ظنّت السلطة أنها بابتزاز الخطباء والأئمة وتهديدهم بقطع الأرزاق ستفلح في تحويل دور المسجد من منبر للدعوة والإسلام والصدع بالحق والجهر به وتبصير المسلمين بقضايا أمتهم إلى منبر سلطوي يسبح بحمد السلطة صباح مساء، ونسيت تلك الغِرّة بأن قول كلمة الحق ومحاسبة الخطيب حتى ولو كان حاكماً وأميراً للمؤمنين هو سلوك قد تجسد في الأمة منذ عهد الخلافة الراشدة إلى العهد الأموي فالعباسي مروراً بابن حنبل والعز بن عبد السلام وانتهاءاً بيومنا الراهن.
فلقد شهدت الجمعة المنصرمة حدثاً هاماً على مستوى فلسطين، حدثاً عبّر عن مدى ما وصلت إليه السلطة في استخفافها بأهل فلسطين وتعدّيها عليهم حتى مست عباداتهم، وعبّر في الوقت نفسه عن مدى البون الشاسع الذي يفصل بين السلطة وأهل فلسطين ويدحض كذبة تمثيلها لهم.
 
فلقد عمدت السلطة إلى إفساد صلاة الجمعة الفائتة عبر تحديدها لموضوع الخطبة بل وتعميمها لنص خطبة كتبها من رضي وتابع حكام الجور والخيانة، ومن الجدير ذكره أن السلطة قد عمدت منذ فترة –استخفافاً بعقول الأئمة والخطباء وتقليلاً من شأنهم وتسخيراً لهم ليكونوا أبواقاً لها ولتوجهاتها المغرضة- إلى تحديد موضوع الخطبة لجميع خطباء الضفة الغربية بل وإرسال نصها في بعض الأحيان، فقد جعلت السلطة خطبة الجمعة الأخيرة تدور حول الدفاع المستميت واليائس عن رئيس السلطة الذي بانت عورته أمام الأعمى والبصير وأزكمت رائحته الأنوف.
 
محاولة استغلال تبوء بالفشل
لقد وجدت السلطة من حادثة هجوم الشيخ يوسف القرضاوي على محمود عباس بسبب مواقفه المخزية من حرب غزة وتقرير غولدستون وتآمره مع يهود مدخلاً للولوج إلى بيوت الله وتسخير منبر رسول الله لمشاريعها السياسية التآمرية من بعد أن أفلس منظروها وإعلاميوها عن الترويج والدعاية للسلطة وأفعالها القبيحة، كما أن التطاول على بيوت الله وعلى منبر رسول الله ومحاولة إفقاد المسجد دوره الريادي في عملية التغيير يمثل سياسة استعمارية أوصت بها مراكز الأبحاث الغربية فاتخذت السلطة الجائرة من نفسها وعبر وزارة الأوقاف أداة لتنفيذ تلك المخططات.
 
لكن محاولتها تلك باءت بالفشل واصطدمت بحائط صلب مهول حال دون اغتصاب السلطة لمنبر رسول الله واستيلائها عليه، فلقد وقف المصلون في شتى أنحاء الضفة الغربية في وجه الأئمة والخطباء الذين سولت لهم أنفسهم مسايرة رغبات السلطة وإرضائها بسخط الله وغضبه، فلقد وقف المصلون وقفة الأعرابي الذي وقف للفاروق عمر يحاسبه ووقفة المرأة التي حاسبته في تحديد المهور (مع حفظ المقام للفاروق عمر إذ يذكر اسمه في هذا السياق)، فرفضوا الترويج لرئيس السلطة عبر منبر رسول الله ورفضوا تسخيره لأغراض سلطوية فاسدة، فوقف المصلون في نابلس والبيرة والخليل وجنين وبيت لحم وغيرها وقفة واحدة بلا اتفاق عبرت تلك الوقفة عن عمق مفاهيم الإسلام في قلوبهم وأنهم وإن غلبتهم السلطة على أمرهم في قضاياهم السياسية فلن يبقوا مكتوفي الأيدي تجاه هؤلاء الطغاة الذين تعدّوا على أخص خصوصياتهم فأفسدوا عليهم صلاتهم كما أفسدوا معاشهم.
 
ومن الجدير ذكره أن معظم الخطباء لم ينصاعوا لطلب وزارة الأوقاف فخطبوا على غير ما اشتهت السلطة، وعمد جزء منهم إلى تناول موضوع الخطبة (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) -من باب رفع العتب- بصورة عامة مجردة لم توحِ من قريب ولا بعيد إلى الموضوع الذي أرادته السلطة (الدفاع عن عباس) بل تناولوا موضوع الشائعة وخطرها على المجتمعات فحسب، ويذكر كذلك أن طلب الوزارة لهذه الخطبة كان موضوع أخذ ورد ونقاش ساخن في عدد من مديريات الأوقاف في محافظات مختلفة مما استدعى تدخل مديري المديريات الذين أفصحوا أن وزير الأوقاف قد جمعهم واخبرهم بأنه مطلوب من الخطباء أن يلتزموا بخطبة مكتوبة أعدتها وزارة الأوقاف وهدد بعض المدراء الخطباء وطالبوهم بصورة وقحة -كعادة السلطة في محاربة الموظفين في الوظائف العمومية، وفصلهم من وظائفهم بسبب انتماءاتهم السياسية- بترك الوظيفة إن هم رفضوا خطب تلك الخطبة الجريمة حتى قال بعضهم (واللي مش عاجبه يروح يترك وظيفته).
 
شهد على نفسه وسلطته
وفي السياق نفسه ومما استخدمته السلطة للضغط على الأئمة والخطباء هو تهديدهم بقطع أرزاقهم حتى وصل الأمر بوزير الأوقاف أن طالب الخطباء في اجتماع أن يكونوا مدافعين عن السلطة ورئيسها قائلاً لهم (من يأكل من مغرفة السلطان يجب أن يضرب بعصاه).
 
ناسياً أو متناسياً أن سلطان السلطة هم يهود والدول المانحة من أمريكان وأوروبيين وأن السلطة تأكل من مغرفتهم بالتالي فهي تضرب بعصاتهم بل بعصاة دايتون، ومتناسياً كذلك أنه وسلطته هم الدخلاء على أهل فلسطين وأن أهل فلسطين هم قبل السلطة وقبل يهود وقبل النظام الأردني وقبل الانتداب الانجليزي، فالسلطة هي من سرقت أموال أهل فلسطين واستولت على مرافقهم العامة ومؤسساتهم حتى جاء هذا الذي باع دينه بدنيا غيره ليمنّ على الناس برواتب بخسة لا تسمن ولا تغني من جوع.
 
تغطية إعلامية قاصرة
كانت تغطية وسائل الإعلام المحلية لأحداث الضجيج بالخطباء الذين انصاعوا للسلطة أو إنزال بعضهم من على المنابر احتجاجا على خطبهم الجريمة والجريئة على دين الله أو رفض الصلاة خلفهم، تغطية باهتة بل معدومة ومقلوبة في بعض الأحيان، فبالرغم من أن هذه المواقف تعبر عن رفض الناس لتوجه السلطة السياسي أكثر من أي استطلاع رأي، اكتفت وسائل الإعلام على نقل الحدث –بعيداً عن المهنية والنزاهة الصحفية- من وجهة نظر سلطوية، فلقد اعتبرت بعض وسائل الإعلام في صورة التعميم المجرد أن الخطباء قد استنكروا تصريحات القرضاوي ضد عباس ولم تأت تلك الوسائل على ذكر ما دار من ضجيج واعتراض ومحاسبة للخطباء في المساجد المذكورة في تقاريرهم الصحفية وفي بقية المساجد، ولا على ذكر عدم انصياع جمهرة من الأئمة لطلب وزارة الأوقاف، كما لم تنقل وسائل الإعلام تهديدات وزير الأوقاف ومدراء المديريات للأئمة والخطباء بالطرد من الوظيفة مما يعكس مدى تحسب وترقب وسائل الإعلام للسلطة وتوجسها منها أو تعكس في بعض الأحيان توجهاتها السلطوية.
 
وكعادة إعلامها الفاشل عمدت السلطة إلى وصف ما جرى بأنه اختلاف بين المصلين لا احتجاج من الناس على السلطة وسياساتها وعلى الخطباء المنساقين وراءها، كما صرح بذلك الناطق باسم الحكومة الفلسطينية برام الله غسان الخطيب بقوله أن الذي حدث هو أن "مجموعة من المصلين بالمسجد الكبير في البيرة لم يعجبهم شيئا في خطبة الإمام، فقاموا بمقاطعته واعترضوا على خطبته، وحصل توتر ومشادات كلامية بين المصلين". ولم ينف أو يؤكد الناطق باسم الحكومة حدوث احتجاجات مماثلة للمصلين في مساجد أخرى بالضفة الغربية، وقال: "قد يكون هناك أحداث مشابهة بمساجد أخرى، لكنني لم أسمع بذلك"،
 
ردود الفعل الغاضبة في المساجد التي لم يسمع عنها الناطق باسم الحكومة
 
المسجد الكبير في نابلس
 على إثر طلب الأوقاف من الخطباء بإلقاء خطبة بعنوان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) قام أحد الخطباء المحسوبين على السلطة (وهو يحمل منصب مسئول المساجد في المدينة) بابتداء خطبته في المسجد الصلاحي الكبير وهو أكبر مساجد نابلس بالهجوم على القرضاوي وكيل المديح لمحمود عباس بصفته ولي أمر كما يزعم،
 
 فما لبث أن صاح به أحد المصلين في أثناء الخطبة (بل أنت الفاسق والمنافق) ثم أمره بالنزول عن المنبر، وسرعان ما انتفض الناس حول الشاب مؤيدين لما يقوله، فما كان من الخطيب إلا أن أصر على موقفه مخاطبا الناس بأن قال لهم (إن كنت منافقا فلتخرجوا أنتم من المسجد فلا يحل لكم الصلاة خلفي إن لم يعجبكم ذلك) فخرج قسم لا بأس به من المصلين المتذمرين من هذا الخطيب، فحاول آذن المسجد إقامة الصلاة أول مرة، إلا أن الخطيب استمر بكلامه الممجوج فوقف له أحد المصلين مرة أخرى مخاطبا إياه بالنزول عن المنبر فانتفض الناس مرة أخرى ودفعوا آذن المسجد لإقامة الصلاة مقاطعين الخطيب الذي يعتلي المنبر لإجباره على التوقف والنزول، ففعل الآذن،
 
 واضطر الخطيب لأن يقطع خطبته ويؤمّ الناس قبل أن يؤمهم الآذن الذي دفعه الناس لإمامتهم، فقرأ بعد فاتحة الركعة الآولى آية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، فصرخ أحد المصلين في أثناء الصلاة موجها قوله لهذا الإمام (بل أنت الفاسق وأنت المنافق) فاستمر الإمام بصلاته، فما أن أتم الصلاة حتى هاجمه الناس بالكلام والصياح عليه بأن لا يقدم ثانية للمسجد، وصرخوا بوجهه بعبارات مثل – من أتى بك لهذا المسجد – لا تأتي ثانية هنا- أمثالك منافقون لا يخطبوا في الناس... وأمثال ذلك.
 
مسجد البيرة الكبير
عندما انتقل الخطيب إلى موضوع ( وجوب طاعة ولي الأمر محمود عباس والالتفاف حوله )
انسحب من المسجد أفراد قلة ليصلوا في مسجد آخر ثم تبعهم آخرون ..وفي نصف دقيقة فقط كان كل من في المسجد واقفا على رجليه يطالب الإمام بالنزول عن المنبر وتلفظ البعض بألفاظ تجاه الإمام قاسية جدا، وقد كان ظاهرا أن الامتعاض كان بسبب كثرة مدح أبو مازن، ولكنه أبى أن ينزل وطالبهم بالجلوس فخرج خلق كثير ودار حديث بين الناس في المسجد مفاده رفض كلامه بولاية محمود عباس ومدحه في غير محله .... وكان كلما حاول العودة لاستكمال الخطبة يعود الناس بالتشويش والمطالبة بالنزول حتى استسلم للرأي أن يقيم الصلاة وحتى هنا رفض الناس الصلاة خلفه وبقي الناس في جدال معه لمدة خمسة دقائق حتى اتفقوا على جواز الصلاة وراء الفاسق فصلى وراءه كارها ثلث المسجد.
وكان حوله رجال أمن لا يصلون وبقوا خلال الصلاة واقفين ويقومون بحركات الصلاة، حتى أتم الصلاة، وكان المسجد محاصرا برجال الأمن مدججين بالهراوات، ثم دخل بعض رجال الأمن بالزي المدني واصطحبوا الإمام إلى الخارج وذهبوا به ..
 
مسجد الحرم الإبراهيمي في الخليل
 
تعالت الصيحات في جنبات الحرم مطالبة وكيل وزارة الأوقاف بالنزول عن المنبر، ووصفوه بالخائن، ولم يكمل الخطبة وأم الناس بحراسة الأمن.
 
مسجد طارق بن زياد في الخليل
 
عندما مدح الخطيب محمود عباس، صاح به الناس اتق الله، وصاح آخرون أنزلوه عن المنبر، وحصلت مشادات كلامية بين مندوبي الأجهزة الأمنية والناس، وهدد البعض بضربه فأخذ إلى غرفة، ورفض الناس إمامته، فأم الناس في الصلاة غيره.
 
مدينة جنين
 
1-      مسجد القاضي - جنين
 بالرغم من أن الخطيب (إمام المسجد) وصف القرضاوي بأنه أستاذه وأنه عالم, لكنه أخذ يذمه تبعا لما جاء في كتاب الأوقاف
أحد المصلين قال للخطيب أثناء الخطبة: اتق الله يا شيخ وكررها مرارا, وبعض المصلين أخذ يردد لا حول ولا قوة إلا بالله مما أحرج الخطيب وظهر عليه الارتباك في كلامه واضطر إلى اختصار الخطبة.
 
وبعد الصلاة ارتفعت الأصوات في كل جنبات المسجد بعضهم توجه إلى الإمام لعتابه وبعضهم يقول هذه مكتوبة للشيخ وآخرون يقولون هذا نفاق ومنهم قال كم دفعوا لك أيها الشيخ على هذه الخطبة.
كان الخطيب في وضع لا يحسد عليه مما أصابه من حرج شديد وكثرة تذمر المصلين وامتعاضهم منه.
 
2-      مسجد جنين الكبير
     الخطيب هو مفتي محافظة جنين، وموضوع خطبته هو ما عمم على الأئمة من قبل الأوقاف وكان هناك تصوير تلفزيوني للخطبة (تلفزيون فلسطين).
 
 أحد الناس قام وغادر المسجد أثناء الخطبة مما لفت نظر المصلين, حيث كان بعضهم يظهر التأفف. وبعد الصلاة ظهر الامتعاض الشديد من قبل كثير من المصلين اللذين وصفوه بأنه منافق ومن رجالات السلطة وآخرون كانوا يحوقلون وبعضهم يقول حسبنا الله ونعم الوكيل, ولكن أثناء الخطبة لم يكن هناك مقاطعة للخطيب.
 
حملات اعتقال لتكريس القمع والإرهاب
بالرغم من الحشودات الأمنية الكثيفة على أبواب وداخل المساجد لإيجاد حالة من الذعر والخوف لم تنجح السلطة بإسكات أصوات من ضجوا بها وبسياساتها وخطبائها، وهي كعادة السارق الذي لا يجرؤ على المجابهة العلنية، فلقد أقدمت الأجهزة الأمنية عقب أحداث الجمعة وكعادتها كذلك في سعيها لإسكات كل صوت حق مناوئ لها، وضمن سياستها القمعية التي خطها لها الجنرال الأمريكي دايتون، عمدت إلى اعتقال العديد من المصلين في كل من نابلس ورام الله، وكانت من قبل قد اعتقلت عدداً من شباب حزب التحرير على خلفية صدعهم بالحق عبر كلمات وخطب ألقوها في المساجد وعقب الصلوات، ولا زالت تحتجز وتتابع بعضاً منهم في جنين وبيت لحم.
 
رسالة كفلق الصبح
لقد أبرقت وقفة المصلين أمام محاولة اغتصاب السلطة لمنبر رسول الله رسالةً واضحةً لا تحمل زيفاً أو نفاقاً، رسالة للسلطة ولمن يقف خلفها من يهود وقوى غربية استعمارية، مفادها أن أهل فلسطين بُرَآءُ من سلطة الخيانة وهم بُرَآءُ من كل من والى الكافرين وأنهم مهما واجهوا من قمع وبطش وتضييق سيبقى يعلو فيهم قول الحق وسيبقوا صفاً منيعاً في وجه محاولات الأنظمة الجائرة والكافرين، النيل من دينهم وعقيدتهم، وأن ما يعيشون اليوم ليس سوى كبوة فارس سرعان ما يلملم شعثه ليعود يزمجر في وجه الطغاة مهاباً مصاناً، وتاريخ الأمة الممتد عبر القرون الماضية خير دليل لمن نشد العبرة والحجة. فرسالتهم كانت واضحة ومختصرة (لقد فات الأوان على الوقوف في وجه التغيير) وإن غداً لناظره لقريب.
 
(وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)
18-1-2010

---------------------------

للمزيد من التفاصيل: اقرأ بيان المكتب الإعلامي المتعلق بالموضوع