مبادرة عباس: تفريط بفلسطين مع إعادة الصياغة

 

بقلم: الأستاذ خالد سعيد*

 

عن الراية

منذ أكثر من شهرين والسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس يمارسون نشاطاً دبلوماسياً محموماً، أعقب القرار الأمريكي باعتبار مدينة القدس عاصمة لكيان يهود، والعنوان المُعلن لتلك التحركات هو رفض القرار بشأن القدس ورفض الرعاية الأمريكية المنفردة للمفاوضات مع يهود.

يُحاول البعض أن يُصور مساعي وتحركات السلطة ورئيسها بأنها معارك شرسة، يُحقق فيها انتصارات غير مسبوقة، بينما لا يختلف معي أحد ممن يدرك طبيعة قضية فلسطين، وطبيعة العلاقات الدولية وتشابكاتها، وواقع السلطة الفلسطينية، بأن تلك المساعي والتحركات ما هي إلا تكريس للاحتلال والسير في مخطط تصفية قضية فلسطين حتى النهاية. وقد شكل خطاب رئيس السلطة أمام مجلس الأمن الدولي في إطار جلسة عُقدت لبحث الأوضاع في الشرق الأوسط في 20/2/2018 أحد أبرز المحطات، والذي وصفه البعض بالتاريخي بينما كل كلمة من كلماته تحمل بين حروفها معاني الذل والاستجداء "طرقنا بابكم اليوم وأنتم أعلى هيئة أممية معنية بالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وقدمنا رؤيتنا للسلام، علها تجد استجابة حكمتكم وعدالتكم، ومستعدون لبدء المفاوضات فوراً… أنتم قمة الهرم، أعلى نقطة يلجأ إليها العالم، وبعدكم ليس إلا سدرة المنتهى. فإذا لم يتم إنصافنا هنا، فإلى أين نذهب إذن؟" هذا ما ختم به محمود عباس خطابه أمام المؤسسة الدولية التي ينطق تاريخها بالظلم وتنفيذ إرادة القوى الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا اليوم، أما في تفاصيل الخطاب فقد أكد محمود عباس على تمسكه بالسلام مع يهود، وكأنه لم يكفه أكثر من ربع قرن من الزمان وهو يجتر السلام من يهود ولم ينل خيراً، إنما جعل من أعظم قضايا المسلمين وأهمها سلعة تباع وتشترى ويساوم عليها، أما عن دعوته دول العالم للاعتراف بدولة فلسطين في حدود 1967 وعاصمتها (القدس الشرقية)، فهي دعوة تكشف حقيقة تلك الجعجعات الجوفاء التي لا ينفك رجالات السلطة عن ترديدها، وأنهم يقفون ضد تصفية القضية وضد وجود الاحتلال وضد القرار الأمريكي المشؤوم بحق القدس، فهل من يقبل بالتنازل عن أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين، ويقبل بتقسيم القدس إلى شرقية وغربية بينه وبين يهود، ولا يعتبر المحتل من فلسطين إلا ما احتل في الرابع من حزيران 1967، هل من يقبل بهذا كله حريص على فلسطين؟! هل يصدق عاقل أن مثل هؤلاء جادون في التخلص من الاحتلال ويحملون همَّ تحريرفلسطين؟!

أما عن دعوته لعقد مؤتمر دولي منتصف العام الحالي لرعاية مفاوضات السلام، فتلك والله لإحدى الكُبَر! فأي من تلك الدول مؤتمن على مصالح المسلمين؟! وأيها يُرِد بهم خيراً؟! أليست تلك الدول الاستعمارية التي يركض خلفها عباس هي التي صنعت كيان يهود، وثبتت أركانه، وأمدته بكل أسباب الحياة، والقوة، والبقاء؟! أليس كيان يهود بالنسبة لتلك الدول الاستعمارية المجرمة قاعدة عسكرية متقدمة في قلب العالم الإسلامي؟ فأيها سينصره؟ إن اللهاث خلف تلك الدول رجاءة نصرتها وأملاً في معونتها كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

كما إن مطالبته بتطبيق المبادرة العربية بحذافيرها، تعني اتخاذ قضية فلسطين جسراً للتطبيع مع يهود، وخلق حالة من الانسجام والاستقرار لكيان يهود في المنطقة، وهو ما يؤكد أن عباس وزمرته جزء من المنظومة المتآمرة على قضية فلسطين، والتي تغذ الخطا سريعاً نحو تصفيتها بأي شكل من الأشكال، وهو ما لم يعد سراً، أو ملفاً يبحث من تحت الطاولة كما كان سابقاً، بل هو أمر معلن تُجاهر به الأنظمة ليلاً ونهاراً لا فرق بين من تدثر بعباءة المقاومة والممانعة، أو من رفع راية الاعتدال، فكلهم في الخيانة سواء.

أما عن المطالبة بجعل القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة مرجعية لحل قضية فلسطين، مع وجود قوات دولية تضمن الاتفاق مع يهود وتكون متنفذة في بعض المناطق وعلى رأسها القدس، فهنا بدا عباس كمن يدفن نفسه بالتراب بيديه وهو حي، بدا متناقضاً مع نفسه، ما يؤكد انعدام الرؤية وعدم امتلاك الحل، وهو ما يكشف عن الدور الوظيفي المنوط بهذه السلطة وقيادتها في إضاعة الحقوق وهدر التضحيات، فهو الذي تباكى في الخطاب ذاته أمام مجلس الأمن على عدم تنفيذ أي من قرارات الأمم المتحدة ومجلس أمنها المتعلقة بقضية فلسطين "هل يعقل أيها السيدات والسادة أنه، وبالرغم من صدور 705 من القرارات عن الجمعية العامة، و86 قرارا من مجلس الأمن الدولي لصالحنا، ألّا تنفذ؟ وهل يعقل أن تتهرب (إسرائيل) من تنفيذ القرارين 181 و194؟"، هذا من جهة ومن جهة أخرى، الدعوة لاستقدام قوات دولية إلى فلسطين بحجة ضمانة الاتفاق، ومنع الاحتكاك في مناطق النزاع، ما هو إلا دعوة لاستقدام احتلال جديد برعاية دولية، لتكون تلك القوات سيفاً مُسلَطاً على أهل فلسطين، وكأنه لا يكفيهم معاناتهم وعذاباتهم في ظل الاحتلال اليهودي، وهو ما يكشف أيضاً عن عدم قدرة تلك السلطة وأجهزتها الأمنية رغم كل جهودها الجبارة، والتي يتفاخر بها قادة السلطة الأمنيون في ثني أهل فلسطين عن حقهم وكسر إرادتهم، وزعزعة صمودهم أمام طغيان يهود وصلفهم، وفي وجود قوات الاحتلال الدولية سيجتمع على أهل فلسطين ضغطٌ ثلاثي الأبعاد؛ فمن جهة يهود ومن جهة أخرى أجهزة أمن السلطة وتنسيقها الأمني "المقدس"، ومن جهة ثالثة القوات الدولية، وهو ما كان واضحاً في كلمة عباس واستعراضه لجهوده في خدمة الغرب في حربه على الإسلام ومنظومته القيمية والحضارية، وفي تخريب أهل فلسطين، وسلخهم عن دينهم، وخاصة الشباب منهم، وجهوده في محاربة المجاهدين وكل نَفَسٍ مقاوم ليهود ولمشاريع التصفية لقضية فلسطين "إن قناعتنا راسخة، وموقفنا واضح من استخدام السلاح، أياً كان نوعه، فنحن ندعو ليس فقط لنزع السلاح النووي، بل إننا ضد السلاح التقليدي، لما له من أثر على تدمير العديد من الدول في منطقتنا والعالم، ولهذا فقد حرصنا على نشر ثقافة السلام ونبذ العنف وأبدينا الاهتمام بالتنمية المستدامة، وبناء المدارس والمستشفيات، وتعمير المناطق الصناعية والمزارع وإنتاج التكنولوجيا بدلا من إنشاء مصانع السلاح وشراء الدبابات والطائرات، لأننا نريد لشعبنا أن يعيش بحرية وكرامة بعيدا عن الحروب والدمار، وبعيدا عن (الإرهاب) و(التطرف) الذي نحاربه بلا هوادة في كل مكان في العالم".

ينبغي أن يعلم عباس وزمرته بأن أهل فلسطين لن يسمحوا بتصفية قضيتهم والتفريط بها مهما كلفهم ذلك من ثمن.

كما ينبغي أن يكون واضحاً وثابتاً أن قضية فلسطين هي قضية إسلامية؛ مرجعية حلها إلى شرع ربنا وما سواه باطل، ويقع على عاتق الأمة الإسلامية، وبخاصة الجيوش، إنجاز تحريرها بالجهاد والقتال، وليس بالمفاوضات العبثية، ودعوات التطبيع التي يقودها عباس، وحكام أنظمة الضرار في بلاد العالم الإسلامي.

وأما القوى الدولية التي تتلاعب في قضايا الأمة وتتقاذفها فيما بينها ضمن صراعات المصالح والنفوذ، فإن ذلك سينتهي عما قريب بإذن الله تعالى في ظل دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي أظل زمانها، وبان هلالها ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا.

 

*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين