انتهت في 25-4-2013م جلسات مؤتمر في جامعة الخليل بعنوان: "الدولة المدنية بين الشريعة الإسلامية والقانون "، وصدر عن هذا المؤتمر بيان ختامي سنقف عليه في هذه القراءة، وكان المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين قد أرسل رسالة مفتوحة إلى القائمين والمشاركين في المؤتمربتاريخ 22-4-2013م أي قبل انعقاد المؤتمر من باب النصيحة والبيان، أوضح فيها بأن قضية الدولة المدنية هي قضية سياسية بالغة الخطورة كونها إحدى الجبهات في الحرب التي يشنها الغرب على مشروع الخلافة الرباني، وأن الدول الاستعمارية الغربية قد اصطنعت هذه القضية خصيصًا بعد الثورات لتحل محل الخلافة، وأن ذلك واضح في إجماع هذه الدول على مشروع دولة مدنية في سوريا بعد سقوط بشار كمثال....

وجاء البيان الختامي للمؤتمر ليؤكد على ما ذهبنا إليه في رسالتنا من محاولات التوفيق بين الإسلام والكفر، وإلصاق كل موضة بالإسلام، وجاء يضرب بعضه بعضًا، فأوله مثلا يناقض آخره، فقد نص البند الأول على أن التشريع لله ولكن البند الأخير دعا إلى الإسراع بتشكيل محكمة دستورية عليا إعمالا للقانون رقم 3 لسنة 2006م!، فهم بذلك يدعون إلى الاحتكام إلى دستور وضعي يخالف قطعًا تشريع الله، فيكون بذلك البند الأول عبارة عن بند نظري. حتى أن عنوان المؤتمر الذي يقرن الشريعة مع القانون عند الحكم على الدولة المدنية يناقض البند الأول.

والبند الثالث رفض مصطلح الدولة المدنية كما يطرحه الغرب واستحدث معنى جديدًا لنفس المصطلح واعتبره مقبولا، بينما في البند التاسع رفض مصطلح الدولة الدينية نهائيًا، ولم يستحدث له معنى جديدًا للمصطلح كما فعل مع مصطلح الدولة المدنية، فلم ينص مثلا على أن الدولة الإسلامية دولة دينية ليس بالمفهوم الغربي وإنما بمفهوم جديد! جريًا على نفس المنهج الذي لا نقرّه. وهذا يدلل على الانتقائية والقرارات المسبقة والتأثر بالأجواء السياسية التي يمجد فيها الغرب وعملاؤه والإعلام التابع لهم الدولة المدنية.

والحقيقة أن المصطلحات بشكل عام سواء منها السياسية وغير السياسية لا يصح استحداث مسميات جديدة لأسمائها، لأن هذا يؤدي إلى تسويق المؤامرات والمحرمات على المسلمين، ولأن القرآن الكريم عندما استعمل ألفاظًا غير عربية الأصل وعرّبها فإنه استعملها بنفس معانيها ولم يبتدع لها معان جديدة، ولأن القرآن الكريم نهى عن استعمال مفردات عربية الأصل ولكنها قد تحمل معنى يؤدي إلى حرام في حالة من الحالات مثل لفظ "راعنا"، ولأن العالم كله يفهم مصطلح الدولة المدنية فهمًا واحدًا ولا يضيره أن يخدع بعضنا بعض الأتباع بوضع معان جديدة متخيلة ومبتدعة للمصطلح ثم عندما ينادي من عكف على إرضاء الغرب بهذا المصطلح يتقي بذلك غضب أتباعه من المخلصين.

ثم إن البند الثالث نفسه واضح فيه محاولة إلصاق الدولة المدنية بالإسلام بأي شكل، فنص البند على " أن الدولة المدنية من وجهة نظر إسلامية هي الدولة المتحضرة التي يحكم فيها أهل الاختصاص ضمن أطر مؤسسية بمرجعية إسلامية، وهي مقبولة وفق الضوابط الشرعية..."

فأولا لا يوجد مفهوم للدولة المدنية في الإسلام، وهذا المفهوم الذي ينص عليه البند هو محاولة تلفيق بين شكل الدولة العلمانية التي تسمى دولةالمؤسسات وبين شكل الدولة في الإسلام، بل هي محاولة إلغاء لشكل الدولة في الإسلام، وثانيًا فإن مصطلح "مرجعية إسلامية" لا يعني الحكم بما أنزل الله، ولا يعني أن يكون كل قانون وكل شيء في الدولة قائم على أساس الإسلام، بل يعني أن يكون الإسلام مجرد مرجع عام يؤخذ منه ما يناسبهم من عموميات، ولا ينفي وجود مرجعيات أخرى، وعلى سبيل المثال فقد اعتبر الرئيس المصري محمد مرسي أنه لا حاجة للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية لأنها موجودة في الدستور المصري منذ أيام المخلوع حسني مبارك، في بند أن دين الدولة الإسلام، رغم أن الدستور نفسه ينص على أن السيادة للشعب وليست للشرع، وعلى أن مبادئ الشريعة الإسلامية- وليست الشريعة الإسلامية- مصدر –وليست هي الوحيدة بذاتها التشريع نفسه – من مصادر التشريع!

ومحاولة التلفيق في هذا البند تتضح أكثر في البند الخامس الذي يمنهج التلفيق و نص على أن "واجب الفقيه أن يدرس الواقع في الدولة المدنية دراسة علمية موضوعية، ليصدر أحكاماً موافقة للشرع الإسلامي محققة لمقاصده "، وقد كان الواجب أن يقال أن الفقيه يدرس الواقع ثم يستنبط الحكم من الشرع على هذا الواقع، لا أن يصدر أحكامًا توافق الشرع أو لا تخالف الشرع وتحقق المقاصد، لأن المقاصد ليست عللا للأحكام، ولأن المطلوب هو الحكم الشرعي كما هو، وليس إخراج حكم يوافق الواقع ثم جعل الشرع يؤيده، على منهج (عليكم بالحكم وعليّ بالدليل)!

وحسب الطريقة الصحيحة للاستنباط فإن الدولة المدنية هي مقابل الدولة الدينية وتعني الدولة التي يكون دستورها من وضع البشر ولا دخل للدين في دستورها أو شخص حاكمها، والحكم الشرعي في هذا الواقع أنه كبيرة من كبائر المحرمات في دين الله.

 

البند الرابع ينص على أن : "أهل الحل والعقد هم المفوضون باختيار الحاكم، ويقوم مقامهم اليوم البرلمان أو مجلس الشورى، ولا مانع من اختيار الحاكم بالتصويت الشعبي عبر الانتخابات.

لم ينص البند على الأساس الذي يجب أن يتم اختيار الحاكم بناء عليه، فإن الإسلام يعتبر الحاكم الشرعي هو الحاكم الذي تتوفر فيه شروط الانعقاد ويبايع على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويباشر هذا الحكم، ولم يعتبر أن مجرد انتخاب الحاكم يجعله حاكمًا شرعيًا، وهناك حكام تم انتخابهم على غير هذا الأساس ويعتبرهم أغلب المشاركين والقائمين على المؤتمر حكامًا شرعيين، وهذا غير صحيح.

 

أما البندان السادس والعاشر فهما يبينان بوضوح العقلية التوفيقية التي سيطرت على المؤتمر، وهما أي البندان يركزان على استيعاب المفاهيم الوافدة من الحضارة الغربية ومحاولة إيجاد مشترك بينها وبين الحضارة الإسلامية من خلال المعاني العامة، ولم يتم طرح المشروع الإسلامي أو المفاهيم الإسلامية على أنها الأصيلة، ولكن تم طرح المفاهيم الغربية على أساس تكييف أخذها، فمثلا تم إقحام الديمقراطية والقول بأخذ أساليبها، رغم أن الأساليب التي يتحدثون عنها موجودة أساسًا في الإسلام، فلماذا لم يقولوا بالأخذ بالإسلام وليس الأخذ من الديمقراطية؟ مع التنويه على أن الديمقراطية ليست الأساليب كالانتخاب وإنما هي جعل السيادة للشعب.

إنه الانهزام الفكري والنفسي بعينه، ولقد كان أفضل مما صنعوا لو استلهموا أنفاس المغيرة بن شعبة وهو يخاطب رستم قائلاً: (كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، وإنا معشر العرب سواء؛ لا يستعبد بعضنا بعضا ...)، فيعلنوا في بيانهم الختامي للديمقراطيين بأننا لا نرى أسفه منهم، فإنه يعبدون بعضهم بعضًا من دون الله من خلال ديمقراطيتهم، ونحن نعبد الله وحده لا شريك له، وأننا أصحاب رسالة ولا نتلقى رسالات من أحد.

 

وختامًا فإن البيان الختامي لم يأت على ذكر الخلافة ولو بحرف واحد، مع أن 20% من الأوراق المقدمة تتحدث في عنوانها ومضمونها عن الخلافة! ومع أن الخلافة هي مشروع الأمة، وهي ما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحكم الجبري في الحديث الشهير (.. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت)، وهي ما أوجب الله العمل لها، ولكننا وجدنا من يروج على المسلمين الدولة المدنية كمشروع بديل عن الخلافة إرضاء للسياسيين الذين يسترضون الدول الغربية التي تحارب الخلافة وتطالب بالدولة المدنية.

(أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).