بسم الله الرحمن الرحيم

جواب سؤال

 نتائج الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي

السؤال:جرى استفتاء في بريطانيا يوم 2016/6/23 حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه، فكانت النتيجة حوالي 52% نحو الخروج، فعلى إثر ذلك أعلن رئيس الوزراء البريطاني كاميرون استقالته على أن تبقى حكومته مدة ثلاثة أشهر... فهل كانت نتيجة الاستفتاء عكس ما أراده كاميرون؟ وما هو التأثير الاقتصادي والسياسي على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟ وهل خروج بريطانيا من الاتحاد أصبح محسوماً، بمعنى أن ليس هناك لبريطانيا خط رجعة؟ ثم هل هناك دور لأمريكا في الموضوع؟ وجزاك الله خيراً

 الجواب:لكي تتضح الصورة ويتبين الراجح بالنسبة للأمور التي أثارها السؤال نستعرض ما يلي:

 1- سلطت بريطانيا الأضواء باستمرار، منذ الأزمة الاقتصادية 2008، على مشاكلها مع الاتحاد الأوروبي، وكيف أن الاتحاد لا يعمل لصالح بريطانيا. لقد بيَّن رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، الموقف البريطاني تجاه الاتحاد الأوروبي في كلمة ألقاها في قمة دافوس في كانون الثاني/يناير عام 2016، فقال: "أصبح الاتحاد الأوروبي لا يحظى بشعبية في بريطانيا على نحو متزايد. نحن بحاجة إلى الاستفتاء من أجل معالجة المخاوف التي لدى الناس في بريطانيا تجاه أوروبا: مثل فكرة وضع الكثير من التشريعات ووجود الكثير من البيروقراطية... وفكرة إمكانية أن يصبح الاتحاد أكثر ما يكون مجرد نادٍ بعملة واحدة؛ وهذا ما لا نوافق عليه... وفكرة أن أوروبا تفكر حقا باتحاد سياسي، وهو اتحاد سياسي لم تكن بريطانيا أبداً ترتاح له. ولم تكن بريطانيا أبدا راضية عن فكرة كوننا جزءاً من اتحاد سياسي. إننا بلد فخور بنفسه ومستقل، ولدينا مؤسسات مستقلة وديمقراطية نفتخر بها، وإنها خدمت مصالحنا جيدا. ونود أن نكون واضحين تماما أن هذه أمور من شأننا. أوروبا هي دول وطنية مستقلة تلتقي معاً للتعاون والعمل معا من أجل المنفعة المتبادلة بينها، لكنها ليست اتحاداً سياسياً يزداد عمقا، لا يريده الشعب البريطاني، ولن يوقع عليه. "(Gov.uk، 21 كانون الثاني/يناير 2016)... وبناء عليه دخل في تفاوض خلال شهر شباط الماضي مع الأوروبيين وحقق أكثر ما تريده بريطانيا: حقق الحفاظ على هوية بريطانيا القومية فلا تندمج سياسيا في الاتحاد فتحافظ على كيانها مستقلا عن الاتحاد، ولا تطبق عليها اتفاقية الشينغن، فلا تزال حدودها دون قيود غبر مرغوبة عليها، ويعترف الاتحاد بعملتها الإسترليني فلا تدخل منطقة اليورو، وتقييد الوافدين الأوروبيين إلى بريطانيا من حق الحصول على مساعدات معينة وسكن مجاني إلى أن يكملوا 4 سنوات إقامة في بريطانيا... لقد قال كاميرون حين توقيع الاتفاق معلنا تحقيقه النتائج المرجوة إن "الاتفاق الذي توصل إليه مع قادة الاتحاد الأوروبي يمنح بريطانيا وضعا خاصا داخل الاتحاد". (بي بي سي، 2016/2/20) وكان كاميرون قد طالب الاتحاد الأوروبي "بمنح البرلمانات الوطنية للدول الأعضاء سلطات أكبر بحيث يحق لهذه البرلمانات ومنها البرلمان الإنجليزي حق الاعتراض أو إلغاء قرارات المجلس الأوروبي" ولكن هذا الطلب لم يوافق الاتحاد عليه... لقد حققت بريطانيا الكثير ولكنها أرادت أن تجعل قرارات الاتحاد الأوروبي وقوانينه غير ملزمة لبريطانيا تعترض على ما تشاء وتقبل ما تشاء بحيث لا يبقى للاتحاد الأوروبي أية سلطة عليها. هذا ما يريده الإنجليز ليجعلوا الاتحاد ضعيفا جدا ليس له أية سلطة على أعضائه. إن بريطانيا كعادتها كانت تريد الاستفادة من الاتحاد دون أن تتقيد بقوانين الاتحاد وكانت تستخدم موضوع الاستفتاء والخروج من الاتحاد كوسيلة ضغط وابتزاز لكسب امتيازات... وكما هو معلوم فإن كاميرون في حملته الانتخابية كان قد وعد في حال نجاحه بانتخابات 2015 بأنه سيقوم بإجراء هذا الاستفتاء جرياً على عادة بريطانيا في التلويح بالاستفتاء لتحقيق امتيازات خاصة، وذلك بإخافة الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء الأخرى من الفوضى السياسية والاقتصادية التي يوجدها قرار الاستفتاء بخروج بريطانيا من الاتحاد!

 إن سياسة بريطانيا بالتهديد بالاستفتاء لتحقيق مكاسب من الاتحاد ليست جديدة بل هي منذ السنوات الأولى لدخول بريطانيا في مكونات الاتحاد، فبريطانيا قد أصبحت عضواً في المجموعة الاقتصادية الأوروبية منذ كانون الثاني 1973، وكان احتفاظها بعملتها "الجنية الاسترليني" وبقاؤها خارج منطقة "الشنغن" شعارين للوضع الخاص الذي ظلت بريطانيا تتمتع به رغم عضويتها في الاتحاد الأوروبي، وكانت تستخدم فكرة "الاستفتاء" على بقائها في الاتحاد كوسيلة لابتزاز الدول الأوروبية، لتحقيق مزيد من الخصوصية لبريطانيا داخل الاتحاد، فقد أجرت استفتاءً سنة 1975 لتحسين شروط بقائها في الاتحاد، والذي صوت البريطانيون فيه لصالح البقاء في المجموعة الاقتصادية الأوروبية...

 وهذا الاستفتاء الحالي ليس بدعاً من الاستفتاءات البريطانية لتحقيق أغراضها حتى لو كانت أغراضاً خبيثة! وقد سار فيه حزب المحافظين بدهاء فأدار رجال الحزب حملتي البقاء في الاتحاد والخروج منه في آن!! فكان على رأس حملة البقاء رئيس الوزراء البريطاني نفسه، وكان على رأس حملة الخروج النائب بوريس جونسون، الذي كان عمدة لندن السابق، والذي استقال من منصبه ليتولى مقعداً مضموناً للمحافظين في البرلمان في منطقة محافظة لندن، وذلك من أجل احتمال أن يكون رئيس الوزراء في المستقبل. كما قاد وزير العدل الحالي، مايكل غوف حملة الخروج أيضاً... وقد أعلن كاميرون "أن موعد الاستفتاء حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي حدد في 23 حزيران/يونيو 2016، وذلك إثر اجتماع للحكومة. وشدد كاميرون في تصريح مقتضب أمام مقر الحكومة مجددا على أن بريطانيا "ستكون أقوى وأكثر أمنا وازدهارا ضمن اتحاد أوروبي تم إصلاحه". (مونتي كارلو 2016/4/20). ورغم دعمه للاتفاق إلا أنه أبقى على عدم إلزام حزبه بدعمه، ففي الوقت الذي قال فيه كاميرون "إن اختيار مغادرة الاتحاد في استفتاء الخميس سيمثل "خطأ كبيرا"، وسيؤدي إلى "حالة من عدم اليقين لما يصل إلى عقد من الزمن"، قال وزير العدل في حكومته مايكل غوف لصحيفة صنداي تليغراف إن بريطانيا ستصبح "منارة تقدمية" إذا خرجت من الاتحاد. وقال غوف: "يجب أن يصوت المواطنون من أجل الديمقراطية ويجب أن تصوت بريطانيا للأمل". (بي بي سي، 2016/06/19). وهكذا كان رئيس الوزراء البريطاني كاميرون ومجموعة من قيادات حزبه يشكلون معسكراً داعماً لبقاء بريطانيا في الاتحاد، بينما كان وزير عدله المحافظ غوف ومجموعه من وزراء كاميرون الآخرين ينسقون حملة "خروج بريطانيا" مع رئيس بلدية لندن السابق بوريس جونسون القيادي المعروف في حزب المحافظين.

 إن إنعام النظر في سياسة حزب المحافظين الحاكم الذي يقوده كاميرون في موضوع الاستفتاء المذكور يدل على أن كاميرون كان يتوقع أن تكون النتائج غير حاسمة كأن تكون متساوية فتكون بين أخذ ورد لتكون مجالاً للإعادة أو تتخذ هذه النتائج غير الحاسمة مجالاً للتفاوض من جديد مع الاتحاد، ولهذا كان حزب المحافظين نفسه يدير حملة البقاء في الاتحاد وحملة الخروج منه... ولم تكن أي من الحملتين جادة فعلاً في البقاء أو الخروج بقدر ما كانتا جادتين في أن يكون الاستفتاء طريقاً إلى تحقيق تنازلات إضافية من الاتحاد. ويُرجِّح ذلك أن كاميرون ورغم دعمه الاتفاق إلا أنه أبقى على عدم إلزام حزبه بدعمه فلو كان جاداً في البقاء لطلب من حزبه أن يدعمه فيصوت للبقاء ولكانت النتيجة تكون لصالح البقاء بقوة، ولكنه تركه ينقسم على نفسه في التصويت لأن المقصود ليس حصول أغلبية للخروج أو البقاء بقدر ما هو كما ذكرنا آنفاً... ويُرجِّح ذلك أيضاً ما ظهر على متزعم حملة الخروج جونسون فلو كان جاداً فعلاً في حملته وقد جاء الاستفتاء بالخروج، لو كان جاداً لظهر ذلك في تصريحاته بأن تستمر كما كانت في حملته قبل الاستفتاء ضد الاتحاد لكن نبرة تصريحاته اختلفت وأصبحت أقرب لسياسة البقاء! فقد قال جونسون في خطاب الاثنين بعد نتيجة الاستفتاء إن المملكة المتحدة "جزء من أوروبا" وإن التعاون مع الدول المجاورة "سيتكثف"، ولفت إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد "لن يتم بتسرّع" (http://www.almodon.com/arabworld/2016/6/28/)، بل إن شريكه في حملة الخروج نايجل فاراج زعيم حزب الاستقلال البريطاني الذي انشق عن حزب المحافظين سابقاً، وقد كان أكبر مؤيد لترك بريطانيا للاتحاد الأوروبي، في أول خطاب له في البرلمان الأوروبي بعد الاستفتاء قال: "لماذا لا نكبر ولا نكون عمليين وعقلانيين وواقعيين، دعونا نتوصل فيما بيننا إلى صفقة معقولة من الإعفاء الجمركي، وبعد ذلك تدركون أن المملكة المتحدة سوف تكون صديقتكم، وأننا سنتاجر معكم، ونتعاون معكم، ونكون أفضل أصدقائكم في العالم. دعونا نفعل ذلك بعقلانية، واسمحوا لنا أن ننطلق لمتابعة طموحاتنا العالمية والمستقبل" (التليغراف، 28 حزيران/يونيو 2016)، ما يدل على أن ما كان يخطط له حزب المحافظين بشقيه المؤيد للخروج والمؤيد للبقاء هو ليس الخروج أو البقاء بقدر ما هو إيجاد حالة ضغط على الاتحاد للتفاوض على مزيد من التنازلات بأن تكون نتيجة الاستفتاء غير حاسمة كأن تكون متساوية فتكون بين أخذ ورد لتكون مجالاً للإعادة أو تتخذ هذه النتائج مجالاً للتفاوض من جديد مع الاتحاد.

 لكن حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر فجاءت النتيجة بأغلبية 52% للخروج وهنا كانت الصدمة! فبريطانيا تريد أن تبقى في الاتحاد تستفيد من مزاياه وبخاصة الاقتصادية، وفي الوقت نفسه دون الانضباط بقوانينه! ولذلك فطوال مسيرتها في الاتحاد وهي (تشاغب) عليه فتهدد بالاستفتاء والمماطلة والاعتراض وخلق المشاكل، وكان كثير من مناوراتها يكلل بالنجاح... لكنها هذه المرة لم تسلم الجرة! إن بريطانيا لا تستطيع الخروج الفعلي من الاتحاد بقطع العلاقة معه لأنها حينذاك تقترب من الوفاة... وفي الوقت نفسه فهي تتغنى برأي الأغلبية التي هي حسب الاستفتاء توجب الخروج... ولذلك هي في حيص بيص وقد وقعت في شر أعمالها!

 2- عمَّت الصدمة بريطانيا وأوروبا، بل وتجاوزتهما، بنتيجة الاستفتاء البريطاني "Brexit" المنعقد يوم الخميس 2016/6/23 بعد أن كانت استطلاعات الرأي تشير إلى موافقة الناخبين في بريطانيا على البقاء في الاتحاد الأوروبي، ومع أن نتيجة الاستفتاء كان لها تأثير عنيف تجاوز بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي نفسه وغيره، ولكن الأثر الأكبر كان في بريطانيا اقتصادياً وسياسياً:

- أما اقتصادياً، فقد اهتزت الثقة ببريطانيا وباقتصادها بعد دقائق من إعلان النتيجة، حيث هوت قيمة الإسترليني أمام الدولار 10% وأمام اليورو 7%. وقد وقعت هزات في الأسواق المالية الأوروبية والآسيوية، حيث ذكرت رويترز في 2016/06/28 أن "نتيجة الاستفتاء. قادت لمحو ثلاثة ترليونات دولار من قيمة الأسهم العالمية وما زالت التداولات تتسم بالتقلب حتى مع تعهد واضعي السياسات بحماية اقتصادتهم". فدفعت بريطانيا محافظ بنك إنجلترا المركزي ليقوم بتهدئة الوضع بالقول "بوجود سيولة كافية بقيمة 250 مليار جنيه إسترليني وإنه لن يتردد في اتخاذ إجراءات استثنائية قصوى" (بي بي سي، 2016/6/24)، وقد خفضت الوكالات العالمية للتصنيف الائتماني "ستاندرز آند بورز" و "موديز" و "فيتش" تصنيف الدين البريطاني، فنشرت بيانات ورد فيها: "إن درجة الدين البريطاني خفضت من "ايه ايه ايه" وهي الأفضل إلى درجة "ايه ايه"، أي خفضت إلى درجتين... وهذه أول مرة تحدث لبريطانيا، وأشارت هذه الوكالات إلى أن "عدم اليقين الذي سيلي نتيجة الاستفتاء سيؤدي إلى تباطؤ كبير في الأمد القصير... وأجواء سياسية لا تسمح بالتكهن بتطوراتها وأقل استقرارا وأقل فاعلية... وإمكانية إجراء استفتاء على استقلال اسكتلندا" (أ ف ب، 2016/6/27)، وقد حذر صندوق النقد الدولي من انخفاض حاد في أسعار العقارات. وأما وزارة الخزانة البريطانية فقالت إن "أسعار العقارات قد تنخفض بنسبة تتراوح بين 10% إلى 18% مقارنة بما كانت الأسعار ستصل إليه خلال العامين التاليين" (بي بي سي، 2016/6/24)، وأعلن وزير المالية البريطاني جورج أوزبون "الذي قوبلت محاولاته لتهدئة الأسواق بآذان صماء أنه سيضطر لخفض الإنفاق وزيادة الضرائب لضمان تحقيق الاستقرار المالي. وقد أعلنت الشركات تجميد التعيينات الجديدة واحتمال الاستغناء عن موظفين ما حطم آمال الناخبين أن يزدهر الاقتصاد البريطاني خارج الاتحاد الأوروبي" (رويترز، 2016/6/28)، وأعلنت على الفور بعض الشركات عن خطط عاجلة لنقل فروعها من لندن إلى مدن أخرى داخل الاتحاد الأوروبي، وهبط مؤشر فاينانشال تايمز بأكثر من 8% فور الافتتاح، "وهي أكبر خسارة له في يوم واحد منذ 2008" (الجزيرة نت، 2016/6/24).

 كل هذا يعني أن بريطانيا قد تضررت من نتيجة الاستفتاء، وهذا مؤشر سوء لها إذا هي خرجت من الاتحاد نهائيا، وهي تعاني أصلا من تداعيات الأزمة المالية التي تفجرت عام 2008. وهي تستفيد الاستفادة الكبرى من الاتحاد الأوروبي حيث ذكرنا ذلك في جواب سؤال 2016/5/2: "تستفيد بريطانيا أيضا اقتصاديا من الاتحاد الأوروبي، وهذا يفيد شركاتها ونخبتها الغنية، فاقتصاد بريطانيا تسيطر عليه الخدمات؛ والخدمة الرئيسية في بريطانيا هي الخدمات المالية. إن بريطانيا تصدّر القليل من السلع، ولكنها تعتمد على الخدمات المالية من أجل الدخل، ورأس المال والعملات الأجنبية. كما أن سوق الاتحاد الأوروبي الموحّد يعني أنه يمكن لبريطانيا أن تصدّر بدون قيود تجارية إلى كلّ أوروبا، مما يفيد الشركات الكبرى والنخبة الغنية. لذا فتركها للاتحاد الأوروبي يُفقدها هذا الموقع ويؤدي إلى مشاكل سياسية في البلاد. ولأن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الرئيس لبريطانيا، فإن تركها للاتحاد بينما هي دولة أوروبية يضعف موقعها في أوروبا... هذا بالإضافة إلى أنها في هذه الحالة ستحتاج إلى تحدّي الاتحاد الأوروبي من خارجه وهذا يضعف تأثيرها في الاتحاد. أما تأثيرها فيه وهي في داخله فهو تأثير أقوى وأشد فاعلية..." وقلنا في جواب السؤال نفسه: "وفي آذار/مارس 2015 فازت المملكة المتحدة في دعوى قضائية ضد البنك المركزي الأوروبي في محكمة العدل الأوروبية، حيث حاول البنك المركزي الأوروبي نقل وظيفة مقاصة معاملات منطقة اليورو إلى داخل الاتحاد، وكان يمكن لمثل هذه الخطوة أن تستبعد لندن، بينما تكون باريس وفرانكفورت أكثر جاذبية كمراكز مالية، ما من شأنه أن يضعف الموقف الاقتصادي في بريطانيا..."، فإذا أضيف هذا إلى ما نتج عن تسريبات وثائق بنما من تخفيض للملاذات البريطانية كما وضحناه في جواب السؤال عن وثائق بنما المؤرخ في 2016/05/05م... فإن كل ذلك يجعل بريطانيا باستفتاء الخروج من الاتحاد، يجعلها كمن يطلق النار على قدميه! وإذا نفذ الخروج فعلاً فستفقد بريطانيا ميزة كون لندن مركزاً مالياً وتكون فرانكفورت خاصة وهي العاصمة المالية للاتحاد أكثر جاذبية من لندن كمركز مالي، وهكذا تكون خسائر بريطانيا فادحة وكارثية.

 - أما سياسياً، فقد أحدث استفتاء بريطانيا أثراً بالغاً في تماسك شعوب بريطانيا نفسها، فقد صوت شعب اسكتلندا بشكل حاسم للبقاء في الاتحاد الأوروبي، وكذلك أيرلندا الشمالية، والآن تطالب هذه الشعوب باستفتاء حول بقائها في بريطانيا، أي أن وحدة بريطانيا نفسها قد صارت محل شك، وهذا لم تخطط له بريطانيا، فقد كان من أبرز إنجازات كاميرون الداخلية نجاحه في منع خروج اسكتلندا عن بريطانيا في استفتاء 2014، وظنت بريطانيا أن موضوع اسكتلندا قد أقفل لفترة طويلة، لكنه وبعد استفتاء بريطانيا 2016/6/23 قد عاد إلى الواجهة بشكل قوي، فرئيسة وزراء اسكتلندا ستروجون قد صرحت وفور بروز نتيجة الاستفتاء، بأن الظروف قد تغيرت بعد استفتاء 2014 عندما صوت الاسكتلنديون لصالح البقاء في بريطانيا، وأن اسكتلندا ستبادر بمفاوضة الاتحاد الأوروبي بشأن بقائها داخل الاتحاد، وهذا يصعب تحقيقه دون أن تستقل عن بريطانيا. فقد "أعلنت نيكولا سترجون رئيسة الوزراء الأسكتلندية الأحد أن "المملكة المتحدة التي صوتت اسكتلندا في 2014 للبقاء فيها لم تعد موجودة"، مشيرة إلى أن من "المرجح جدا" إجراء استفتاء جديد بعدما صوت البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي". (ميدل إيست أونلاين، 2016/6/26). أما أيرلندا الشمالية، وهي الخاصرة الأكثر ضعفاً لبريطانيا فقد "دعا حزب الشين فين، الذي يعتبر بمثابة الواجهة السياسية للجيش الجمهوري الأيرلندي، صباح الجمعة إلى استفتاء حول أيرلندا موحدة. وجاءت هذه الدعوة بعد تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي، وفق النتائج النهائية. وأكد الحزب الجمهوري أن الاستفتاء حول الاتحاد الأوروبي "له عواقب هائلة على طبيعة الدولة البريطانية" (فرانس 24، 2016/6/25)... وهكذا فإن استفتاء بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي قد جعل تفكك بريطانيا حديث السياسيين من جديد في أيرلندا الشمالية، وكذلك في استكتلندا.

وعليه فإن نتائج هذا الاستفتاء قد أوجدت ضغوطاً تهدد بتفكيك بريطانيا، وكذلك الخسائر الاقتصادية المرجحة، كل ذلك يؤكد أن رياح الاستفتاء قد جاءت ضد ما تشتهيه بريطانيا، وأنها - أي بريطانيا - قد وقعت بنفسها في فخ مكائدها، وأصبحت ضحيةً لثقتها بدهائها، فقد أظهرت الأيام منذ التصويت مشاهد من الارتباك السياسي غير المسبوق في التاريخ السياسي الحديث لبريطانيا إلى جانب حالة اضطراب شديدة طالت الحكومة والمعارضة لدرجة أن عنونت صحيفة نيويورك تايمز، الاثنين 2016/6/27: "بلد مشهور باستقلاله السياسي والقانوني ينحدر نحو الفوضى". وذلك تعليقاً على ما تعانيه بريطانيا بعد الاستفتاء!

 3- ولذلك فإن المتوقع أن تماطل بريطانيا بقوة في تنفيذ الخروج في فترة قريبة بل قد تطول إلى سنوات، هذا إذا خرجت وهي ماهرة في الخبث والخداع... وما ظهر وبان من تصريحات... وما تناقلته وسائل الإعلام من تعليقات... كل ذلك يُرجِّح هذه المماطلة في تنفيذ الاستفتاء بل أكثر من ذلك مثل اللف والدوران حول الاستفتاء نفسه، وما يرجح هذه المماطلة واللف والدوران الأمور التالية:

 
أ- نصوص المادة 50 من معاهدة لشبونة الموقعة عام 2007 تعطي مجالاً للمراوغة والمماطلة اللتين تتقنهما بريطانيا من خلال خبثها السياسي ودهائها، فإن هذه المادة تنص على أنه من أجل الشروع في إجراءات الانسحاب، على بريطانيا إبلاغ المجلس الأوروبي المؤلف من رؤساء دول وحكومات البلدان الأعضاء بنيتها الخروج من الاتحاد، وأن تتفاوض بعد ذلك على مدى سنتين كحد أقصى في "اتفاق انسحاب". وقد قال كاميرون أمام البرلمان البريطاني: "إن الحكومة لن تبدأ مفاوضات الخروج من الاتحاد في المرحلة الحالية. وإن البلاد يجب أن تحدد أولا نوع العلاقة التي نريدها مع الاتحاد الأوروبي قبل تطبيق المادة الخمسين من معاهدة لشبونة". (بنا، 2016/6/27)، وقال كاميرون في كلمة له في مجلس العموم... مشددا على أن بريطانيا هي وحدها من يقرر متى تبدأ إجراءات الخروج، قائلا "إن الحكومة البريطانية لن تُفعّل الآن المادة الـ 50 من المعاهدة الأوروبية المتعقلة بخروج الدول من الاتحاد" (الجزيرة نت، 2016/6/27). وهكذا فيمكن إطالة أمد تقديم طلب بريطانيا للخروج حتى تبدأ المفاوضات! ليس هذا فحسب بل إن كاميرون جعل استقالته ليست فورية بل بعد نحو ثلاثة أشهر وتشكيل حكومة جديدة ثم هي التي تقدم الطلب إذا شاءت، أي أن المفاوضات موكولة إلى رئيس وزراء جديد يخلف كاميرون في أيلول 2016م حيث يجتمع حزب المحافظين لاختيار زعيم جديد للحزب، وقد ذكر كاميرون هذا الأمر صراحة في خطابه بعد إعلان نتائج الاستفتاء حيث قال إنه سيستقيل من منصبه في تشرين أول/أكتوبر وسيترك الأمر لخلفه كي يقرر متى تنفيذ المادة 50 (http://elaph.com/Web/News/2016/6/1096000) وكذلك فقد "أكد وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن أنه لن يتم إجراء مفاوضات بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قبل تشكيل حكومة جديدة" (الجزيرة نت، 2016/6/27)... هذا وقد أوضح أحد المعلقين القانونيين: "والحقيقة هي أنه كلما تأخر الإخطار بالمادة 50، زادت فرصة عدم تفعيلها على الإطلاق. وذلك لأنه كلما طال التأخير، فعلى الأرجح أن أحداثاً سوف تتدخل، أو أعذاراً ستفتعل." (لماذا الإخطار بالمادة 50 مهم، ديفيد ألين جرين، 25 حزيران/يونيو 2016)، ولهذا فقد رأى دبلوماسيان أوروبيان أن بريطانيا قد لا تباشر أبدا آلية خروجها من الاتحاد الأوروبي بالرغم من تصويت البريطانيين على ذلك في الاستفتاء الذي جرى الخميس. وقال الدبلوماسي طالبا عدم كشف اسمه: "اعتقادي الشخصي هو أنهم لن يُبلغوا أبدا الاتحاد الأوروبي بنيتهم الخروج منه" وأضاف الدبلوماسي: "نريد من لندن أن تباشر المادة 50 الآن، حتى تتضح الأمور. وبما أنه لا يمكننا إرغامهم على ذلك، أتوقع بالتالي أن يأخذوا وقتهم". وأضاف: "لا أستبعد، وهذا اعتقادي الشخصي، ألا يفعلوا أبدا" [Arabi 21، 2016/6/27].

 ب- وحتى موضوع الاستفتاء نفسه فيمكن اللف والدوران حوله كأن يبحث عن مداخل قانونية لإعادته أو للتفاوض حول شروطه، وهو وإن كان العمل على إعادة الاستفتاء أمراً محرجاً لدولة تعد نفسها ديمقراطية عريقة وأنها لا تخالف رأي الشعب إلا أنه لن يعجز دهاء السياسة البريطانية وخبثها عن إيجاد مخارج، ومما يوحي بذلك:

 أ- هناك عريضة إلكترونية لجمع تواقيع الذي يرغبون في الإعادة "جمعت عريضة على موقع البرلمان البريطاني تطالب بإعادة إجراء استفتاء خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، جمعت 3.8 مليون توقيع حتى يوم 2016/6/28 يطالبون بإعادة الاستفتاء، وتنص العريضة التي أطلقها ويليام أوليفر هيلي، أن "الموقعين أدناه يطالبون حكومة سمو الملكة لتنفيذ قاعدة أنه إذا جاء تصويت الخروج أو البقاء أقل من 60% بناء على إقبال أقل من 75% من الناخبين، ينبغي أن يتم إجراء استفتاء آخر". (نقلاً عن صحيفة تلجراف البريطانية 2016/6/27).

ب- وعلى اعتبار أن إعادة الاستفتاء من شأنها أن تهز الديمقراطية التي تتغنى بها بريطانيا... فقد بدأ بعض المتخصصين الإنجليز في القانون يذكرون مخارج أخرى بقولهم إن البرلمان (مجلس العموم ومجلس اللوردات) يمكنه منع رئيس الوزراء من إعطاء إخطار للاتحاد الأوروبي، فقد قال اللورد بانيك كيو سي (متخصص مشهور في القانون العام): "بدون تشريع من البرلمان فإنه لا يمكن لرئيس الوزراء أن يعطي الاتحاد الإخطار بشكل قانوني" (http://www.bbc.com/news/uk-politics-uk-leaves-the-eu-36671629)

ج- وهناك عامل خارجي يهمه بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي لإضعافه، ولتبقى داخله بؤرة توتر، وهذا العامل الخارجي هو أمريكا، "وكان أوباما زار لندن في نيسان/أبريل الماضي، وحث البريطانيين على التصويت لصالح البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي." (الجزيرة، 2016/06/24). لأن أمريكا كانت راغبة ببقاء بريطانيا في الاتحاد حتى يبقى اتحادا هشا، فأمريكا تدرك أن بريطانيا لا تعمل لصالح الاتحاد ولا للوحدة الأوروبية، وهي تعرقل ذلك، وتشوش على كثير من القرارات، ولا تفكر إلا في مصلحتها، فهي معول هدم. وكل ذلك يصب في مصلحة أمريكا التي لا تريد أن ترى أوروبا موحدة قوية تتحداها أو تنافسها في الساحة العالمية اقتصاديا أو سياسيا، وإذا نتج عن خروج بريطانيا تفكك الاتحاد فذلك في صالح أمريكا... ولذلك فبعدما ظهرت النتيجة بالخروج أرسل أوباما وزير خارجيته جون كيري إلى أوروبا للتوسط بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وليخفف من ردات الفعل الأوروبية تجاه بريطانيا، وعندما وصل كيري بروكسل يوم 2016/6/27 قال: "إنه أمر أساسي أن نبقى مركزين في هذه المرحلة الانتقالية حتى لا يفقد أحد صوابه ويتحرك بلا تفكير"، وبعد اجتماعه مع كاميرون في لندن صرح كيري قائلا: "إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ربما لا يتحقق أبدا، وإن لندن ليست في عجلة من أمرها لذلك، وإن كاميرون يشعر بأنه غير قادر على التفاوض حول خروج البلاد الذي لم يكن يريده أصلا... وإن كاميرون لا يريد تطبيق المادة 50 من معاهدة لشبونة والتي ستطلق آلية الخروج التي ستستمر نحو عامين... وأوضح كيري أن لندن لا تريد أن تجد نفسها خارج أوروبا بعد عامين قبل أن توقع على اتفاق تعاون جديد... ولدى سؤاله حول ما إذا كان بالإمكان "التراجع" عن قرار الخروج وكيفية القيام بذلك أجاب كيري "أعتقد أن هناك طرقاً عدة". (فرانس 24 في 2016/6/29م).

 هذا العامل الخارجي قد يساهم في إيجاد مدخل لعلاقة ما من جديد بين بريطانيا والاتحاد، ففي هذا مصلحة لأمريكا كما بيناه آنفاً.

4- ويبدو أن الاتحاد الأوروبي أصبح يدرك ألاعيب بريطانيا، فهي تريد إبرام اتفاق غير رسمي لحماية مصالحها على أساس النموذج النرويجي والسويدي قبل اللجوء إلى العمل بالمادة (50) من معاهدة لشبونة لبدء إجراءات الانفصال. ولكن على عكس النرويج والسويد، فإن بريطانيا تريد الوصول إلى السوق الأوروبية وتعارض حرية تنقل الأشخاص، التي هي قضية رئيسية بين الناخبين البريطانيين، وقد استبعدت ميركل ذلك بشكل قاطع، كما أن حرية تنقل الأشخاص هي واحدة من الحريات التي يقدسها الاتحاد الأوروبي، إلى جانب حرية تبادل السلع والخدمات ورأس المال. ويدرك الاتحاد الأوروبي الدهاء البريطاني، فلم يرفض هذه الفكرة فحسب، بل وحظر أيضًا أية محادثات سرية بين أي من الدول الأعضاء الـ 27 وبريطانيا، فقال رئيس المفوضية الأوروبية (جان كلود يونكر): "دعوني أكون واضحًا جدًا، لا يمكن إجراء محاولات سرية مع الحكومة البريطانية"، وقد جعل الأمر واضحًا جدًا لجميع موظفي المفوضية واللجان، فقال: "لا يُسمح بعقد مفاوضات سرية... لا يُسمح بعقد مفاوضات سرية" (Evening standard، 2016/06/28).

 واجتمع البرلمان الأوروبي يوم 2016/6/28 لتستمر جلساته على مدى يومين، فكان من أولى طلباته أن تقوم بريطانيا بتفعيل آلية انسحابها من الاتحاد الأوروبي فورا وفق معاهدة لشبونة لتجنب أي شك قد يكون مسيئا ولحماية وحدة الاتحاد كما ذكر. وقال جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية أمام البرلمان الأوروبي: "لا يمكننا البقاء في الغموض لفترة طويلة، أريد أن توضح المملكة المتحدة موقفها فورا وليس غدا ولا بعد غد"، واستبعد أي مفاوضات سرية حول شروط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو أن تحدد لندن الجدول الزمني لها قائلا: "نحن من يقرر جدول الأعمال وليس من يريد الخروج من الاتحاد الأوروبي". (أ ف ب الجزيرة، 2016/6/28)، وجاء كاميرون إلى بروكسل ليحضر جلسة الاتحاد الأوروبي الأولى ومن ثم يغادرها حيث صرح: "آمل فعلا أن نقيم علاقات وثيقة إلى أقصى حد على صعيد التجارة والتعاون في الشؤون الأمنية لأنه أمر جيد إلينا". (د ب أ، 2016/6/28)، أي أنه لا يريد الاتحاد الأوروبي وإنما ينتقي ما يلزم لبريطانيا وهو التعاون الاقتصادي والأمني. وقد وجهت المستشارة الألمانية ميركل رسالة واضحة إلى لندن قائلة: "إن بريطانيا لا يمكنها بعد استفتاء الخروج انتقاء الاحتفاظ بامتيازاتها وفي الوقت ذاته التخلي عن كل واجباتها" (د ب أ، 2016/6/28)... أي أن الأوروبيين حسموا أمرهم مع بريطانيا ويريدونها أن تنسحب بسرعة قبل أن يتضرروا من جراء انسحابها ومماطلتها في الانسحاب.

 وفي ختام القمة أعلن رئيس المجلس الأوروبي دونالد توساك أن "القادة الأوروبيين قالوا بوضوح الأربعاء للمملكة المتحدة إنه لا يمكنها التفاوض على دخول السوق الأوروبية المشتركة الموحدة كما يحلو لها بعد خروجها من الاتحاد أي دون أن تقبل بحرية تنقل الأشخاص... ولن تكون هناك سوق موحدة على المقاس". وأضاف أن المباحثات الأولى بعد قرار بريطانيا مغادرة الاتحاد والتي جرت في بروكسل لم تسهم في التوصل إلى نتائج، لهذا قررنا عقد اجتماع تشاوري للدول السبع والعشرين وسنلتقي في 16 أيلول في برتيسلافا (عاصمة سلوفاكيا) لمتابعة مناقشاتنا... وقال: "اتفق المشاركون على أننا نمر في لحظة جدية في تاريخنا المشترك... وقد انبثقت عن حوارنا مسألة واحدة واضحة: القادة مصممون بالمطلق على البقاء متحدين" (أ ف ب، 2016/6/29).

 وهذا لا يعني أن الاتحاد الأوروبي لم يتأثر سلباً بنتيجة الاستفتاء حتى وإن كان ذلك التأثير ليس بالخطورة نفسها التي تسببت لبريطانيا، بل إن الاتحاد الأوروبي قد تأثر، فقد فتح باباً في دوله لطلب استفتاءات... فقد تقدمت الكثير من القوى اليمينية لحكوماتها بطلبات استفتاء مماثلة، بما ذلك في فرنسا، النواة الأولى للاتحاد الأوروبي وفي الوقت ذاته أحصت المفوضية الأوروبية 32 طلباً من أحزاب أوروبية لاستفتاءات مماثلة في عدة دول أوروبية بما فيها فرنسا، بشكل يهدد بقاء الاتحاد الأوروبي برمته... وقد تحركت الدول المؤسسة للاتحاد وخاصة فرنسا وألمانيا الدولتان الكبيرتان صاحبتا التأثير الأكبر وأعلنتا تصميمها على بقاء الاتحاد وحركتا بجانبهما إيطاليا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبرغ كدول مؤسسة لعقد اجتماع طارئ... وقال الرئيس الفرنسي أولاند عقب الاجتماع إن "خروج بريطانيا من الاتحاد يشكل تحديا لأوروبا" وأبدى "أسفه الكبير لهذا الخيار المؤلم" وقال: "إن تصويت البريطانيين من أجل الخروج من الاتحاد يضع أوروبا في مواجهة اختبار خطير، إذ لا يمكنها الاستمرار كما كانت من قبل... عليها أن تبدي تضامنها وقوتها...". (أ ف ب، 2016/6/24)... وكذلك فعلت ألمانيا العضو المؤسس الثاني، فقد عبرت مستشارتها ميركل عن الموقف بقولها إن: "خروج بريطانيا ضربة موجعة موجهة إلى أوروبا وإلى آلية توحيد أوروبا"، ودعت كلا من الرئيس الفرنسي أولاند ورئيس وزراء إيطاليا رينزي ورئيس المجلس الأوروبي توسك إلى عقد اجتماع في برلين يوم الاثنين (2016/6/27) وقالت: "التبعات ستتوقف علينا نحن الأعضاء الـ 27 في الاتحاد الأوروبي أن نثبت أننا راغبون وقادرون على أخذ استنتاجات سريعة وبسيطة من الاستفتاء وهو من شأنه أن يؤدي إلى انقسام أوروبا بشكل أكبر... اليوم هو نقطة تحول لأوروبا وللاتحاد الأوروبي والتعاون الأوروبي، على دول الاتحاد أن تحلل الوضع وتقيمه بهدوء وحذر قبل أن نتخذ القرارات الصحيحة معا". (أ ف ب، 2016/6/24)، وقال وزير خارجيتها شتاينماير عقب إعلان نتيجة الاستفتاء على قناة زد دي إف الألمانية: "إن الحكومة البريطانية لعبت بالمصير الأوروبي وخسرت". فبات الألمان يدركون الخبث الإنجليزي ونتائجه السيئة. فقد كشف وزير الخارجية الألماني حقيقة بريطانيا بأنها لعبت بمصير الاتحاد الأوروبي ولا تريد له البقاء سليما قويا، وهو من أكثر السياسين الألمان وعيا على بريطانيا ولا يريدها أن تبقى في الاتحاد لأنه يدرك حقيقتها أنها معول هدم.

وجاء اجتماع قادة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا في برلين يوم 2016/6/27 ليؤكد إصرارهم على بقاء الاتحاد الأوروبي متماسكا، فعارضوا أية مفاوضات مع بريطانيا حول ما بعد مرحلة خروجها من الاتحاد الأوروبي طالما لم تقدم لندن رسميا طلب الانسحاب حتى يضغطوا عليها وتقدم طلب الانسحاب لا أن تبقى المسألة معلقة، فذلك له أضراره على الاتحاد. فقالت ميركل "إننا متفقون على أنه لن تحصل مفاوضات رسمية أو غير رسمية حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي طالما لم يتم تقديم طلب خروج من الاتحاد الأوروبي على مستوى المجلس الأوروبي" (د ب أ، 2016/6/27).

 ولكنهم مع ذلك يدركون أن ألاعيب بريطانيا ومناوراتها هي السبب، ولذلك المشكلة عندهم تتوقف على استطاعتهم أن يستمروا في اتحادهم ويتفادوا مناورات بريطانيا وهي أقدر منهم على الألاعيب السياسية... على كل، إذا تمكن الأوروبيون من التخلص من بريطانيا سريعا، وعملوا على اتخاذ إجراءات جديدة لتقوية الاتحاد، فإن ذلك سيكون أفضل لهم، ولكن بريطانيا إن لم تستطع إيجاد علاقة مع الاتحاد الأوروبي فسوف تعمل من الخارج على خلخلة الاتحاد. إلا أنها أصبحت تواجه وضعا مصيريا بسبب الوضع الاقتصادي الحالك والتي ظهرت عوارضه السيئة عليها، وكذلك إذا تخلخل وضعها الداخلي حيث طالبت اسكتلندا بإجراء استفتاء جديد للخروج من الاتحاد البريطاني، وطالبت أيرلندا بالخروج من الاتحاد البريطاني والانضمام إلى أيرلندا الجنوبية، فإذا تحقق مثل ذلك فقد انتهت بريطانيا حيث ستضم مقاطعتي إنجلترا وويلز فقط. وهكذا فقد كان إجراء الاستفتاء رهاناً خاسراً لبريطانيا، وقد يحيق مكرها السيئ بها كما ظهر حتى الآن وكما يتراءى في المستقبل بناء على المعطيات الواردة أعلاه، وإذا بقي الاتحاد الأوروبي واعياً على ألاعيب بريطانيا فقد يصدق فيها قول القائل بأنها "تصبح كجزيرة هونغ كونغ إحدى مستعمراتها القديمة ولكن على الساحل الغربي من أوروبا وليس على الساحل الجنوبي من الصين"!

 5- وبالمجمل فإن بريطانيا قد غدت في حالة من الارتباك الكبير، وفي وضع لم تخطط له، وليس سهلاً عليها أن تتخذ القرار، فالتراجع عن الاستفتاء فيه ما فيه من العقبات القانونية، والاستهانة بالديمقراطية التي يتغنون بها، وإكمال مسيرة الخروج فيه ما فيه من الإضرار بمصالح بريطانيا، فعصر الاستثناءات لبريطانيا قد يكون قد ولى، فقد قال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر "يتعين على من يرغب في أن يكون جزءا من السوق الأوروبية الموحدة الالتزام بقواعدها الصارمة دون استثناء". (بي بي سي، 2016/6/29). وأمام كل ذلك كان من الطبيعي أن تلجأ بريطانيا إلى المماطلة، ورفض تقديم طلب الخروج، عسى أن تسعفها الشهور القادمة بمخرج يحفظ لها القدر الأكبر من مصالحها.

 وأما إن وجدت بريطانيا نفسها تدفع في طريق الخروج الحتمي، ودون أية علاقة بالاتحاد سياسية كانت أو اقتصادية، ومن ثم تجد نفسها في طريق الانكماش الاقتصادي والتفكك السياسي، فعلى الأرجح أنها ستعمل بوسائلها القذرة على تفكيك الاتحاد الأوروبي وقد تستجيب لها بعض الدول الأوروبية ذات العلاقات التقليدية "الولاء" معها، فقد ذكر زعيم حزب الاستقلال البريطاني فاراج في 2016/6/28 أثناء مشادة في البرلمان الأوروبي في بروكسل بأن "بريطانيا لن تكون آخر من يخرج من الاتحاد" ملمحاً إلى أن بريطانيا عند خروجها سيتبعها غيرها... وقد تجد عوناً في التفكيك من أمريكا لأن مصالح بريطانيا تلتقي في ذلك تماماً مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.

 

وهكذا يمكن القول بأن استفتاء "Brexit" قد جاء بنتائج عكس ما خططت له بريطانيا، وأوجد أجواء من الضبابية، والانفتاح على كافة الاحتمالات، وقد تلتف بريطانيا على الاستفتاء، فتلعق ديمقراطيتها، ولكنه في الوقت نفسه يحتوي قدراً غير بسيط من الخطورة، بما يمكنه أن يتطور ليصير معول هدم لبريطانيا قبل أوروبا، وصدق الله العزيز الحكيم ﴿وَلَايَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾.

 30 من رمضان 1437هـ

2016/07/05م

للمزيد من التفاصيل