الدكتور ماهر الجعبري

 عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير

تمتاز تحركات اوباما العالمية بأنها تركز على محاولات مد جسور التواصل مع العالم، وخصوصا تجاه الأمة الإسلامية، وتهتم بترميم صورة أمريكا التي اهترأت تحت وقع الدبابات الأمريكية وهي تجتاح البلدان تحت حجج واهية وزائفة، وتحت وقع أزيز الرصاص الذي يقتل النساء والأطفال في العراق وأفغانستان، وأنين المعتقلين في سجون أبو غريب وجوانتانامو. ويعمل اوباما على عدم استفزاز مشاعر المسلمين، وفتح الباب للتعامل المباشر مع "الإسلام المعتدل" أو بتعبير أدق (وإن كان متناقضا) "الإسلام العلماني" في تركيا ومن ثم في إيران.

 

وقف اوباما خطيبا في تركيا خلال زيارته التي اختتمها في 7/4/2009 يعلن أن أمريكا ليست في حرب مع الإسلام، وأن تركيا مهمة لأمريكا وللعالم لتجسير الهوة بين الغرب والعالم الإسلامي، وأن علاقته مع المسلمين لن تقتصر على مكافحة الإرهاب فحسب (أي أن الحرب على الإرهاب ستستمر)، وأنه يسعى للحوار، حتى يكاد يظن المتابع كأن السياسة الأمريكية قد تغيّرت وتحولت عن المصالح التي تحددها الرأسمالية نحو القيم الإنسانية.

لا يخفى على المتابع السياسي أن السياسة الأمريكية تقوم على أسس راسخة تحددها مؤسسات الحكم التي يشترك في صياغتها رجالات الحزبين: الجمهوري والديمقراطي، وهي ليست ارتجالية يتحكم بها شخص الحاكم وتتغير بتغيّر شخصه، وإن كانت أساليب الحاكم تتغير فإن تلك الأسس السياسية لا تتغير في نظام حكم يقوم على مبدأ رأسمالي ديمقراطي. وفي هذا المناخ السياسي لا تختلف إدارة اوباما عن إدارة بوش، ولن تختلف، وإن اختلفت ألوان الوجوه وأسماء الأشخاص.  في هذه المقالة أود تسليط الضوء على موضوع تلميع صورة أمريكا وارتباط ذلك بالحرب على الإرهاب، ومقارنة ذلك بين إدارتي بوش واوباما.

خلال إدارة بوش تصدّر مطلب تلميع صورة أمريكا العديد من التقارير والدراسات الإستراتيجية التي أعدتها مراكز الاستراتيجيات الأمريكية، منها مثلا ما أصدره مركز نيكسون في واشنطن: من مثل مقالات وتقارير الباحثة زينو باران التي تتحدث في كتاباتها (2004) عن الإسلام السياسي المنادي بعودة الخلافة على أنه "استطاع أن يضرب برجي الفكر الغربي -الرأسمالية والديمقراطية- مثلما استطاعت القاعدة أن تضرب برجي الاقتصاد في نيويورك" (أنظر مثلا مقالها بعنوان القتال في حرب الأفكار - Fighting the War of Ideas- في مجلة الشؤون الخارجية (Foreign Affairs . November / December 2005). وهي تحدثت عن ضرورة الإصلاح في إستراتيجية المواجهة مع الإسلام السياسي فقالت "يتوجب على الغرب أن يركّز أساسا على تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي يمكن للشعوب حينها أن ترى محاسن الرأسمالية الديمقراطية وتصبح أقل رغبة في مقاومتها". وقالت: "إن الناس في العديد من البلدان لم تعد ترى أمريكا كقوة عادلة وأخلاقية"، ومن ثم اقترحت أن تتجمّل أمريكا لإغراء المسلمين، بل إنها أوصت بالسعي لحل الدولتين، والذي يمكن أن يراه المسلمون كعدل، من أجل تغيير الانطباع عن عدم عدالة السياسية الأمريكية الخارجية.  وكانت إدارة بوش قد حاولت العمل على تحسين صورتها، حيث عينت مسئولة في إدارتها عن هذه الشؤون إلا أنها استقالت لعدم قدرتها على إنجاز تقدم في ظل أساليب إدارة بوش.

إذاً، فمحاولات مد الجسور وتحسين الصورة واجتذاب المسلمين، وإن كانت أكثر بروزا، لدى اوباما، إلا أنها امتداد لتوصيات ومحاولات سابقة.

وكانت تلك التقارير قد أوصت أن تساعد أمريكا على تعزيز عناصر الاعتدال ضمن المجتمعات الإسلامية، كإحدى الوسائل للقيام بإجراءات ضد انتشار الأدبيات المتطرفة على الإنترنت، وفتح القنوات الإعلامية أمام المعتدلين. وفتح المجال للجماعات الإسلامية التي تنشر التسامح والحوار الديني الداخلي (interfaith dialogue) بدل ترك الساحة للسيطرة عيها من قبل المتطرفين. وركزت على تعليم أرباب السياسة الأمريكية عن الإسلام كي لا يسيئوا لمشاعر المسلمين خلال اللقاءات والزيارات فيتسببوا باستفزاز المسلمين، وبيّنت أنه يتوجب على أمريكا أيضا دعم جهود التعليم للمسلمين المعتدلين الذين يتبنون وينشرون التعايش السلمي مع الأديان والثقافات الأخرى ويباركون القيم الديمقراطية والتطور العلمي ويعتبرون ذلك جزءا من تعاليم الإسلام.
ومن الواضح أن متابعة تحركات اوباما وخصوصا زيارته الأخيرة لتركيا، تندرج ضمن سياق هذه التوصيات التي صدرت خلال إدارة بوش، مما يؤكد أن سياسة الثاني لا يمكن أن تكون إلا امتدادا للأول وما كان في عهده من توجهات وتوصيات.
وخلال إدارة بوش كان الحديث صريحا عن صراع الأفكار بين الرأسمالية والإسلام السياسي، كما جاء في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي نشرها الموقع الالكتروني للبيت الأبيض على موقعه، مرفقة مع رسالة تغطية من الرئيس السابق بوش بتاريخ 16/3/2006 حيث ركّز بوش في تلك الرسالة على أن أمريكا في حالة "حرب أفكار"، وأن السلاح الأمريكي فيها هو ترويج "مبادئ الحرية والكرامة الإنسانية"، ويبين فيها أن أمريكا تتطلع لتشكيل العالم لا أن تتشكل بحسبه، وأن تؤثر في الأحداث بدل أن تكون تحت رحمتها.  وقد طرحت تلك الإستراتيجية عدة محاور منها تعزيز التحالفات من أجل هزيمة الإرهاب العالمي، والعمل لحل الصراعات الإقليمية، وتوسعة دائرة التطوير والتنمية من خلال فتح المجتمعات وبناء بنيتها التحتية نحو الديمقراطية، وتطوير اجندات للتعاون مع المراكز الرئيسية للقوة العالمية. 
وحرب الأفكار تلك كانت قد أبرزتها، وأوصت بخوضها العديد من التقارير الإستراتيجية الصادرة عن نفس المؤسسات التي أوصت بضرورة تلميع صورة أمريكا، ومنها مرة أخرى مقالات وتقارير باران التي كانت قد انتقدت قصر التفكير والتخطيط الأمريكي في حصر المواجهة في العمل العسكري وعدم الانتباه إلى حرب الأفكار، حيث قالت "من أجل كسب المعركة الفكرية، فإن أمريكا بحاجة إلى أن تتزيّن فتجذب المسلمين."

بكل تأكيد، كلا الرجلين يحمل مشروع الحرب على الإرهاب (كما أكّد اوباما أنه لن يقتصر على هذا المشروع)، واوباما لا زال يحتل العراق وأفغانستان ويقصف قبائل المسلمين في باكستان، بل إنه قد أبقى وزير الدفاع الأمريكي غيتس في منصبه مما يؤكد أن السياسة الحربية لاوباما تسير على نفس الخطى العسكرية السابقة التي ينفذها غيتس. 
وكما كان حل الدولتين بارزا في الرؤية الأمريكية لقضية الشرق الأوسط منذ منتصف القرن الماضي، والذي كان قد تمخض خلال اجتماع ممثليها الدبلوماسيين في الشرق الأوسط في استبنول سنة 1950، وكانت أمريكا قد شجعت هيئة الأمم المتحدة على تنفيذ مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، ومن ثم بلورت رؤيتها عام 1959 مع نهاية حكم آيزنهاور في حل الدولتين. واستمرت تلك الرؤية الأمريكية ثابتة على مر العقود، وهكذا ركّزت تلك التقارير الإستراتيجية على استثمار تلك الرؤية الراسخة من أجل تحسين صورة أمريكا. وهي نفس الرؤية التي طرحها بوش، وهي نفس الحل الذي يتبناه اوباما.

يحاول اوباما أن يأخذ بالتوصيات في مواجهة الصراع المحتدم مع شعوب الأمة المسلمين، وسيعمل على تحسين صورة أمريكا، وسيعمل على تغيير أساليب الإدارة السابقة، بينما هو مستمر في نفس السياسات، ومهما حاول من إصلاح للفساد الذي نشرته الرأسمالية في العالم، فإنه لا محالة سيفشل، لأن الفساد والدمار أكبر من اوباما ومن عطارته.
14/4/2009