الدكتور ماهر الجعبري

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

"تضررت نزاهة مؤسساتنا الديمقراطية تضررا كبيرا، و بالتالي فهنالك حاجة ماسة للتجديد"، هكذا تؤكد بريطانيا من خلال وزير خارجيتها الانحدار الحضاري الذي تعاني منه، والخراب المعنوي الذي لحق بها وبالغرب عموما، وذلك ضمن الكلمة التي ألقاها الوزير البريطاني، ديفيد ميليباند، في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية يوم 21/5/2009. وكانت أمريكا قد سبقتها في تقرير ذلك التراجع الأخلاقي والفراغ في المحتوي الرسالي الذي تتحرك في العالم من خلاله، أمام الأعمال العسكرية التي لطخت صورة الديمقراطية الغربية –المشوه أصلا- بمشاهد القتل والتنكيل في بلاد المسلمين. ولذلك فقد دخل مصطلح "الاحترام المتبادل" أدبيات ساسة الغرب، بعدما كانت لهجة "من ليس معنا فهو ضدنا"، هي لغة التخاطب الوحيدة مع المسلمين.

 

هذه التوجهات نحو "الاحترام المتبادل" تنطلق اليوم من بريطانيا التي أطلقت خلال الشهر الماضي (نيسان) صفارات إنذار حول خطر انبثاق
جيل معاد للغرب في باكستان، وصرخت صحفها الرئيسية حينها بأن "باكستان تبقى أكبر تهديد لأمن الغرب ...وأن أمن بريطانيا مرهون بكبح الإرهاب"، ذلك الإرهاب الذي يعني شيئا واحدا في لغة الغرب السياسية، وهو الإسلام المنادي بنهضة سياسية تستقلّ فيها الأمة بقرارها عن الغرب ورجالاته.

فأين الاحترام من قبل الغرب الاستعماري لإرادة أمة تصر على أن تتحرر من تبعية أوردتها مهالك الانحدارات السياسية والحضارية ؟ أين الاحترام البريطاني للمسلمين في باكستان الذين يتحركون اليوم للتحرر من هيمنة ديكتاتورية يرعاها الغرب وهي تعلن أن تلك التحركات الإسلامية هي أكبر تهديد للغرب ؟وكانت أمريكا قد نشطت خلال الأشهر الأخيرة في محاولات "تطبيع" حضاري مع الأمة الإسلامية من خلال مد جسور "للتفاهم" مع الأمة الإسلامية، حيث كان ذلك جليا في الإطلالات الناعمة للرئيس اوباما والتي أعلن فيها فتح صفحات جديدة للتعامل مع المسلمين، وفي زيارته لتركيا في نيسان الماضي والتي أطلق فيها تصريحاته المعسولة بأن أمريكا ليست في حالة حرب مع الإسلام، في محاولات واضحة من أجل ترميم الصورة الأمريكية التي اهترأت تحت وقع دباباتها، التي اجتاحت بلاد المسلمين تقصف الحجر وتقتل البشر لنشر الديمقراطية بالسلاح، بديلا عن الإسلام الذي ادعى مستشرقو الغرب أن الناس أُكرهوا عليه بالسلاح. ومن المرتقب أن تبلغ تلك المحاولات الأمريكية ذروتها عندما يعتلي اوباما منبرا أزهريا خلال الشهر القادم، ليبشّر بمنهاجه الجديد، لعلّه يعيد بعض الاعتبار المعنوي لدولة علمانية ارتدت على عقيدة مبدئها عندما أعلن زعيمها السابق أنه يخوض حربا صليبية (دينية) جديدة، وأنه يتلقى الخبر من السماء.

وعلى نفس الخطى الترميمية تلك، تسير بريطانيا اليوم، حيث يردد وزير خارجيتها ما يصرخ به اوباما من أن "الحرب ليست مع الإسلام". إلا أن الوزير البريطاني يضلل عندما يتحدث عن الاستقبال الإيجابي الذي لقيته تلك التصريحات: فالأمة الإسلامية لم تنخدع بمعسول الكلام أمام مكائد الأفعال، وهي لم تقبل لطافة الكلمات أمام خشونة التوجهات في إرسال مزيد من القتلة المرتزقة إلى أفغانستان وأمام وحشية الدعوة لحلف الناتو لحشد مزيد من القوات لمحاربة المسلمين في أفغانستان. وأمام التنادي العالمي لتمويل باكستان في مواجهة الرفض الإسلامي لذلك النظام المتهاوي. إذاً، تحاول بريطانيا كما تحاول أمريكا أن تتزين لتغري المسلمين بجمال حضارة الغرب العارية البالية، علّها تؤخر من حالة المواجهة الحتمية مع الأمة الإسلامية، نتيجة تاريخ مرير من المكائد التي حاكتها بريطانيا ضد المسلمين، كما يشهد على ذلك بحسرة، وزير خارجيتها في كلمته المذكورة قائلا "يجب كذلك أن نكون واضحين بشأن الانطباع الذي تولّد عنا نتيجة للتاريخ البريطاني ... ما زالت قلاع الصليبيين المدمرة تقف آثارا مريرة ممثلة للعنف الديني الذي كان سائدا في العصور الوسطى؛ والخطوط التي رسمتها القوى الاستعمارية على الخرائط ..." ثم يُذكّر بآثار غزو العراق كشاهد حي على المرارة ورفض الأمة وعدم الثقة، كما يرتبط بصورة بريطانيا في أذهان المسلمين.

بكل تأكيد، إن بريطانيا، التي مزقت وحدة المسلمين السياسية، ونصبت عليهم حراسا لمصالحها، وزرعت الحدود بينهم، وغرست كيانا غريبا عن جسم الأمة في قلبها الذي التصق بالسماء ليلة الإسراء، لا يمكن أن تكون صديقة لأمة لا زالت تعاني من تلك المكائد. وإن بريطانيا التي تعلن في إستراتيجية جديدة لها أنها تجرّم "من يطالب بإقامة الخلافة الإسلامية أو من يدعو إلى توحيد الأمة الإسلامية تحت راية دولة واحدة أو من ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية ويروج لها، أو من يعتبر الجهاد طريقا مشروعا لتحرير البلاد"، لا يمكن أن "تتبادل الاحترام" مع أمة تشربت هذه المعاني السياسية مع حليب الأمهات.

ومهما حاول الوزير البريطاني وحاولت حكومته، من "الاعتراف بوجود اختلاف"، أو مهما حاول من تضليل رأسمالي "بأنه ليس هناك جواب واحد للسؤال حول كيف نعيش"، ومهما حاول من خداع حول وجود "قيم مشتركة يمكن تعقب آثارها في مختلف الثقافات والأديان"، فإنه لا محالة سيصطدم بصخرة كأداء في طريق العبور إلى قلوب وعقول المسلمين، صنعها تاريخ بريطاني كريه الرائحة في أنوف المسلمين، وهو تاريخ لا يمحى إلا عندما تعيد الأمة سيرتها الأولى، وتتحدث بلغة القوي الآمر لا لغة الضعيف المأمور. فالأجدر بالوزير البريطاني وحكومته أن يستعدّ لذلك اليوم المحتوم، والأولى به أن يدعو الغرب إلى رفع يده عن الأمة الإسلامية لعلّ الأمة حينها تخفف من شدة انتفاضتها ضد تلك القوى، عندما تستعيد قرارها السياسي.