الدكتور ماهر الجعبري عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير - فلسطين
 
تنضبط الدول بالأفكار أو بالأشخاص، وتميل نحو واحدة منهما: فهنالك كيانات سياسية تقوم على "الأشخاص" وعلى تحقيق مصالحهم ومصالح من خلفهم، وعندها تسخّر الأفكار –إن وجدت- لخدمة الأشخاص. وفي المقابل، هنالك كيانات تقوم على "الأفكار" التي تحملها الأمم وعلى تحقيق المصالح التي تحددها تلك الأفكار، وتكون الأشخاص في خدمة الأفكار.
 
وفي كلا الحالين (الأنظمة "الشخصانية" والأنظمة المبدئية)، لا بد من أجهزة عسكرية وأمنية تحمي تلك المصالح، وأيضا تحرس النظام السياسي وتهيئ أجواء السِّلم الداخلي لتنفيذ برامجه، سواء كان ذلك النظام ممثلا للأمة وقائما على قيمها أو كان دخيلا على الأمة ويقوم على تنفيذ مصالح أعدائها.
 
يلاحظ المتابع للمشهد المحلي، تعاظم الجهود الرسمية لزرع عقيدة أمنية في الأجهزة الأمنية، في محاولات متلاحقة تجهد في البحث عن شعارات ثورية يمكن أن تحفظ تماسك ما يبدو مهلهلا.
 
ثم إن المتابعة الإعلامية لما استجد من أحداث "أمنية"، وما رافقها من اتهامات، خلال الأسبوعين الآخرين، تبرز الحاجة لوقفة فاحصة أمام الرابطة الأمنية أو العسكرية التي يمكن أن تجعل أي مؤسسة عسكرية متماسكة، ومحصّنة أمام الاختراق أو الاهتراء والتفكك.
 
وهذا المقال يسلط الضوء على العقيدة العسكرية وموضعها في الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية، كنظرة فكرية سياسية، بعيدا عن الدخول في لعبة الاصطياد والمحاكمة التحليلية لما طفا الحديث حوله في الإعلام في المشهد المحلي والمشهد العربي.
 
ليس ثمة شك أن الدول المبدئية تقوم على ما تحمل من قيم ومبادئ، وهي تستند إلى أجهزة عسكرية وأمنية تحرس أمنها وتحمي مبدأها وتصدّ العدوان الخارجي، وتحقق أمن الناس. ومن ثم فلا تحتاج تلك الدول إلى البحث عن عقيدة عسكرية لأجهزتها، لأن جنود تلك الأجهزة هم جزء من الأمة، وبالتالي فهم يحملون عقيدتها، وتكون تلك العقيدة هي قضيتهم وجل ما يلزم هو تقوية هذه العقيدة في نفوسهم، ولا تكون رواتبهم الوظيفية حينها إلا تعويضا لهم عن انشغالهم عن كسب العيش بحماية قضايا الأمة.
 
وفي هذا الحالة من رفعة القيم، لا حاجة لأجهزة مخابرات تتجسس على الناس، لأن العقيدة العسكرية تكون هي نفسها عقيدة الناس، والناس أنفسهم يحمون تلك العقيدة قبل الأجهزة الأمنية، فلا يوجد حينها صراع بين الناس والدولة، ولا بين الناس وأجهزتها الأمنية.
 
وهذا أمر يتحقق في الأمة الإسلامية عندما يطبّق الإسلام "السياسي" في الدولة. ومن المعلوم أن الأحكام السياسية الشرعية تحرم التجسس على المسلمين وتحرّم تعذيبهم بأحكام قاطعة، وهذا بخلاف أجهزة الاستخبارات العسكرية التي ترصد اختراق الأعداء وعدتهم وعتادهم في مواجهة الأمة.
 
وفي المقابل، فإن الدول "الشخصانية" والكيانات السياسية العميلة لأعداء الأمة، لا تقوم على قيم الأمة، بل تقوم على ما يتناقض مع تلك القيم ويتصادم معها في الصميم، وتدور الدولة حينها حول أشخاص ورموز، يبدلون أفكارهم كلما شاءوا، بل وينقلبون على ما حملوا من أفكار، ومع ذلك يبقى الكيان السياسي لهم، محميا بقوة العسكر، ويكون ممقوتا من الناس.
في هذه الحالة من هبوط القيم، تحتاج الدولة لتسخير أجهزتها الأمنية كي تحمي أولئك الأشخاص الذين "يملكون" تلك الدولة ويتصرفون بذلك الكيان السياسي حسب مصالحهم ومصالح من خلفهم. وعندها من الطبيعي أن يحصل انفصام قد يتحول إلى صدام مع الحكام وأجهزتهم الأمنية.
 
وعندها تكون الأجهزة الأمنية من غير طينة الناس، وتكون عقيدتها الأمنية غير عقيدة الناس، بل ويصبح الرأي العام الذي تحمله الناس تهديدا لتلك الدولة "الشخصانية"، فتوَظّف الأجهزة الأمنية للتصدي لأفكار الناس، ولحماية الدولة والكيان السياسي من غضب الناس. ويصبح العسكر حينها في حرب مع الأفكار، لا يمكن بأي حال أن يكسبوها، لأن الأفكار لا تهزمها إلا الأفكار.
 
وبالطبع لا يجد أفراد المؤسسات العسكرية حينها فكرة معنوية يلتفون حولها، وعبثا يحاول المنظّرون والمشتغلون بالتوجيه السياسي للعسكر أن يوظّفوا بعض بريق الماضي "الثوري" لخدمة الحاضر الهابط. بل يجد العسكر أنفسهم ملتفين حول "أشخاص"، ومرتبطين من خلال الأموال التي تُضخ في تلك الأجهزة، ويتحول العمل العسكري أو الأمني من قضية تدور حول عقيدة الناس، إلى وظيفة تدور حول الأموال التي يضخّها أصحاب المصالح الشخصية والفئوية، ومن خلفهم.
 
وعندما تكون العسكرية وظيفة للتكسب، وتختفي منها معاني الجندية، والقيم والمبدئية، يكون العسكريّ فيها عرضة للميل نحو من يدفع أكثر، ومن هنا تبرز ثغرة الاختراق والعمالة أمام الإغراءات، والتحول عن صف الدولة إلى صف الآخر، مهما كانت طبيعة الآخر، وذلك لعدم وجود عقيدة عسكرية تحرس العسكريّ من السقوط. 
 
أما عندما يكون الجندي مرتبطا مع الناس ومع الحاكم ومع قياداته العسكرية بالرابطة العقدية نفسها، ويحمل القيم نفسها، فهو يكون محصّنا أمام الاختراق، وعصيّا على الإغراءات، ثم إن وجود الوازع الداخلي المؤسس على تقوى الله وحب الشهادة، والتطلع لأجر الآخرة، يقوي في الجندي معاني التضحية، ويبعد عنه السقوط في حبائل الارتباطات المعادية.
 
هذا التفنيد يتعلّق بالدول ذات السيادة الحقيقية على الأرض، أما أشباه الدول التي لا تقوم لها قائمة إلا بقوة "الأجنبي"، فالحالة فيها أفظع. وتلك الحصانة الأمنية لا يمكن أن توجد في كيانات سياسية تتلاقى برامجها وأعمالها مع برامج أمريكا ومع مصالحها، أو مع برامج الاحتلال ومصالحه، ولا يمكن أن توجد المناعة الأمنية في كيان سياسي يعتاش على التمويل الخارجي الذي يفرض الأجندة السياسية، ولا يسمح بعقيدة عسكرية تتناقض مع أجندته.
 
بل إن هذه الحالة السياسية الهابطة تضع العنصر في تلك الأجهزة على محك التفكير والموازنة بين القضية والوظيفة، فإن رجحت عنده الوظيفة، وهذا ما يحصل في غياب العقيدة العسكرية القوية، صار اهتراؤه مرهونا بتوفر الفرصة للسقوط نحو من يدفع أكثر، وخصوصا إذا أمّن له الحماية.
 
فحري بأي جهاز أمني يعمل على زرع عقيدة عسكرية في أفراده، أن يهضم أولًا عقيدة الأمة التي ينتمي إليها، وأن يفرز مصالح الأمة عن مصالح أعدائها، ثم أن يعمل من أجل الأمة لا في خدمة أعدائها بزي الأمة، وهذا الحال لا يمكن أن يوجد تحتل الاحتلال في بلاد المسلمين.