أ. أمجد المقدسي
 
عندما يسمع المرء من الجيل القديم كلمة "النكبة" فإن ذاكرته ترجع إلى عام 1948م، عندما مكّن حكام العرب اليهود من معظم فلسطين، فاحتل يهود عكا ويافا وحيفا وغيرها من مدن فلسطين، وقتلوا من قتلوا من أهل فلسطين وشردوا من شردوا، وهزموا "ُصُورّيا" جيوشاً عربية، ما رسم صورة في أذهان الناس عن جيش يهود أنه جيش قوي لا يقهر، وتوالت الأيام وسقط الشهداء والجرحى لتحرير هذه الأرض، وحيكت مؤامرات، وكانت المؤتمرات العربية التي أفرزت "منظمة التحرير الفلسطينية" ممثلاً شرعيا ووحيداً للشعب الفلسطيني، ثم أخذت أقنعة النضال والتحرر تسقط القناع تلو القناع، وتسلّق خونة فلسطين على جماجم الشهداء وأبحروا على دماء الجرحى نحو خيانة فلسطين، فظهر الوجه الحقيقيّ لمنظمة التحرير وهو "منظمة التسليم الفلسطينية" الذي خدع الكثيرين، فكانت أوسلو وأخواتها، وولد مولود غير شرعي أسموه سلطة فلسطينية، سلطة لها رئيس ووزراء وأجهزة أمنية تخدم الاحتلال وتتنفس هواءه وتضرب بعصاه.
 
لقد حقق رموز هذه السلطة لكيان يهود ما عجز عنه كيان يهود نفسه، فوضعوا حدّاً للمقاومين وأثقلوا كاهل الناس بالضرائب والمكوس ونشروا الفساد وقلبوا الحقائق، وعملوا على تضليل الناس وتغيير مفاهيمهم، فأرض ال48 عند هؤلاء ليست أرض أهل فلسطين، ويهود هم أصحابها ويحق لهم أن يقيموا عليها كيانهم ودولتهم، واستغل هؤلاء كل مناسبة لترسيخ هذا المفهوم، وأجرأ تلك المحاولات وأكثرها مكرا هو تظاهر هؤلاء بإحياء المناسبات المتعلقة بهذه الأرض، فتجد أن رئيس وزراء هذه السلطة مثلا ً وفي ذكرى يوم الأرض الذي سقط فيه الشهداء والجرحى على أرض ال48 وأمام حشد كبير في قلقيليا بتاريخ 27/3 وخلال كلمته يشير: "إلى أن ما تقوم به السلطة الوطنية والمتمثل في خطة عمل الحكومة وتنفيذها، هو أساسٌ متين من أسس تحقيق الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، بما فيها إقامة دولة فلسطين المستقلة على كامل الأراضي التي احتلت عام 1967، في قطاع غزة، والضفة الغربية، وفي القلب منها مدينة القدس. " فرئيس الوزراء وبهذه المناسبة يشير إلى عمله الحثيث لإقامة دولة فلسطينية على كامل الأراضي التي احتلت عام 1967، ولا يكتف بذلك بل وفي ظل تذكره لأحداث ذلك اليوم وبكل صلف يقرّر أن الأرض التي سقط عليها ستة شهداء وخمسون جريحاً هي أرض "إسرائيل" حيث قال: " كان يوم الأرض أول هبة جماعية للجماهير العربية في إسرائيل". فهل إحياء ما فعله يهود في هذا اليوم يكون بتأكيد أن الأرض هي أرض "إسرائيل" أو بالتأكيد على أن حقنا هو إقامة دولة فلسطينية على أرض الرابع من حزيران كما يتوهمون! أإلى هذا الحد وصل الاستخفاف بعقول الناس؟
 
ولم ينج إحياء ذكرى النكبة من الحملة التضليلية الشرسة التي تشنها السلطة، وإلاّ فماذا يعني إحضار الفرق الموسيقية لإحياء هذه الذكرى! أهِيَ ذكرى فرح وسرور أم ذكرى حزن وألم وأسى ؟! أهِيَ ذكرى انتصار وقضاء على العدو أم هي ذكرى اغتصاب وتنازل عن الأرض وقتل للشيخ والطفل والمرأة والرجل ؟! وماذا يعني قول أمين عام الرئاسة في كلمته التي ألقاها نيابة عن رئيسه في ذكرى انطلاق فعاليات إحياء الذكرى 62 للنكبة "عندما نطالب بحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين إنما نطالب بالحق والعدالة وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية التي كفِلتْ لنا ذلك، وفي مقدمتها القرار 194 ومبادرة السلام العربية" ؟ فهل القرارات الدولية أو مبادرة السلام العربية تنفي حق يهود من الوجود على أرض فلسطين أو تدعو كيان يهود إلى الانسحاب منها؟ إن مما ينص عليه القرار 194 الذي يطالب به هؤلاء: "تقرر وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم،..." فمن هم الجيران الذي يتحدث عنهم القرار؟ إن هذا القرار يؤكد على حق يهود في أرض 48، وإن المبادرة العربية للاستسلام تؤكد كذلك حق كيان يهود في الوجود على معظم أرض فلسطين، فهل إحياء ذكرى النكبة يكون بتناسي النكبة وإقرار العدو بحقه فيها ؟! وهل إقامة الدولة الفلسطينية على أرض 67 وحق عودة اللاجئين هي الحقوق الكاملة غير المنقوصة التي يتطلع إليها أهل فلسطين في ذكرى النكبة؟
 
إن ما تسميه السلطة إحياء ما هو إلا محاولة منها لإماتة المعاني الحقيقية لهذه المناسبات في عقول الناس وتضليلهم عنها، وما هو إلا أحياء لمعاني الاستسلام والخضوع والتنازل عن الأرض ليهود، وإن السلطة تجعل بذلك النكبة نكبات والنكسة نكسات. إن الصراع بين الحق والباطل مستمر، وكما أن للباطل رجالاً فإن للحق رجالا، ومهما حاول أهل الباطل أن يزينوا الباطل ويجمّلوه فإن الحق بإذن الله منتصر، وإن النور لا شك سيضيء عتمة الظلام، ولن ننسى يافا ولا حيفا، ولن ننسى أن عكا وصفد هي جزء لا يتجزأ من أرض فلسطين، ولن نفرق بين الجليل والخليل أو بين بيسان وجنين أو عسقلان ونابلس، ولن نقسم القدس إلى شرقية وغربية، لن نفرق بين ما احتل عام 48 أو 67، فكلها أراض إسلامية رواها المسلمون بدمائهم على مر العصور، وستعود فلسطين كلُّ فلسطين للمسلمين وسيكون بيت المقدس عقر دار الخلافة ينعم بتطبيق أحكام الإسلام ويتزيّن برايات العُقاب ويأمن بجنود وجيش دولة الإسلام ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
 
 
 
25/5/2010