعة مقاطعة دولة لدولة، لا مقاطعة شعب أعزل لا مقدرات لديه، وحكامه كانوا ولا يزال البعض منهم يرتع في مواخير العدو، لا يقاطع لياليهم الحمراء، ولا يتأخر عن لثم أحذيتهم كلما أشاروا عليه بذلك، بل نجده يلهث يلعق أقدامهم وهم في نفور منه.   
وربما يتبادر للأذهان أن يطرح بعضهم عليّ سؤالاً يريد عليه إجابة سريعة، هل أنت مع المقاطعة أم مع التعامل مع بضائع العدو الأمريكي واليهودي الذي يقتل الأبناء والرجال ويرمل النساء...؟ أقول ما هكذا تورد الإبل، فليست القضية أنا مع أم ضد، القضية لماذا المقاطعة؟ هل من أجل التحرير؟ لن تحرر فلسطين ولا غيرها بسلاح المقاطعة قولاً واحداً. أهي لإضعاف العدو لا قتله؟ هل الواجب الشرعي الذي يرضاه الله تعالى لنا يأمر بإضعاف يهود فقط، أم يأمر باجتثاثهم عن بكرة أبيهم؟ الله سبحانه وتعالى يأمر بتحرير فلسطين وإخراج اليهود منها، وأنت تريد إضعاف يهود، فمن أحق أن يُتبع؟ لكني أعود وأجيب نعم أنا مع جميع أشكال المقاطعة "السياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية" للدول الطامعة والمحتلة لبلاد المسلمين، وليس فقط مقاطعة البضائع، وأن تكون المقاطعة من الدول قبل الشعوب حتى تكون منتجة.
ثم إني قرأت فتاوى تناولت مسألة المقاطعة، وحرمتها قولاً واحداً، ولكنها لم تأت على التطبيع الذي يمارسه حكام العار في بلاد الإسلام. جيد أن تحرم على الشعوب معاملة المحتل، ولكن أن تغض الطرف عن التطبيع الذي يمارس جهاراً نهاراً من قبل الحكام فهذا فقه أعرج لا يلزمنا، أم أن الحكم الشرعي لنا، ولهم حكم آخر فيه تخفيف وفيه ترخيص؟ أم أننا نفتي على ذهب المعز وسيفه، وهوى النفوس المريضة؟  
والخلاصة:
أن طرح فكرة مقاطعة البضائع الأمريكية واليهودية "فقط" ما هو إلا ذر للرماد في العيون، وما هو إلا أُُلهية، المقصود منها صرف الأذهان عن محاربة أعداء الأمة، إلى تنفيس المشاعر بمقاطعة البضائع. أضف إلى ذلك أن طرح قضية مقاطعة بضائع المستوطنات في هذه الظروف، ما هو إلا محاولة تلميع لصورة السلطة التي كلحت، ولن يفيدها كل وصفات العطار ليعيد ما أفسدته خياناتهم المكشوفة، وكذلك للضغط على يهود للسير في مخططات أمريكا.
إن التفريق بين منتجات المستوطنات ومنتجات مصانع تل أبيب وغيرها، هو إعتراف ضمني بأن تل أبيب لليهود، وليست لنا، وهو تنازل عنها من قبل من لا يملك لمن لا يستحق.
والمطلوب شرعاً، مقاطعة الكافر المستعمر بكل أشكال استعماره، مقاطعة بضائعه وإغلاق سفاراته، ومقاطعة أدواته الاستعمارية، بل والعمل الدؤوب من أجل إزالة هذا الاستعمار الذي أناخ علينا بكلكله، وجاءنا بقضه وقضيضه، ولكن أنى للحكام الذين تحالفوا مع الكفار على شعوبهم أن يفعلوا ذلك، لذلك لن يتحقق المطلوب إلا بإقامة الخلافة الثانية على المنهاج، يسألونك متى هو، قل عسى أن يكون قريباً.
25/05/2010م