حكومة تهويد وتهديد تعبر عن الوجه الحقيقي للكيان اليهودي

د. ماهر الجعبري

 

"في رؤيتي للسلام يعيش في أرضنا الصغيرة شعبان حرّان جنبا إلى جنب"، هو تصريح سابق (2009) لرئيس وزراء كيان يهود نتنياهو يبسّط فيه الرؤية السياسية المتجانسة مع النظرات التلمودية: فلا مجال لدولتين بل شعبين فوق "أرضهم"، ولا مجال لإنقاص السيادة اليهودية عن كل فلسطين. وهي على النقيض من "حل الدولتين" الأمريكي.

ولذلك فإن الموقف المتجدد بعد تشكيل الحكومة اليهودية الجديدة يقف عند المشهد السابق من تأزم العلاقات اليهودية-الأمريكية بسبب تباين الرؤى السياسية حول مستقبل الحل السياسي: بل إن التصعيد - فوق مستوى التأزم السابق - متوقع مع طبيعة التشكيلة الجديدة التي علت فيها النبرة التلمودية. لأن التحالف اليهودي الحالي عزز التوجهات العدائية عند اليهود، وغلّب الرؤى التوراتية على النظرات السياسية. وإذا كان نتنياهو صاحب رؤية ليكودية توسعية، فإن حكومته الجديدة، هي أكثر انحيازا نحو التمسك التلمودي بالسيطرة اليهودية على فلسطين.

وتلك الرؤى "الدينية" تسهم في مزيد من التحدي للمسلمين، خصوصا في القدس والأقصى، والحكومة الجديدة تضم الحاخامات التي تستهدف تهويد المسجد الأقصى، وفرض السيادة الصهيونية الكاملة عليه، وتضم مجموعة من الوزراء الذين يدعون إلى طرد المسلمين منه، وعلى رأسهم وزيرة القضاء الجديدة شاكيد التي تفتح أمامها فرصة تسخير التشريعات للتهويد، وتضم أيضا أوري أرئيل الناشط في الاقتحام الجماعي للأقصى، وفي أداء الطقوس اليهودية فيه، وكذلك ميري ريغف التي تنشط فيما يسمى إعادة بناء الهيكل وتتحدى العقيدة الإسلامية وتعتدي على رمزية الأذان.

وهذه الحكومة تعيد إنتاج المشهد اليهودي السابق، عندما شكّل نتنياهو حكومته مع ليبرمان المتغطرس، حيث صعّدت نشاطات الاستيطان، ومرّغت أنوف القيادات الفلسطينية بالتراب، وأرغمت عباس على السقوط عن شجرة الرفض للعودة للمفاوضات دون وقف الاستيطان، فسقط وارتطم أنفه بالتراب، في واشنطن (25/9/2009) ولم يتوقف الاستيطان.

وإذا كانت الحكومة السابقة قبل هذا النفس التلمودي قد تجرأت عام 2010 على تحدى عقائد المسلمين واعتبار المسجد الإبراهيمي في الخليل، ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم، ضمن المناطق التراثية اليهودية، فأين يمكن أن تصل هذه الحكومة في التحدي الحضاري-العقائدي والمجابهة الدينية؟!

إذن هذه حكومة "تفخيخ سياسي"، ولذلك هي - في الغالب - غير قابلة للديمومة السياسية، بل تحمل "متفجرات" سياسية قابلة لتصعيد المسرح السياسي، وتدفع لمزيد من التوتير مع الإدارة الأمريكية. ومن ثم فإن أمام أمريكا أن تمارس لعبة "الضغط السياسي"، مع المراهنة على جزرة المعونات الاقتصادية والدعم العسكري. وهي فشلت في ذلك خلال رئاسة أوباما الأولى، فعبّر عن إحباطه.

ولأن آخر العلاج الكي، فمن الممكن أن تحاول أمريكا إسقاط هذه الحكومة وتعمل على خلق أجواء لترجيح كفة حزب العمل، تماما كما فعلت إبان مناكفات نتنياهو مع كلينتون والديمقراطيين، خلال رئاسته الأولى نهاية التسعينات، بعدما فشل كلينتون في ترويض نتنياهو طوال سنوات النصف الثاني من عقد التسعينات. ومن ثم مهدت في حينه لفوز إيهود باراك.

أما نتنياهو فأمامه فرصة المراهنة على حالة البطة العرجاء التي ستدخلها أمريكا قريبا في سنتها الانتخابية القادمة، وهي السنة التي لا تحتمل تحريكاً جوهرياً للملفات السياسية، ويدخل فيها ملف عملية السلام الثلاجة الأمريكية للحفاظ على درجة حرارته دون السماح بتسخينه من قبل الجهات الدولية الأخرى. وهو يراهن أيضا على فرصة فوز الحزب الجمهوري في أمريكا (الذي يلتقي مع الليكود بالدموية العسكرية والعدائية الصارخة).

وفي المقابل، هنالك نوع من التقاء المصالح لجهات أوروبية مع نتنياهو في عرقلة ملف النووي الإيراني، إضافة إلى رغبة الأوروبيين في النفاذ إلى تحريك عملية السلام، ولذلك فإن الباب مفتوح لاستغلال نتنياهو لتلك المصالح الأوروبية في مواجهة الضغوط الأمريكية. وفي هذا السياق يمكن فهم التسريبات الإعلامية حول وجود قنوات تواصل في غزة مع الكيان اليهودي لترتيب الوضع فيها خارج قنوات السلطة الفلسطينية (الأمريكية)، وهو ما يتصل أيضا بعرقلة حكومة التوافق الفلسطينية.

وهذا يعني إعطاء الأوروبيين نافذة للتحرك لتمرير ما يشبه الحلول السياسية خارج الطاولة الأمريكية. ومن المؤشرات على ذلك: علو نبرة الدندنة حول تفعيل مبادرة السلام العربية-التطبيعية، من قبل نتنياهو وقبله وزير خارجيته ليبرمان.

وأيضا في مجال التطبيع مع الأنظمة العربية: إذ من المعروف أن أوروبا حاولت دفع مسار التطبيع بينما ظلت أمريكا تربطه بتقدم مسارات الحل السياسي مع كافة "دول الطوق" حسب مبدأ تلازم المسارات. وهذا الدفع الأوروبي يلتقي مع نظرة نتنياهو حول "السلام الاقتصادي". وفي هذا السياق يمكن استحضار توقيع اتفاقية قناة البحرين (الأحمر-الميت) التطبيعية التي أنجزتها حكومة نتنياهو مع الأردن وكانت السلطة الفلسطينية فيها شاهدة زور بل شريكة في المؤامرة السياسية.

أما السلطة الفلسطينية فهي مفعول به نصّاب بالقضية، وهي دائما جاهزة لتقديم مزيد من التنازلات وهي ملتزمة بالتنسيق الأمني لحد التقديس. بينما تظل الحكومات العربية منشغلة بإراقة دماء المسلمين وفي استغلال الثورات وحرفها.

وخلاصة الموقف استمرار المناورات بين حكومة نتنياهو وإدارة أوباما ولكن مع ضبطها بحدود العلاقة المصلحية، على أساس أن الدولة اليهودية هي قاعدة أمريكية متقدمة، وهي بحاجة لحبل أمريكا، ودعمها السياسي والأمني، وغطائها في المحافل الدولية. أما الأوضاع في القدس فهي مرشحة لتصاعد الاعتداءات الوحشية على المسجد الأقصى، مما يوجب على الأمة الإسلامية أن تستيقظ لحالة العداء الصارخ في هذه الحكومة الجديدة، وتتذكر الغاية من وجود الجيوش والدبابات والطائرات، وتتذاكر من جديد في معنى الجهاد والاستشهاد.

*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

عن الراية