المشروع الوطني الاستثماري

د. ماهر الجعبري*

 

سؤال مطروح على مؤتمر حركة فتح: ما هو المشروع الوطني؟ سؤال قد يعتبره البعض استفهاميّا وقد يعتبره البعض الآخر استنكاريّا، لكن من الأكيد أن الساسة والقادة وبعض أبواقهم الإعلامية سيتعبرونه استفزازيّا ... وبغض النظر عن الوجه الإعرابي لهذا السؤال، فإنني أدّعي أنني لا أرى أن هنالك مشروعا –وطنيا أو غير وطني- تطرحه الفصائل الفلسطينية -مجتمعة أو متفرّقة- حتى نبحث له عن موقع في الإعراب! وفي كل الأحوال، يمكن للقادة –وخصوصا ذوي الأحاسيس المرهفة- أن يلجأوا إلى حلف اليمين إذا لم يستطيعوا رد بيّنتي هذه ببينة من عندهم، تجنّبا لموقف محرج مؤلم.

فالمشروع في لغة الإدارة يقوم على مجموعة من الأهداف يتم تحديدها، وتصمم النشاطات فيه ضمن خطة تنفيذية تتضمن خطوات عملية تؤدي لتحقيق غاية عامة يستهدفها المشروع وتوصل لإنجاز رؤية جديدة تتمثل على أرض الواقع. وعندما تتطور وثيقة أي مشروع بمزيد من المهنية الإدارية، فلا بد من ربط الخطوات بالأهداف والنتائج بحيث تكون موصلة فعلا، ولا بد من تحديد بعض مؤشرات الإنجاز أو معالم في الطريق تؤكد وتضبط السير حسب الخطة المعدة وتسهم في مراقبة تحقق التقدم. فأيّ من هذه البنود يتوفر في عنوان فضفاض جعله أرباب المشروع الوطني المدّعى مقدسا كآية في كتاب منزل؟

والمشروع في باب السياسة والفكر هو فكرة أساسية، تتضمن تنظيما خاصا ومنسجما لحياة الناس الذين يحملونها (أو يحمّلونها) بحيث تترجم إلى تشريعات وقوانين تنضبط بالفكرة الأساسية تلك، ويسعى القائمون عليها سياسيا لإيجادها عمليا في دولة تطبق تلك الأنظمة وترتقي بالناس (أو تهبط بهم!) وذلك من خلال طريقة معيّنة توصل لتحقيق ذلك. ويرتقي مستوى المشروع السياسي-الفكري (أو الحضاري) بارتقاء الفكرة الأساسية، بأن تكون مثلا عالمية تستهدف الإنسان حيثما كان. فأين هي الفكرة الأساسية الخاصة بذلك المشروع الوطني المدّعى؟ وأين هي الأنظمة والتشريعات المنبثقة عن تلك الفكرة؟ وأين هي الطريقة الموصلة إلى تحقيق ذلك المشروع؟

 

أما المشروع في عالم المال والاتجار، فهو مدفوعات ومقبوضات زائدة، يسمّى الفرق الموجب بينهما ربحا، فما هي المدفوعات في المشروع المدّعى غير مزيد من التنازلات عن الأرض "والثوابت"، وما هي المقبوضات غير معونات أوروبية باليورو مضاف إليها فوائد بالدرهم والريال والدولار؟ فهل تربح الناس عندما تخسر مفاهيمها وأرضها؟

ثم إن لكل مشروع إقتصادي جدوى فنية (أو لِنَقُل واقعية) وجدوى بيئية وجدوى مالية: فهل هنالك مقومات من الواقع تمكّن من تنفيذ هذا المشروع المدّعى بحيث يصبح "حيّا"، لا مجرد كيان خائر - قابل للحياة في غرفة إنعاش؟ هل هنالك أرض أو سماء أو ماء تزود المشروع بالحياة غير ما يتحكّم الاحتلال بمحابسه "وحنفيّاته"؟ أما حول الجدوى البيئية: فأي سمّيّة يمكن أن يزرعها مشروع أكبر من سموم الإحتلال في قلب الأمة الإسلامية وفي أرض إسراء نبيّها صلّى الله عليه وسلّم؟

ومع ذلك فهنالك جدوى مالية تغري المستثمرين، لأنهم يقبضون ثمن ما تدفعه الناس من مبادئ وضنك وحرمان، ولذلك كان طبيعيا أن يدير المشروع نخبة من رجال الأعمال، بعد أن رحل كافة "الثوار"، ولذلك صار حريّا أن نسمى هذا المشروع بالمشروع الوطني الاستثماري.

وباستمرار هذا النهج الاستثماري، فليس من المستغرب أن يسمّى ما يُتمخض عنه "بالشركة الوطنية الفلسطينية"، إذا لم يسمّى حكومة "الشحدة" الوطنية بعد أن تم ربط أمرها بالمعونات التي -تقررها أوروبا وتدير صرفها رجالات أمريكيا- وخصوصا بعدما سحب الساسة ملف القضية عن طاولة الأمة، ووضعوه على طاولة الأمريكان منذ أن أغروهم برؤيتهم العنكبوتية.

أما بعيدا عن المهنية الإدارية والإقتصادية وبعيدا عن العمق السياسي والوعي الفكري، فبكل تأكيد لدينا اليوم في فلسطين مشروع مطبق على أرض الواقع، ولكنه مشروع أطلقه بوش الأب عندما دعا موظّفيه إلى مدريد بعد أن أهان الأمة في العراق، وتبعه في ترتيب تفاصيله إخوانه في أوروبا عندما احتضنوا مجموعة ممن فرضتهم الأنظمة العربية والغربية قادة "للشعب"، فتدابروا في أوسلو، ثم توّج بوش الإبن المشروع بعدما سار على نهج أبيه: فأهان الأمة من جديد في أفغانستان وفي العراق، ثم انبرى للمشروع عندما "مهنن" (من المهنية الإدارية) المشروع بأن وضع له خارطة طريق ... وصاغ له رؤية ... وجنّد له جنرلات عسكرية ترعاه: وجعل البند الأمني (الذي هو أمن الاحتلال بالطبع) غاية أولى وبندا لا يمكن تجاوزه إلى ما سواه إذا لم يتحقق.

فماذا يمكن وصف هذا المشروع الذي اختزلت في إطاره كافة تحركات الفصائل؟ هل يجحف الواصفون في حقه إن أسموه المشروع الأمني؟ وخصوصا في ظل تقديس التهدئة مع الاحتلال، وفي ظل حصر العمل العسكري ضد الاحتلال في توافق مستحيل بين المفاوضين والمقاومين معا، وفي ظل إعفاء جيوش المسلمين من واجبها.

من الممكن أن ينبري بعض الكتّاب "المندفعين" أو المدفوعين للتشكيك بكل مقال يتعدّى على قداسة هذه التركيبة اللغوية، فهذا شأن متوقع في زمن غاب فيه الوعي، ووجهت الناس المحرومة للانقياد حسب المشاعر والدولارات. ولكن هل يمكن لأصحاب عقول تفكّر وأهل أمانة محفوظة في الصدور أن تجيب على السؤال البسيط: ما هو المشروع الوطني؟

فإن لم نجد رؤية وفكرة وأهدافا ونشاطات وخطوات تترابط مع بعضها لتحرير فلسطين، كل فلسطين، وإن لم نتوقف عن إدخال مصطلحات جديدة في قاموس "الثوابت المنهارة"، وإن لم نتوقف عن الحديث عن الأراضي الفلسطينية بدل الحديث عن فلسطين، وإن لم نتوقف عن استجداء التمويل ممن وعد اليهود بوطن وممن رعى وحمى، وإن لم نتوقف عن حماية أمن الاحتلال تحت أي ذريعة، فلا يمكن لقائد ولا فصيل ولا تابع أن يدّعي حينها أن هنالك مشروعا غير مشروع آل بوش ... أو غير المشروع الأمني أو المشروع الوطني الإستثماري للمتنفّذين. ولذلك فلا أقلّ من أن نسمّي الأشياء بمسمّياتها. ومن ثم فلا يمكن الحديث عن أي حكومة سوى "حكومة الشحادين".

والخلاصة أن مصطلح "تحرير الأرض" إذا أضيف لغير السلاح لم يستقم، ولا يمكن إعرابه في ديوان السياسية الشرعية وحتى غير الشرعية، وأما السعي لنيل الحقوق في جحور الذئاب فلا يسمّى إلا انبطاحا واستجداء.

طبعا لا أستغرب أن يندفع بعض الأتباع، وهم يمتعضون من مرارة هذه المكاشفة في حلقوهم التي تورّمت وهم ينشدون للوطن وللشهداء، لا أستغرب منهم أن يهربوا من "حلف اليمين" في رد البيّنة هذه، للقذف والشتم لكل من تسوّل له نفسه التشكيك بصحة إعراب المشروع الوطني، وفي هذه الحالة لا أعتب عليهم، خصوصا إذا تذرّعوا بأنهم أطاعوا سادتهم وكبراءهم، وتربّوا على أن يثقوا بالقادة الأبطال: الذين لا يخطئون حتى وإن أخطأ عمر، ولا يضيّعون السياسة حتى وإن حوّل كاتب الوحي معاوية الخلافة إلى وراثة، فقادتهم –عندهم- طراز آخر غير الصحابة. إذن فليقذفوا وليشتموا بكل مشكك بهذا المشروع الأمني ورعاته ... ولكن ليستعدّ الجميع لأعذار يوم الحشر؟... يوم يتبرّأ الذين اتبعوا من الذين تبعوا ... ويوم تتقطع بهم الأسباب.

*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين