مئوية الأرمن "لطمية" صليبية ضد الخلافة وقيمها

بقلم: الدكتور ماهر الجعبري*

"قُرعت أجراس الكنائس الأرمينية حول العالم" كما تكتب بي بي سي في 24/4/2015، في خبرها "الأرمن يحيون الذكرى المئوية "لمذبحتهم""، وتنقل بي بي سي الرواية الأرمنية-الغربية "وتقول أرمينيا إن حوالي مليون ونصف المليون شخص قتلوا في هذه الأحداث، لكن تركيا تشكك في هذا الرقم". وهكذا جاء سياق مجمل الأخبار الغربية لهذه المناسبة التي يعمل الإعلام الغربي على تضخيمها وتضليل ما جرى فيها، وتفتح بعض المحطات الغربية البث المباشر لفعالياتها كما فعلت الفضائية الفرنسية فرانس 24 صباح الجمعة 24/4/2015.

هي حملة سياسية عالمية تبرز في الإعلام الغربي لتجريم دولة الخلافة العثمانية والنيل من قيمها الإسلامية، وتنقل تصريحات الإدانة والاستنكار على ألسنة كبار ساسة العالم، وتذكّر بأن الرئيس الألماني، وصف الأحداث بأنها "مذبحة"، وتنقل أيضا تصريحات الرئيس الفرنسي والرئيس الأمريكي أوباما، وتبرز استخدام بابا الفاتيكان لوصف "مذبحة".

ويتناسى الجميع السياق التاريخي "لقضية الأرمن" ويضلل حول حقيقة ما جرى عام 1915 وعام 1916، ويتعامون عن أن الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وهي المحركة استعماريا بدوافع رأسمالية غربية، قد أدت إلى مقتل ما يقرب من تسعة ملايين جندي (ناهيك عن الحرب العالمية الثانية التي تضاعفت فيها أعداد القتلى إلى ما يقرب من عشرة أضعاف)، فمن يتحمل وزر تلك الجرائم الإنسانية التي لا يشكك في ضحاياها أحد، غير المبدأ الرأسمالي وتلك القوى الاستعمارية التي تتباكى اليوم - تضليلا - على الأرمن؟

والجريمة السياسية والإعلامية الأكبر أن مجمل الإعلام العربي - وخصوصا المصري - يسير مع تلك النغمة الغربية-الصليبية؛ فمثلا تتجرأ البوابة نيوز في 24/4/2015 على اعتبار "مذبحة الأرمن هي ثاني أكبر «هولوكوست» في العالم"، وتُعنْون اليوم السابع 24/4/2015"جرائم الجيش العثماني وصمة عار في جبين الإنسانية"، وتركز على إحصائية باطلة للقتلى بأنهم "أكثر من ١.٥ مليون مواطن أرميني"، وكذلك كان ما اعتمدته صحيفة الأهرام في 21/4/2015.

ولا ننكر أن هناك صيحات توعية محدودة تصدر عن بعض الكتاب والإعلاميين، من مثل ما نشرته رأي اليوم للكاتب القطري علي الهيل في 24/4/2015 الذي حاول وضع الحدث في سياقه التاريخي،  ودعا "العرب والمسلمين إلى مراجعة تاريخ معركة (جاليبولي) والافتخار حسب مصادر الغرب ...". وبيّن أن طقوس إحياء هذه الذكرى تتوافق مع "الإنزال البحري للحلفاء في شبه جزيرة (جاليبولي) التركية يوم 24/4/1914 خلال الحرب العالمية الأولى".

إذن نحن أمام ذكرى سياسية-حضارية تستلهم التاريخ لترسيخ الواقع المؤلم وتحديد وجهة المستقبل. والحقيقة التاريخية أن الأرمن الذين عاشوا طوال قرون بأمان في دولة الخلافة (كما غيرهم من أهل الذمة)، قد تم استغلالهم من قبل القوى الاستعمارية للنيل من الخلافة، وساهمت البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية في إذكاء المشاعر القومية لديهم (كما عملت في غيرهم). وصحيح أنهم عانوا من سوء الأوضاع كما عانى مسلمون في بقاع أخرى نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية وانشغال دولة الخلافة في صد الهجوم الغربي الصليبي عليها من مختلف الجهات الروسية والفرنسية والبريطانية.

لقد تمرد آلاف الأرمن على الدولة التي يعيشون تحت سلطانها، وحرّكتهم القوى الاستعمارية للمطالبة باستقلالهم، كما حرّكت العرب (فيما يسمّى بالثورة العربية الكبرى)، وتعاون المتمردون مع القوات الروسية وحاربوا ضد الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، ودعموا الجيش الروسي في احتلاله لشرقي الأناضول، وفشلت الدولة العثمانية في التفاهم مع ممثليهم، فاضطرت - كأي دولة - أن تواجه التمرد الداخلي. وارتأت نقل الأرمن من مناطق الحرب إلى داخل الدولة العثمانية، ولم تكن عمليات طرد عرقية خارج حدود الدولة للتخلص من الأرمن، وكان الأمر ليحصل لو كان المتمردون مسلمين، ولا تقلل الدولة الإسلامية من قيمة الروح البشرية لرعاياها (مسلمين أو غير مسلمين)، ولذلك فليس ثمة من استخفاف للقتل في الأرمن.

ولقد ارتكبت العصابات الأرمنية مجازر ضد المدنيين في المناطق التي احتلوها، وكشفت الدراسات التاريخية في الأناضول الشرقية، عن تلك المجازر (وجهات نظر24/4/2015)، وعثرت الأبحاث الحفرية على 185 مقبرة جماعية. ونقلت وكالة الأناضول في 23/4/2015 "الأرشيف العثماني لدى رئاسة الوزراء التركية، يوثّق مقتل قرابة 47 ألف شخصٍ، قتلوا في الفظائع التي ارتكبتها العصابات الأرمنية". وذكرت عمليات جمع وحرق وجهاء في مسجد بواسطة صب الزيت المغلي على أجسادهم، وجمع وحرق "الآلاف من المواطنين في مستودعات التبن وحرقهم، في قرى "قره حمزه"، و"قاترانلي" بمدينة سليم بولاية قارص، وقرية "أودالار"، وقرى أخرى بقضاء مدينة "صاريكاميش".

إذن نحن أمام حقيقة غائبة، في مقابل حضور قوي "للبروباغنادا" والدعاية الباطلة، مستندة بداية إلى وثيقة صادرة عن الخارجية الفرنسية ظهر فيها لأول مرة مصطلح مذابح الأرمن. وهي بالاشتراك بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، المعادية للخلافة العثمانية، وكانت في حالة حرب فعلية معها، وبريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص ذبحتا أراضي الخلافة واقتسمتا تركتها، فكيف تكونان الخصم والحكم، والشاهد على تلك الجرائم المدّعاة؟!

إن هذه الحملة الإعلامية السياسية والإعلامية مشحونة حضاريا وتاريخيا ضد الدولة الإسلامية، إضافة لذلك فإن القوى الأوروبية تستحضر غايات سياسية أخرى منها عرقلة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وربما توريطها مستقبلا في متابعات قضائية عالمية لتعويض الأرمن. ومن هنا كان الموقف الأمريكي في حدود وصف "المأساة الكبرى": الذي ينال من الثقافة الإسلامية ولا يورط حكومة تركيا، لأنه لا يريد وضع مزيد من العراقيل أمام اختراق الحكومة التركية للاتحاد الأوروبي كمصلحة أمريكية.

ومن ثم فإن ردة الفعل التركية مشتتة، ويبدو فيها التوتر والعصبية، وتغيب عنها المبدئية؛ فتركيا تخشى من عرقلة الانضمام للاتحاد الأوروبي ومن إمكانية مطالبتها بالتعويض، وتحصر ردّات فعلها في نواح سياسية عامة، وتتعايش أحيانا مع ذلك الهجوم، وتقبل بوصف "المأساة" لكلا الطرفين، وتطالب بموقف عادل وإنساني، وتتحدث عن حل القضية عبر منظور "الذاكرة العادلة" والتخلي عن النظرة أحادية الجانب إلى التاريخ (حسب وكالة الأناضول في 23/4/2015).

ولو أرادت القيادة التركية أن تكون الوريث الحقيقي للعثمانيين لتخلّت عن مطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي الذي كانت أقوى دُوَلِهِ في حالة حرب مع العثمانيين، ومن ثم لأدارت ظهرها لأمريكا بدل أن تحقق مصلحتها في اختراق الاتحاد الأوروبي.

ولكانت القيادة التركية قد فرضت على المنابر الدولية مناقشة عالمية لمسألة "الحق"، ومنطلقه الفكري. ومن ثم لنظرت تركيا للأمر على أنه صدام حضاري، لا يُردّ إلا بالهجوم على تاريخ الغرب البشع، ومنه التاريخ الأمريكي الذي أقام الدولة على جماجم الهنود الحمر بعدما أبادتهم "الحضارة الأمريكية" في عارٍ بشري لا يُنسى ومع ذلك لا أحد يتذكره اليوم! ولفضحت مذابح الإبادة الجماعية للمجموعات البشرية في أفريقيا على أيدي المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين وغيرهم في التنافس على المصالح الاستعمارية والخيرات الأفريقية! ولجرّمت بريطانيا مع فرنسا في ذكرى مذبحة-إلغاء الخلافة التي تتزامن مع هذه الأيام من شهر رجب.

* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين